فجر العدوان على غزّة كلّ التابوهات القانونية والحقوقية، التي كرسها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية على اعتبارها الأساطير المؤسسة لحقوق وحريات الشعوب، كانت تلك المواثيق والعهود والاتّفاقيات الدولية بمثابة طوق نجاةٍ لكلّ الحالمين بتحقيق العدل والمساواة والحقّ، لكن مع الأسف أماطت غزّة الصغيرة اللثام عن خداع القوانين والمجتمع الدولي، وكلّ العهود والاتّفاقيات الدولية الحقوقية، وكشفت هشاشة الأمم المتّحدة وقراراتها، وكلّ المؤسسات الدولية التي لم تستجب لصراخ أهل فلسطين، ولا للشعوب المناصرة والداعمة لحقوق الفلسطينيين في كلّ مكانٍ، والتي انتفضت في سابقةٍ هي الأولى من نوعها خلال الأربعين عامًا الماضية، لوقف الإبادة الجماعية في غزّة.
اجتمعت كلّ القيادات السياسية في أوروبا وأميركا لدعم حكومة دولة الاحتلال، وإطلاق يدها لارتكاب المجازر الجماعية في قطاع غزّة، تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، ضاربين عرض الحائط بكلّ الاتّفاقيات الدولية، خاصّةً اتّفاقيات جنيف الأربع، التي تنظم حالة الحرب بين الأطراف المتنازعة، ودون أن تلتفت إلى شعوبها الداعية لوقف الإبادة الجماعية، التي تمارس على الفلسطينيين منذ خمسة أسابيع.
ما يحدث في غزّة، وحجم المجازر التي ترتكب كلّ دقيقةٍ، وقصف وتدمير المدارس، والمستشفيات، والأحياء، والإفراط في استخدام القوّة لا يمكن إلّا وصفه بجريمة إبادةٍ جماعيةٍ (جينوسايد) مكتملة العناصر والقصدية، بحسب الحقوقيين، لاستهدافها بالتحريض المعلن، والقتل المقصود، والتهجير الجماعي أكبر عددٍ ممكن من الفلسطينيين، وقضائها الممنهج على مقومات الحياة ومستلزماتها.
في الوقت نفسه؛ وبالتزامن مع العدوان على غزّة، يمارس ضدّ الفلسطينيين في القدس الشرقية، والضفّة الغربية المحتلة، التدمير الممنهج، والقصف اليومي على مخيّماتها، كما يستمر الاحتلال في ممارسة سياساتٍ تمييزيةٍ عنصريةٍ (أبارتايد)، تصنف في القانون الدولي كـ جرائم ضدّ الإنسانية، هذا بجانب إطلاق يد المستوطنين المسلّحين؛ المحميين من جيش الاحتلال، لممارسة انتهاكاتٍ يوميةٍ تصل إلى حدّ القتل، والتعذيب، والطرد، والسطو على الأراضي والممتلكات، وهو ما يعده القانون الدولي جرائم ضدّ الإنسانية أيضًا.
يجب على مكتب المدعي العامّ ألا يتردد في التحقيق في الجرائم الفردية في هذا الصدد، رغم انحيازه السياسي الواضح لدولة إسرائيل
الإبادة الجماعية وفق القانون الدولي تشمل كذلك كلّ قولٍ، أو إشارةٍ تشير وتحض على إبادة جماعةٍ ما، الفلسطينيين في الحالة الراهنة، لذا يحق للفلسطينيين مقاضاة جيش الاحتلال، وقياداته وسياسييه، وإعلاميه وكلّ هتافٍ يحرض على الإبادة الجماعية لهم، فكلّ تلك الانتهاكات تقع تحت طائلة اتّفاقية منع الإبادة الجماعية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي فرض حصارٍ كاملٍ على غزّة، وأعلن أيضًا أنّ "غزّة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل، وسوف نمحو كلّ شيءٍ". هذا إعلانٌ واضحٌ وصريحٌ للإبادة الجماعية، لا لبس فيه. إلى جانب تصريحاتٍ أخرى أدلى بها صناع القرار الإسرائيليون، والتي تجرد الفلسطينيين صراحة من إنسانيتهم، من خلال وصفهم ب "الحيوانات البشرية"، والدعوة إلى تدمير الفلسطينيين، وخاصّةً في قطاع غزّة.
كما طالب أحد البرلمانيين الإسرائيليين في الآونة الأخيرة الحكومة صراحةً بتنفيذ نكبةٍ أخرى ضدّ الفلسطينيين في غزّة وأماكن أخرى، "التي ستطغى على نكبة عام 1948″، وفق طلبه. كذلك حرض أحد الصحفيين في إسرائيل على تحويل غزّة إلى مسلخٍ. بجانب اللافتات على الطرق الإسرائيلية التي تحمل شعاراتٍ تطالب بالتدمير الشامل لغزّة، وجعلها خاليةً من السكان. كما أيد بعض السياسيين والإعلاميين والممثلين في أوروبا وأميركا علنًا التدمير الواسع النطاق لغزّة، دون أيّ اعتبارٍ لحياة الإنسان، أو كرامته، أو قواعد الحرب، أو القانون الدولي.
العدوان على غزّة اليوم، ليس رد فعلٍ على ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولا هو دفاعٌ عن النفس، كما تدعي إسرائيل، والعالم الغربي، بل هو الخطاب السائد في إسرائيل، إنّها ذهنية المستعمر الاستيطاني، فقبل حوالي تسعة أشهرٍ، دعا وزير المالية والدفاع الإسرائيلي علنًا إلى محو قرية حوارة بأكملها، الواقعة في نابلس، وفي هذا أيضًا دعوةٌ صريحةٌ للإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين. بل حرصت إسرائيل منذ بدايتها على اتهام الفلسطينيين بالعنف، والهمجية، والإرهاب، والإجرام لتبرير القضاء عليهم، ومحوهم فعليًا، بل يمكن القول إنّ الأيديولوجية الصهيونية منذ اللحظة التي ادعت فيها أن "فلسطين فارغةٌ"، وأن "هناك أرضٌ بلا شعبٍ، لشعبٍ بلا أرض" كرست فعليًا مشروعية جريمتها بمحو وإزالة الوجود الفلسطيني.
أثار العدوان على غزّة الجدل حول ما تقوم به إسرائيل كدولة احتلالٍ، هل هو إبادةٌ جماعيةٌ ينطبق عليه القانون الدولي، أما لا؟ لكن يتفق الكثير من الحقوقيين الدوليين والفلسطينيين بأنه وبموجب اتّفاقية منع الإبادة الجماعية، وغيرها من صكوك القانون الدولي ذات الصلة، يجب وضع حدٌّ لارتكاب الانتهاكات الجسيمة، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية بحقّ الشعب الفلسطيني. كما يجب على الدول أن تمتنع نهائيًا؛ وإلى الأبد، عن مساعدة مثل هذه الأعمال غير القانونية، وأن تتعاون لوضع حدٍّ لها، بدلًا من الاحتفال بها، والتهليل لها. كما ورد في ندوة نظمتها منظّمة القانون من أجل فلسطين، في 19/10/2023 بعنوان "نوايا إسرائيل للإبادة الجماعية".
في هذه الندوة نوقش الجوهر القانوني لاتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والمادة 6 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ومدى انطباق ذلك على الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزّة، والسياق الفلسطيني الأوسع، والالتزامات الملقاة على عاتق الدولة الثالثة، وكلّ المجتمع الدولي لحماية السكان الفلسطينيين من الإبادة الجماعية.
وعليه أكد القانونيون الدوليون، أنه يقع على عاتق الدولة الثالثة أيضًا واجب ضمان امتناع إسرائيل عن المزيد من التحريض على الإبادة الجماعية، وعن ارتكاب الأعمال المحظورة ضمن المادة 2 من اتّفاقية الإبادة الجماعية. ويجب عليها التصرف وفقًا للمادة 8 من اتّفاقية الإبادة الجماعية، ودعوة أجهزة الأمم المتّحدة المختصة، وهي الجمعية العامّة ومجلس الأمن، وكذلك مكتب الأمم المتّحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع الإبادة الجماعية.
وذكروا أنه بموجب اتّفاقية الإبادة الجماعية، تمارس محكمة العدل الدولية اختصاصها القضائي على الجريمة. ويمكن للدول الأطراف في اتّفاقية الإبادة الجماعية رفع قضيةٍ أمام المحكمة، كما هو الحال في الإجراءات الجارية في غامبيا ضدّ ميانمار، وفي أوكرانيا ضدّ روسيا.
أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية، وفي ضوء الإجراءات الجارية بشأن الوضع في فلسطين، وبما أنّ جرائم الإبادة الجماعية تقع ضمن اختصاص المحكمة، وفقًا لنظام روما الأساسي، فيجب على مكتب المدعي العامّ ألا يتردد في التحقيق في الجرائم الفردية في هذا الصدد، رغم انحيازه السياسي الواضح لدولة إسرائيل.
أماطت غزّة الصغيرة اللثام عن خداع القوانين والمجتمع الدولي، وكلّ العهود والاتّفاقيات الدولية الحقوقية، وكشفت هشاشة الأمم المتّحدة وقراراتها
لم يغفل القانونيون التغييب المقصود والمتعمد للإرادة السياسية، بل والانتقائي للقوى الدولية، في كيفية تصرفها أو عدم تصرفها في هذه الحالة لاحترام وحماية حقوق الإنسان، والقانون الدولي والمساءلة. معتبرون أنّ ذلك لا يشكل خطرًا على الشعب الفلسطيني، وحقوقه ووجوده فحسب، بل أيضًا على مصداقية وفعالية القانون والنظام الدوليين.
تجدر الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يميز اتّفاقية الإبادة الجماعية أنّها لا تحاسب القادة الحكوميين فحسب، بل الأفراد أيضًا، وهو ما يميزها عن جميع المعاهدات الدولية الأخرى تقريبًا. لذا، يجب على الأفراد في إسرائيل وخارجها أن يدركوا أنّهم معرضون لخطر الملاحقة القضائية.