إذا كانت مقولة "عاش الملك مات الملك" تنطبق على السياسات والأحزاب، إلا أنها تنطبق في إسرائيل على منظومة الجيش وعقيدته القتالية تحديداً. وكانت رياح التغيير بدأت تلوح في الأفق، بعد حوالي الشهر تقريباً على إنهاء مهام الجنرال بني غانتس، كرئيس لأركان الجيش، وسط إصرار قيادات الجيش وأركانه المختلفة على تأكيد "الانتصار على حماس".
وبدأت تتكشف حقيقة المواقف والتقديرات داخل الجيش الإسرائيلي، عبر سلسلة من التقارير التي أخذت تنشرها الصحف الإسرائيلية أخيراً في شأن استخلاص العبر من حرب غزة الأخيرة، ونتائج المواجهة مع "حماس"، وتساءلت: "هل كانت حقاً انتصاراً لجيش الاحتلال أم أنها في أحسن الحالات تعادل بين أحد أقوى الجيوش وبين مقاومة تحارب من أرض محتلّة لا تملك إمدادات أو أي عمق استراتيجي، في ظلّ الحصار المصري المتمم للحصار الإسرائيلي؟".
وبعد أن كشفت الصحف قبل شهر تقريباً عن عقيدة رئيس الأركان الجديد غادي أيزنكوت، ورؤيته للجيش الإسرائيلي، باستحداث سلاح منفرد ومستقل لحرب "السايبر"، نشرت في الأسبوع الماضي تقارير عن تغيير في هيكلية الجيش وبنيانه، في اتجاه تقليص عدد وحدات قوات الاحتياط، وتحديد عمر خدمة الاحتياط بين الـ30 و35 عاماً، مع تسريح أعداد كبيرة من ضباط وجنود الاحتياط.
ويبدو أن توجهات أيزنكوت تتعدّى ذلك إلى محاولة العودة بالجيش النظامي إلى الحجم الذي كان عليه بعد الحرب الثانية على لبنان في العام 2006، عبر تسريح ألفي ضابط من الجيش النظامي حتى العام 2017، بالإضافة إلى تسريح ألفين آخرين أخيراً.
في السياق، ذكر المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، أن "الجيش الذي التزم في الأشهر الستة الأخيرة برواية الانتصار على غزة وحماس، باعتبار أن هذه الحرب كانت مثالية وقاتل فيها الجنود ببسالة، كما اعترضت القبة الحديدية الصواريخ الفلسطينية من غزة، إلا أن هذا الموقف بدأ بالتبدّل أخيراً". ويرى أن "الخطوات والأوامر الجديدة التي أصدرها أيزنكوت، ساهمت في تبدّل الرأي، كما أن قادة ألوية وأسلحة أخرى داخل الجيش عبّروا عن ذلك بصورة غير علنية".
اقرأ أيضاً: الجيش الإسرائيلي يسعى لتقليص إضافي في عدد جنوده النظاميين
ولفت المصدر إلى أنه "سيتم تكثيف التدريبات العسكرية المتواصلة للجيش، مع تحديد أولوية للميزانية الخاصة بالتدريبات على حساب أي شيء آخر، بما في ذلك عملية التزوّد بالأسلحة والوسائل القتالية ومنع أي وقف لهذه التدريبات".
وتُشكّل هذه التعليمات، عملياً، انقلاباً على الخط الذي سلكه غانتس العام الماضي، عندما أوقفت مختلف التدريبات في الجيش بفعل الأزمة التي سادت العلاقة بين وزارة الأمن ووزارة المالية حول كلفة التدريبات. وهو ما اضطر في حينه غانتس إلى تفضيل جانب التزود بالسلاح وإبرام الصفقات على تكثيف التدريبات العسكرية، إلى حدّ وقف هذه التدريبات، سواء للقوات النظامية أم لقوات الاحتياط، ما أوصل الجيش إلى حرب غزة من دون أن يكون كامل الجهوزية.
وشكّل هذا الأمر أحد أهم فصول الانتقاد التي وجهها مراقب الدولة الإسرائيلية، العام الماضي لعمل الجيش، وتجلّى ذلك على نحو خاص في تأكيده، أن "قلة التدريبات العسكرية الملائمة، كانت سبباً في بعض الأحيان، خلال الحرب على غزة، لاستدعاء الجنود لساحات القتال من دون أن يكونوا قد تلقّوا التدريبات اللازمة والكافية للقتال".
إلى ذلك، تكشف التقارير الصحافية في طيّاتها انتقادات بين السطور لإدارة غانتس للجيش، وسياسته في وقف التدريبات العسكرية خلال النصف الثاني من العام الماضي، وفي مسألة تقدير حقيقة وعمق خطر الأنفاق الفلسطينية، وتداعيات ما يُسمّى بـ"القتال تحت الأرض".
وفي هذا الصدد، ينقل هرئيل عن المصدر الأمني المذكور، قوله إن "الجيش الإسرائيلي يعترف اليوم بأن الحرب تحت الأرض نوع من القتال الذي لم ندرك كنهه وحقيقته كاملة قبل الحرب. وما تغيّر الآن، هو أن الجيش بات يدرك حقيقة حجم ومخاطر الحرب تحت الأرض، ويستوعب المعلومات الاستخبارية في هذا السياق، علماً بأن كامل هذه المعلومات توفرت له قبل الحرب".
ويكشف المصدر الأمني، للدلالة على استخلاص العبر، أن "الجيش الإسرائيلي بات يحوّل مئات ملايين الشواقل للجهد الحربي، المخصصة للحرب تحت الأرض. كما يعمل على مضاعفة عديد عناصر الجنود في وحدة يهلوم (الجوهرة)، في سلاح الهندسة، المختصة بحرب الأنفاق، فضلاً عن تشكيل مديرية، أو قسم خاص، يرأسه عقيد من سلاح البرية، هدفها تركيز كل الجهود وتنسيق عمل كافة الوحدات والفرق اللازمة لبلورة الحلول من أجل مواجهة الأنفاق.
ويدعو التقرير أيضاً إلى "استخلاص العبر في مسألة طول مدة الحرب، خصوصاً أن العدوان على غزة استمر 51 يوماً من دون أن يحرز الجيش انتصاراً عسكرياً فيها. ويعترف الجيش اليوم بأنه كانت هناك إخفاقات، وقصورٌ في إدارة اقتصاد الحرب، تمثل في تبذير الموارد بشكل كبير دون توجيهها نحو هدف محدد".
لكن أبرز العبر والتغييرات التي يشهدها الجيش الإسرائيلي هذه المرة، وتحت القيادة الجديدة، تتمثل في العمل على وضع خطة عمل لسنوات عدة، وعدم تكرار مسألة العمل وفق خطة لسنة واحدة أو سنتين، كما كان سائداً في عهد غانتس.
وكان الاحتلال قد أهمل هذا النوع من الخطط في السنوات الخمس الماضية، كضرورة فرضتها أيضاً حالة عدم الاستقرار في المنطقة، من جهة والضرورات المتعلقة بإقرار ميزانيات الجيش ووزارة الأمن من جهة أخرى.
مع العلم بأن جيش الاحتلال يعمل منذ مطلع العام وفق ميزانية عشرية، بعد أن فشلت حكومة بنيامين نتنياهو السابقة، قبل حلها، في إقرار ميزانية الدولة، وبالتالي تركت الوزارة من دون ميزانية واضحة ومحددة. مع ذلك، فإن الميزانية العامة للجيش وحده، تصل إلى نحو 7.6 مليارات دولار من أصل 14.5 مليار دولار لوزارة الأمن ككل.
ويخلص هرئيل إلى القول إنه "من أجل ضمان إدخال وتطبيق كافة التغييرات في الجيش، مثل تقليص حجم القوات النظامية، وتقليص عدد جنود الاحتياط، ورفع نسبة وحجم التدريبات العسكرية، إلى جانب إقامة سلاح السايبر الجديد، سيكون أيزنكوت في حاجة إلى دعم من المستوى السياسي في نهاية المطاف. وكل ذلك يبقى متعلقاً الآن بالتقرير الذي تعده لجنة الجنرال المتقاعد هرئيل لوكر، حول ميزانية وزارة الأمن الإسرائيلية، والذي يفترض أن يقدم للحكومة الإسرائيلية الجديدة بعد تشكيلها".
اقرأ أيضاً: عقيدة أيزنكوت: "السايبر" سلاح جديد للجيش الإسرائيلي