حرب غزة... معضلة اليوم التالي إسرائيلياً

15 يناير 2024
متظاهرون ضد نتنياهو في تل أبيب، مساء السبت (ماركو لونغاري/فرانس برس)
+ الخط -

يعمل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على تأجيل نقاش تصورات إسرائيل لوضع غزة في اليوم التالي للحرب، بل استخدم صلاحياته لمنع هذا النقاش للمرة الثالثة في الأسابيع الأخيرة.

غالبية المحللين يرون أن منع نتنياهو نقاش اليوم التالي بعد حرب غزة، يأتي نتيجة مخاوفه من أن النقاش سيؤدي، آجلاً أم عاجلاً، إلى تفتيت التحالف الحكومي بسبب رفض أحزاب اليمين المتطرف أي تصور غير سيطرة إسرائيل على قطاع غزة كلّه، وعودة الاستيطان إلى هناك، كخطوة باتجاه فرض السيادة الإسرائيلية على كافة أراضي فلسطين التاريخية وحسم النقاش حول مستقبل الأراضي المحتلة، عبر إلغاء أي إمكانية للتوصل إلى حل سياسي.

في المقابل، فإن أي تصور إسرائيلي لا يدنو، ولو من بعيد، من طروحات الإدارة الأميركية بوجوب عودة السلطة الفلسطينية المحسنة، بصيغة أو بأخرى، إلى إدارة قطاع غزة والوصول في نهاية المطاف إلى حل إقامة الدولة الفلسطينية، سيزيد من التوتر والخلافات بين نتنياهو والإدارة الأميركية.

هذه المقاربات، على صحتها، تغفل معضلة إضافية قد تكون الأهم، وهي أن أي نقاش جدي حول مصير غزة في اليوم التالي للحرب يعني بالضرورة فتح نقاش حول حالة إسرائيل في اليوم التالي للحرب. عملية "طوفان الأقصى" غيّرت الحالة الأمنية الاستراتيجية لإسرائيل. هذا التغيير سيطاول أيضاً الجوانب الاقتصادية والدبلوماسية، والحالة السياسية الداخلية، وعلاقة الحكومة مع المؤسسة العسكرية الأمنية، وعلاقات المجموعات داخل إسرائيل، وعلاقة المواطن مع الدولة.

حرب غزة... ورطة دبلوماسية

استفادت إسرائيل منذ قيامها من رأي عام دولي مساند وداعم، خصوصاً في دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، نتيجة الشعور بالمسؤولية عن المحرقة النازية ونتيجة حسابات استراتيجية وعسكرية لدى الولايات المتحدة، واعتبارات سياسية داخلية. غالبية الدول الأوروبية تعاملت مع إسرائيل كجزء من المنظومة السياسية والثقافية الغربية الأوروبية، وبأنها دولة مظلومة تعيش في بيئة غير ديمقراطية عنيفة ومتخلفة في معاني عديدة.


"طوفان الأقصى" غيّرت الحالة الأمنية الاستراتيجية لإسرائيل

الحرب على غزة وما تقوم به إسرائيل من قتل ودمار، ضاربة بعرض الحائط القوانين الدولية وقوانين الحرب، واستمرار الاحتلال ورفض إسرائيل للحلول السلمية، حفزت الخروج بتظاهرات ضد سياسات إسرائيل وحربها على غزة بحدة لا سابق لها.

إسرائيل تحولت، إلى حد بعيد، إلى دولة منبوذة في الرأي العام الدولي، وباتت في خانة دولة احتلال تنفذ جرائم حرب. وهي صورة مختلفة تماماً عما عملت واجتهدت إسرائيل والمؤسسات الصهيونية في تسويقها قرابة قرن.

خضوع إسرائيل للمحاكمة في محكمة العدل الدولية بتهمة إبادة شعب، بغض النظر عن القرار النهائي للمحكمة، حَوَّل إسرائيل إلى متهمة رسمية بجرائم حرب وإبادة شعب، مع توثيق وتدعيم بقرائن وأدلة عديدة. إسرائيل تفهم إسقاطات ذلك تماماً، ولو حاولت إنكار ذلك واتهام جنوب أفريقيا، التي قدمت الشكوى، بالانحياز لحركة حماس والشعب الفلسطيني.

الصحافي الإسرائيلي نداف إيال عبّر عن ذلك بواسطة عنوان رئيسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، من أكثر الصحف الإسرائيلية انتشاراً، بقوله: "لا معنى لإنكار ذلك. كان يوماً قاسياً لدولة إسرائيل في لاهاي. أحد الأيام الأكثر قسوة، دبلوماسياً، منذ اندلاع الحرب. ولا معنى لإنكار هذا أيضاً: في مفهوم معيّن، إسرائيل خسرت بالفعل في هذه الوضعية، بمجرّد أن بدأت. حتى لو نجح أهارون باراك في إقناع باقي القضاة بعدم إصدار أمر مؤقت فالضرر وقع. بمجرّد عقد النقاش والاهتمام الدولي، وبمجرّد أن السؤال الذي يناقشه الإعلام الدولي الآن هو مشوّه: هل ارتكبت إسرائيل إبادة أم لا؟".

في اليوم التالي للحرب، ستواجه إسرائيل حالة دبلوماسية ودولية مختلفة عما عرفته في السابق. في هذه الحالة، لن تكون فقط مقاطعة للحكومة ورئيسها، كما كان الحال حين طرحت الحكومة الخطة لتقييد القضاء في العام الأخير، بل يمكن أن تتطور حالة من المقاطعة الشعبية لإسرائيل، تشمل مقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية، ومقاطعة مشاركتها في فعاليات دولية، رياضية وفنية وسياسية. ويمكن أن تتحول إسرائيل إلى وضع شبيه لحالة جنوب أفريقيا في نهاية حكم الأبارتهايد.

اليوم التالي للحرب... أزمة اقتصادية

عانت إسرائيل من تراجع الحالة الاقتصادية قبل بداية الحرب، ومن تقليص الاستثمارات الخارجية، وضعضعة مكانتها الاقتصادية العالمية وبوادر لتراجع تدريج الائتمان الدولي، نتيجة الخطة الحكومية لتقييد القضاء والاحتجاج السياسي ضدها، وموقف قطاع الأعمال المعارض للخطة.

من المتوقع، وفقاً لكافة التقارير والتقديرات الاقتصادية الإسرائيلية، أن تتراجع الحالة الاقتصادية بشكل جدي بعد الحرب، ودخول الاقتصاد الإسرائيلي حالة ركود، وارتفاع العجز المالي للحكومة بقرابة 7 في المائة من الناتج المحلي، وارتفاع البطالة وتراجع مستوى المعيشة، وتقليصات في ميزانية الدولة ورفع الضرائب.


إسرائيل تحولت، إلى حد بعيد، إلى دولة منبوذة في الرأي العام الدولي

تاريخياً، خرجت إسرائيل من أزماتها الاقتصادية بمساعدة ليست بسيطة من الخارج، على سبيل المثال لا الحصر أزمات أعوام 1982 و1992 و2003، وذلك عبر دعم مالي واقتصادي من الإدارة الأميركية ومن الجاليات اليهودية.

عمق الأزمة المتوقع، التي لا يعرف لغاية الآن سقفها الأقصى بسبب ارتباطها بمدة الحرب وإمكانية تطور جبهات أخرى وصعوبة توفير مساعدات اقتصادية ومالية من الإدارة الأميركية في عام انتخابات، قد يقلل من إمكانيات دعم ومساعدة الاقتصاد الإسرائيلي، لذلك فإن الخروج من الأزمة الاقتصادية بعد الحرب سيكون أصعب وأطول من السابق. ناهيك عن أن الحاجة لضخ ميزانيات ضخمة للجيش ولتقليص الميزانيات المعدّة للتنمية الاقتصادية، ستزيد من صعوبة العودة إلى النمو والازدهار الاقتصادي.

توسع التصدع والاحتجاج

داخلياً، يعني اليوم التالي لحرب غزة العودة إلى التصدع السياسي والاجتماعي وبشكل أقوى وأوسع، ليشمل النقاش حول مسؤولية ونتائج الإخفاق الكبير في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. نتنياهو لا يبدي أي علامات تشير إلى نيّته التنحي عن منصبه أو الاعتراف بمسؤوليته عما حدث، وبأن سياسته في الأعوام الأخيرة، خصوصاً منذ تشكيل الحكومة الأخيرة، أدت إلى إضعاف إسرائيل وتراجع قدراتها العسكرية وتماسكها الداخلي، الذي اعتبر تاريخياً مركّباً هاماً من مركبات الأمن القومي.

الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي مرشح للتوسع بعد الحرب وبوادره قائمة من الآن. خطوط التماس ستتمحور حول مطالب تحقيق الأمن والحفاظ على دولة إسرائيل، وستتداخل مع الصراع القائم حول مكانة السلطة القضائية وجوهر دولة إسرائيل، وحول مصير نتنياهو ودوره.

بوادر الاحتجاج والتصدع بدأت في الأسابيع الأخيرة عبر خروج تظاهرات، خلال حرب غزة، تدعو إلى إسقاط الحكومة والتوجه إلى انتخابات جديدة. كل هذا سيزيد من عدم الاستقرار، ومن الأزمة السياسية والاقتصادية، ومن تراجع مكانة إسرائيل الدولية، ومن الأزمة مع الإدارة الأميركية.

اليوم التالي للحرب... سؤال الاحتلال

بعد تجاهله إسرائيلياً في العقدين الأخيرين، ومحاولة تطبيع واقع الاحتلال، متوقع أن يعود في اليوم التالي للحرب سؤال الاحتلال ومصير الاستيطان والسيطرة على الشعب الفلسطيني. مساحة هذا النقاش تتعلق بمدى استبطان إسرائيل، مؤسسات أمنية وسياسية ومجتمعاً، أكاذيب وتضليل المؤسسة السياسية والأمنية على مدار عقود، وزيف الوعي الجماعي الذي تبلور، أنه بالإمكان الاستمرار بالاحتلال وتوسع الاستيطان والحصار من دون ثمن، عبر إدارة الصراع أو تقليصه، وأنه لا وجود لشعب فلسطيني يسعى إلى الحرية والاستقلال.


من المتوقع دخول الاقتصاد الإسرائيلي حالة ركود

هنا تمكن الإشارة إلى تصريح مختلف عن الأجواء الراهنة في إسرائيل لرئيس الشاباك الأسبق عامي أيالون، الذي قال إن ما يجب أن يترسخ في وجدان المجتمع الإسرائيلي، على عكس القناعات السابقة، هو "أن هناك شعباً فلسطينياً مستعداً للتضحية والموت أو القتل مقابل الحرية والاستقلال".

في اليوم التالي للحرب، ستعود القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ويعود نضال الشعب الفلسطيني ومطلبه بالحرية والاستقلال إلى لبّ النقاش والتصدع السياسي في إسرائيل. وهو أيضاً مرشح لأن يزيد من الأزمات السياسية الداخلية والاقتصادية ومن تراجع مكانة إسرائيل الدولية.

بعد مرور مائة يوم على الحرب، ما زالت مشاركة حزب "المعسكر الرسمي" في حكومة الحرب توفر حماية من التصدعات الداخلية والمساءلة الدولية، وانضباط النقاش السياسي داخل إسرائيل، وتسهّل على نتنياهو تأجيل النقاشات حول اليوم التالي لحرب غزة.

كافة مركّبات المنظومة السياسية تعي تماماً استحقاقات اليوم التالي للحرب إسرائيلياً وتحاول تجنب الخوض به في هذا التوقيت، وتعي أن تناقضات اليوم التالي يمكن أن تضعف تماسك المجتمع الإسرائيلي والوحدة الداخلية الحالية الناتجة عن حالة الطوارئ.

لذلك، فإن قرار نتنياهو تأجيل نقاشات مصير غزة والقضية الفلسطينية في اليوم التالي للحرب، بسكوت مركّبات التحالف الحكومي، لا ينبع فقط من خشيته من استحقاقات ذلك على واقع غزة، إنما أيضاً، وربما بالأساس كونه يتهرب من التعامل مع استحقاقات اليوم التالي على الحالة الإسرائيلية.