وصلت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، هذا الأسبوع، إلى أخطر مراحلها حتى الآن، وسط تصعيد ميداني وعسكري واستراتيجي وسياسي، غير مسبوق، حيث تتوالى الأنباء من واشنطن، عن رغبة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل مغادرتها السلطة، قلب المعادلة الميدانية، وتمكين كييف من تحقيق خرق كبير على الأرض، تمهيداً لأي مفاوضات سياسية مقبلة مع موسكو. وعلى الرغم من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أول من أمس الثلاثاء، تعديل العقيدة النووية لبلاده، وخفض العتبة التي يسمح بها باستخدام الأسلحة النووية، إلا أن الكرملين، لن يذهب وفق تقديرات، إلى الزج بالسلاح النووي في حرب أوكرانيا قبل وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وأعلنت موسكو أمس، أن خط الاتصال الساخن مع واشنطن، مقطوع، فيما انتقلت المعركة الميدانية إلى تسخين الوضع في العاصمة الأوكرانية كييف، بشكل لافت، وهو ما قد يكون عنواناً للمرحلة القريبة المقبلة، في إطار الحرب التي عادت لتحتل صدارة الأحداث في العالم. أما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فكان يلخص حجم تعويل بلاده على الدعم الأميركي بالقول صراحة إن بلاده "ستُهزم" أمام الجيش الروسي إذا ما قطعت عنها الولايات المتحدة المساعدات العسكرية.
حرب أوكرانيا تنتظر ترامب
ونقلت وكالة رويترز، أمس، عن خمسة مصادر مطلعة على تفكير الكرملين، أن الرئيس فلاديمير بوتين منفتح على مناقشة اتفاق لإنهاء حرب أوكرانيا مع ترامب، لكنه يستبعد تقديم أي تنازلات كبيرة تتعلق بالأراضي ويتمسك بتخلي كييف عن طموحاتها الخاصة بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).
وتأتي عودة ترامب، الذي تعهد بإنهاء حرب أوكرانيا سريعاً، إلى البيت الأبيض، في وقت باتت فيه موسكو تسيطر على أراض في أوكرانيا بمساحة ولاية فرجينيا الأميركية (حوالي 111 ألف كيلومتر مربع)، وتتقدم بوتيرة هي الأسرع منذ الأيام الأولى للغزو في فبراير/شباط عام 2022. وقال المسؤولون الروس الخمسة الحاليون والسابقون، للوكالة، إن الكرملين قد يوافق بشكل عام على تجميد الصراع على طول الخطوط الأمامية، علماً أن الكرملين استبعد ذلك أمس. وقالت ثلاثة من المصادر، إنه قد يكون هناك مجال للتفاوض في حرب أوكرانيا بشأن التقسيم الدقيق لمناطق دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون في شرق أوكرانيا.
وبينما تقول موسكو إن هذه المناطق الأربع هي جزء لا يتجزأ من أراضيها وتحميها بمظلتها النووية، فإن قواتها تسيطر فعليا على ما يتراوح بين 70 إلى 80% من مساحتها، مع بقاء حوالي 26 ألف كيلومتر مربع تحت سيطرة القوات الأوكرانية، وفقاً لبيانات مفتوحة المصدر اطلعت عليها الوكالة. وفي المجمل، تسيطر روسيا على 18% من أوكرانيا بما في ذلك كامل شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014، و80% من دونباس، أي منطقتي دونيتسك ولوغانسك، وأكثر من 70% من منطقتي زابوريجيا وخيرسون. كما تسيطر على ما يقل قليلاً عن 3% من منطقة خاركيف وجزء من ميكولايف، فيما تسيطر أوكرانيا على حوالي 650 كيلومتراً مربعاً من منطقة كورسك الروسية.
وقال مسؤولان إن روسيا قد تكون منفتحة أيضاً على الانسحاب من مساحات صغيرة نسبياً من الأراضي التي تسيطر عليها في منطقتي خاركيف وميكولايف في شمال أوكرانيا وجنوبها. وكان بوتين قد شدّد خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، على أن أي اتفاق لوقف النار يجب أن يعكس "الحقائق" على الأرض لكنه أبدى تحفظه على هدنة قصيرة الأجل.
سيرغي ناريشكين: تعديل العتبة النووية يعني استحالة الهزيمة
وقال مصدران إن قرار بايدن السماح لأوكرانيا بإطلاق صواريخ أميركية بعيدة المدى من طراز أتاكمز على العمق الروسي، قد يعقد ويؤخر أي تسوية ويجعل المطالب الروسية أكثر تشدداً، وأضافا أنه إذا لم يتم الاتفاق على وقف النار، فإن روسيا ستواصل القتال. وبحسب المسؤولين الخمسة، فإن روسيا منفتحة فقط على مناقشة ضمانات أمنية لكييف، لافتين إلى أن من بين التنازلات الأخرى التي يمكن أن يضغط الكرملين لانتزاعها من كييف، هي أن توافق أوكرانيا على تقليص حجم قواتها المسلحة والالتزام بعدم فرض قيود على استخدام اللغة الروسية.
وأكدت موسكو، أمس، أن كييف استخدمت أول من أمس، هذه الصواريخ للمرة الأولى لقصف أراض روسية، وندّدت بالخطوة ووصفتها بأنها تصعيد كبير.
وعلى المقلب الأميركي، اعتبر مدير الاتصالات في مكتب ترامب، ستيفن تشيونغ، في تصريح لرويترز، أن الرئيس الأميركي المقبل "هو الشخص الوحيد القادر على جمع الجانبين من أجل التفاوض على السلام، والعمل على إنهاء الحرب ووقف القتال".
في غضون ذلك، تتواصل التسريبات الأميركية، حول قرارات تتخذها إدارة بايدن قبل مغادرتها، والتي قد ترى أنها مفصلية لتغيير دفّة المعركة، وتمكين كييف من الصمود، علماً أنها أوكرانيا أكدت أمس، أن الأسلحة الأميركية هي الوحيدة الكفيلة بعدم أخذها إلى الهزيمة.
ألغام مضادة للأفراد
وبعدما كشف الأحد الماضي، عن موافقة إدارة بايدن على السماح للجيش الأوكراني باستخدام نظام صواريخ أتاكمز بعيدة المدى لضرب العمق الروسي، يبدو أن هذه الإدارة وافقت أيضاً على إرسال ألغام مضادة للأفراد إلى أوكرانيا للمرة الأولى. ونقلت شبكة سي أن أن الأميركية الخبر، وقالت إنه يأتي "بعد أشهر من الضغوط الأوكرانية". ويمثل الإعلان عن الألغام المضادة للأفراد في أوكرانيا، خصوصاً مع بقاء أسابيع فقط على انتهاء إدارة بايدن، تغييراً مفاجئاً في السياسة التي كانت قائمة منذ فترة طويلة.
وأكد مسؤول أميركي كبير لوكالة فرانس برس أول من أمس، تزويد الولايات المتحدة أوكرانيا بألغام مضادّة للأفراد "غير دائمة"، أي مجهّزة بنظام ذاتي التدمير أو التعطيل، موضحاً أن واشنطن حصلت من كييف على ضمانات بأن هذه الألغام لن تستخدم إلا في أراضيها وحصرا في مناطق غير مأهولة. وهذه الألغام "غير دائمة" لأنها تصبح خاملة بعد فترة زمنية محدّدة، عندما تنفد طاقة بطاريتها.
وتتوقع واشنطن أن تستخدم كييف هذه الألغام المضادة للأفراد في حرب أوكرانيا لتعزيز الخطوط الدفاعية داخل الأراضي الأوكرانية ذات السيادة، وليس بما هي قدرة هجومية في روسيا، كما طلبت الولايات المتحدة ضمانات بأن أوكرانيا ستحاول الحد من المخاطر التي يتعرض لها المدنيون بسبب الألغام. علماً أنه منذ الأيام الأولى للحرب، زوّدت الولايات المتحدة أوكرانيا بألغام مضادة للدبابات لإضعاف التفوق العددي لروسيا في المركبات المدرعة، لكن حتى الآن، لم تزودها بألغام مضادة للأفراد بسبب مخاوف بشأن الخطر الدائم الذي قد تشكله. وكانت إدارة بايدن تعهدت في يونيو/تموز 2022، بالحد من استخدام الألغام المضادة للأفراد، وقال البيت الأبيض إن هناك "حاجة للحد من استخدام (الألغام المضادة للأفراد) في جميع أنحاء العالم"، ما يطرح تساؤلات حول الكمية منها التي ستقدمها لأوكرانيا، وما إذا كان هناك تسريع لإنتاج المزيد.
وفي الوقت الذي تستعر فيه حرب أوكرانيا مع دخول أنماط جديدة من التسليح والأنظمة القتالية إلى ساحة القتال، أكد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، أمس، أن بوتين أصدر تعليمات بتأمين جميع المنشآت الحيوية، بما فيها جسر القرم. وجاء تعليق بيسكوف رداً على تقارير عن احتمال عبور الجيش الأوكراني مضيق كيرتش وتنفيذ هجمات بصواريخ بعيدة المدى، ضد روسيا.
وفي معرض تعليقه على ما نشرته "رويترز"، أكد المتحدث باسم الكرملين أن بوتين قال مراراً إنه مستعد لإجراء مفاوضات بشأن أوكرانيا، ورأى أن خيارات "تجميد" الصراع غير مقبولة بالنسبة لروسيا و"لا يناسبنا"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن تحقيق أهداف العملية العسكرية الخاصة "أمر هام" لموسكو.
طلبت واشنطن من كييف ضمانات لاستخدام الألغام المضادة للأفراد
وفي إشارة إلى مدى تراجع العلاقات مع واشنطن، أشار الكرملين أمس، إلى أن الخط الساخن بين البلدين لنزع فتيل الأزمات ليس مستخدما حالياً. وما يسمى الخط الساخن بين الكرملين والبيت الأبيض تأسس في عام 1963 لتقليل احتمالات وقوع سوء التفاهم الذي أجج أزمة الصواريخ الكوبية في 1962 إذ يسمح بتواصل مباشر بين زعيمي البلدين. ورأى أن "الغرب يسعى إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وبالطبع يستخدمون حرب أوكرانيا أداة في أيديهم لتحقيق مبتغاهم".
إلى ذلك، حذّرت موسكو، أمس، من أنها سترد بعد استخدام الجيش الأوكراني للمرة الأولى الثلاثاء، الصواريخ الأميركية بعيدة المدى. ونقلت وكالة الإعلام الروسية عن مدير الاستخبارات سيرغي ناريشكين، قوله أمس، إن محاولات دول حلف شمال الأطلسي لتسهيل الضربات الصاروخية الأوكرانية داخل روسيا، لن تمر دون رد، لافتاً إلى أن تعديل بوتين للعقيدة النووية يعني أنه أصبح من المستحيل هزيمة روسيا. وكان مسؤول أوكراني كبير أكد أن ضربة أوكرانية استهدفت منطقة بريانسك الروسية الثلاثاء، استخدمت فيها الـ"أتاكمز". ورأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أول من أمس، أن ذلك يثبت أن الدول الغربية تريد التصعيد و"نحن نعتبر ذلك دخولاً في مرحلة جديدة نوعية من الحرب، وسنرد وفق ذلك". وأكد أن الصواريخ بعيدة المدى لم تطلق على بريانسك الحدودية من دون دعم تقني أميركي.
زيلينسكي: أوكرانيا ستُهزم إذا ما قطعت عنها الولايات المتحدة المساعدات العسكرية
من جهته، اعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن بلاده "ستُهزم" أمام الجيش الروسي إذا ما قطعت عنها الولايات المتحدة المساعدات العسكرية. وأضاف زيلينسكي في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز التلفزيونية الأميركية: "بالطبع سنستمر في القتال. لدينا إنتاجنا، لكنه ليس كافياً للانتصار، وأعتقد أنه ليس كافيا للبقاء على قيد الحياة"، معتبراً أن "أكثر ما يهم" هو "الوحدة" بين أوكرانيا والولايات المتحدة، ورأى أن ترامب يمكن أن يؤثر على بوتين لإنهاء الحرب "لأنه أقوى بكثير من بوتين"، معتبراً أن الرئيس الروسي "قد يكون راغباً، وينهي هذه الحرب، لكن الأمر يعتمد أيضاً وبدرجة أكبر على الولايات المتحدة. بوتين أضعف من الولايات المتحدة".
ميدانياً أمس، أعلنت الإدارة العسكرية للعاصمة الأوكرانية كييف، إن وحدات الدفاع الجوي عملت أمس على صد هجوم جوي روسي على المدينة صباحاً. كما أعلن الجيش الأوكراني، أن موقعاً للقيادة الروسية في بلدة غوبكين في منطقة بيلغورود الروسية على بعد نحو 168 كيلومترا من الحدود "تم ضربه بنجاح"، من دون أن يحدّد توقيت تنفيذ الهجوم ولا نوع السلاح المستخدم فيه، وما إذا كان بصواريخ بعيدة المدى. من جهتها، أعلنت روسيا أمس السيطرة على بلدة جديدة قرب مدينة كوراخوفيه في شرق أوكرانيا. وقال الجيش الروسي في بيان، إنه "على أثر هجوم حرّرت (القوات) بلدة إيلينكا" في منطقة دونيتسك.
من جهتها، أعلنت السفارة الأميركية في كييف، أمس، إغلاق أبوابها ليوم واحد، بسبب "مخاوف من هجمات جوية محتملة" على أوكرانيا، متحدثة عن معلومات تفيد باحتمال شنّ هجمات جوية واسعة النطاق على جميع أنحاء أوكرانيا. كما أوصت موظفيها بالتزام أماكنهم حفاظا على سلامتهم. كما أغلقت السفارتان اليونانية والإيطالية أبوابها في العاصمة الأوكرانية أمس.
وعلى صعيد المواقف الدولية المنددة بقرار بوتين تعديل العقيدة النووية، ذكر رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أول من أمس، أن "الخطاب غير المسؤول" الذي تستخدمه روسيا لن يردع دعم بلاده لأوكرانيا. وأشار ستارمر خلال قمة مجموعة العشرين في البرازيل، أيضاً إلى غياب بوتين عن القمة ووصفه بأنه "المسبب لمنفاه الخاص" عن الاجتماع. أما حول ما إذا كان البريطانيون يتعين أن يستعدوا لحرب نووية، فقال: "إنه خطاب غير مسؤول يأتي من روسيا ولن يردع دعمنا لأوكرانيا". وأضاف "إننا الآن في اليوم الألف من الصراع، أي 1000 يوم من العدوان الروسي و1000 يوم من التضحيات في أوكرانيا".
(فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس، الأناضول)