يبدأ الرئيس الأميركي جو بايدن يوم غد الأربعاء، جولة أوروبية متميزة بكل المقاييس. هي الأولى في رئاسته والأطول والأكثر تنوعاً في الزيارات الرئاسية. وتشمل الزيارة أربع محطات بمستوى القمة موزعة على أسبوع، من اجتماع الدول الصناعية السبع في بريطانيا، إلى لقائه مع دول حلف "الناتو" ثم مع الاتحاد الأوروبي، وأخيراً القمة الأهم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف يوم 16 الجاري. نادراً ما جمعت زيارة رئاسية هذا الحشد من اللقاءات من هذا العيار. بنود جدول أعمالها غير الاعتيادية تشكل أول امتحان لشعاره أن "أميركا عادت" إلى موقع القيادة الدولية.
مستشاره لشؤون الأمن القومي جيك سوليفان تحدث الإثنين عن الخطوط العريضة لبرنامج الزيارة بلغة متفائلة، على قاعدة أن الرئيس يقوم بها من "موقع القوة"، ومن منطلق البرهنة أنه "إذا كان باستطاعتنا ترجمة أجندتنا، فإن الرسالة ستكون قوية، وأن بإمكاننا قيادة الديمقراطيات في العالم"، كما قال.
لكن في ضوء المعطيات الراهنة، هذه الفرضية مبالغ فيها. فمثل هذه القيادة لا تستقيم في لحظة خلل كبير تعاني منه الديمقراطية الأميركية نفسها التي دخلت بعد هجمة 6 يناير/كانون الثاني على الكونغرس، دائرة "الخطر الوجودي"، بتعبير النائبة الجمهورية ليز تشيني المعارضة للرئيس السابق دونالد ترامب والتي تركته. وهو خلل ما زال يتفاقم ويساهم في عرقلة أجندة بايدن المحلية، كما في زيادة الإرباك في سياسته الخارجية غير المتماسكة أصلاً. وعليه، صار من الصعب على الرئيس أن يفرض على الآخرين في الخارج، خصوصاً على بوتين، أخذ خطابه على محمل الجدّ.
في الشق الداخلي، تراجع وهج رئاسته نسبياً بعد الزخم الذي كسبه في الأشهر الثلاثة الأولى، على أثر نجاح إدارته في حملة التلقيح ضد كورونا، وبداية الخروج من نفقها المظلم الطويل. حتى هذا النجاح بدأ يتراجع مع الهبوط المتزايد في عدد الأميركيين المقبلين على التطعيم. ومشكلة الرئيس هنا من داخل بيته الديمقراطي في مجلس الشيوخ، الذي ترجح فيه كفة حزبه بصوت واحد فقط. لكن هذا الصوت للسناتور جو مانشين، يقف عملياً مع الجمهوريين، وبما جمّد أهم مشاريع وبرامج بايدن التي يتوقف عليها مصير رئاسته، ويهدد فشله في إقرارها، حزبه بخسارة انتخابات الكونغرس بعد أقل من سنة ونصف السنة. والأهم أنه كشف عن عجزه وعدم قدرته حتى الآن على احتواء تمرد صغير لكنه فاصل في حزبه، خصوصاً أن حيثياته أقرب إلى التواطؤ، وهذا فشل لا بدّ من أن يرافقه في زيارته الاوروبية، وما ينطوي عليه من تأثير على نظرة وتعامل الحلفاء والخصوم مع مثل هذه " العودة " الأميركية المشوشة إلى الساحة الدولية، خصوصاً أن ما يحمله الرئيس معه حسب كلام سوليفان، يبقى تحت عناوين ضبابية، تدور حول استكمال عملية ترميم علاقات التحالف، وإزالة آثارها الترامبية، إضافة إلى مفاتحة الخصوم مثل بوتين "وجهاً لوجه وبلغة حازمة"، بضرورة وقف الهجمات السيبرانية التي يقول الأميركيون إنها انطلقت من روسيا، واستهدفت صناعات أميركية، نفطية وغذائية وصحية وغيرها، أربكت الأسواق في الآونة الأخيرة.
كما عرّج المستشار على مسائل "الدفاع المشترك مع الحلفاء مع تعزيز وحدة الموقف" والاهتمام بقضايا "الاستقرار الاستراتيجي... والتحديات السيبرانية والروسية والصينية "، إلى جانب التباحث بمواضيع أخرى تتراوح بين "كورونا، وتمويل البنية التحتية في العالم (لمواجهة الصين في هذا المجال)، وقضايا التجارة الدولية، وتطور التكنولوجيا".
الشرق الأوسط بقي عموماً خارج العرض، باستثناء المرور على سيرة سورية، من خلال الإشارة إلى الاجتماع المقرّر بين بايدن ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، كما مرّ سوليفان بسرعة على الملف الأفغاني، مشيراً إلى "محادثات بنّاءة"، أجرتها الادارة مع باكستان لناحية ضمان "أن لا تتحول أفغانستان مرة أخرى إلى مركز" للمتطرفين والعنف. والمتداول في واشنطن أن الادارة قلقة بشأن ما بعد الانسحاب، من غير أن يكون لديها تصوّر محدّد للوضع اللاحق، أو لكيفية التعاطي مع احتمالاته المتفجرة.
بقية قضايا المنطقة لم يأتِ سوليفان على ذكرها، على الرغم من أن بعضها لا بد من أن يكون على جدول أعمال قمة أو اكثر خلال الزيارة، وتحديداً خلال الاجتماع مع بوتين، الذي تبدو الادارة أنها حريصة في آخر المطاف على صياغة علاقة معه تجمع بين الخصومة والتعاون، بحيث "نقوم بتحديد خلافاتنا، والبحث عن نواحي تعاوننا" حسب سوليفان. كلام تعتبر أوساط اميركية مختلفة أنه يعكس "سذاجة" في فهم القيادة الروسية. وهو يعكس نوعاً من التراجع عن لغة التصعيد التي تحدث بها بايدن قبل حوالي شهرين عندما وصف بوتين بأنه "قاتل". كما أنه موجه في جانب منه إلى الكونغرس لتبريد أجوائه الساخنة تجاه الكرملين. فالإدارة لا تقوى على فتح جبهتين روسية وصينية في آن، في حين تعطي الأولوية للثانية. وفي ذلك استرشاد ولو على نحو آخر، بمذهب نيكسون – كيسنجر الذي عمل على تحييد بكين من خلال فتح الباب معها من أجل التفرغ لمواجهة موسكو في الحرب الباردة. الآن المعادلة معكوسة، وقد لا يتراجع بوتين المتهم بالتدخل واعتماد سياسة إحداث المزيد من التآكل في الوضع الأميركي الموغل أكثر فأكثر في عملية التناحر الداخلي.