شيء واحد لن تستطيع أن تنتصر عليه إسرائيل، هو التاريخ بخطه الحتمي الذي لا يخطئ المآلات، والذي يسير بها إلى نهاياتها بغض النظر عن التوقيت والظروف التي ستقرر ذلك. ليست هذه نبوءة دينية، لكنها حقيقة سياسية مثبتة يعرفها الإسرائيليون قبل غيرهم.
مثال بسيط ليس أكثر، كان كل القلق الإسرائيلي والجهد الأميركي والانشغال الغربي بألا تتوسع الحرب في غزة إلى خارج نطاقها، ولذلك سيرت واشنطن حاملات الطائرات، وجهزت دول حليفة العدة لكل طارئ، على أمل أن تفرغ إسرائيل سريعاً من الحرب، وتحسم الموقف لصالحها وتطوي ملف غزة، بما يتيح بدء النقاش حول ما بعد الحرب.
لكن الحرب توسعت بمعنى آخر، إلى حيث لم يكن يدري الرئيس الأميركي جو بايدن ولا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إلى واشنطن نفسها، وإلى باريس ولندن ومدريد وكبرى العواصم الغربية.
أطاحت غزة بوزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان، ودفعت إلى تغيير وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي بديفيد كاميرون، وأحدثت انقساماً في الحكومة الإسبانية عندما خرجت وزيرة الشؤون الاجتماعية إيوني بيلارا بموقف يدعو إلى محاكمة نتنياهو. كما خلقت شرخاً واسعاً مجتمعياً واحتراباً بين أقطاب المجتمع السياسي في فرنسا.
وداخل هيكل الاتحاد الأوروبي نفسه، ظهر أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين الداعمة لإسرائيل ليست على وفاق في الموقف مع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي يتهم إسرائيل بقتل المدنيين ثم يعود ويتهم حماس باستخدام المدنيين كدروع بشرية في المستشفيات.
توسعت الحرب في غزة فعلياً، عندما غيرت مواضيع النقاش السياسي في الدول الغربية نفسها، وشدت انتباه الحكومات فيها وأجبرتها على التعاطي يومياً مع تطورات الوضع، بسبب تداعيات مباشرة، تمثلت في حالة لافتة من غليان الشارع الذي تشهده كبرى المدن في الدول الغربية، وهو ما فرض استحقاقات أمنية على الحكومات الغربية وجهداً سياسياً ومالياً للسيطرة على فورة غير مسبوقة للشارع ضد الجرائم الإسرائيلية. وتوسعت الحرب في غزة عندما خلقت كل هذا الانقسام الكبير داخل المجتمعات الغربية، والذي قد يتطور إلى صدام في أي وقت إذا وجد فتيلاً أو أضيفت إليه مواد خلافية أخرى (قضايا المهاجرين مثلاً).
وعززت الحرب الهوة بين مواقف الحكومات الغربية والشعوب الحية، كما هو الأمر في ألمانيا، وهذا أمر له انعكاسه على محطات انتخابية قادمة في هذه الدول، تكون فيها غزة والقضية الفلسطينية جزءا من حسابات الناخبين، خاصة مع بروز دور الجاليات العربية والإسلامية، وحيث انهارت دعامات الفكر الصهيوني الذي هيمن على العقل الغربي. وحدث تحول غير مسبوق دفع بالمجتمعات الغربية إلى إعادة طرح الأسئلة الصحيحة عن القضية الفلسطينية، والإفلات من الدعاية الإسرائيلية.
في كل الحالات، لن تنجو أوروبا والغرب من توسع حرب غزة، سياسياً وأخلاقياً على الأقل، وهذا أحد منجزات المواجهة القائمة مع المقاومة التي نجحت في إخراج القضية والحق الفلسطيني من دُرج النسيان.