جورج حبش يتحدّث عن البواكير والرفاق: أيلول في الأردن والخلاف على العمليات الخارجية (6)

13 أكتوبر 2024
حبش بين مها أبو خليل وآخرين هاجموا طائرة عال إسرائيلية بعد إطلاق سراحهم (17/8/1970/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تأسيس الحركة والجبهة: يركز الحوار على تأسيس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مع تسليط الضوء على الشخصيات المؤسسة مثل جورج حبش ووديع حداد، وعملياتهم السياسية والعسكرية، بما في ذلك عمليات خطف الطائرات والانشقاقات اليسارية بين 1968 و1972.

- الخلافات والتحديات التنظيمية: يناقش الحوار الخلافات بين وديع حداد وقيادة الجبهة وتأثيرها على القرارات، بالإضافة إلى التحديات التنظيمية بعد الانشقاقات، ودور جورج حبش في محاولة توحيد الصفوف.

- الأزمات المالية والسياسية: يوضح الحوار الأزمات المالية وتأثيرها على الجبهة، التوترات مع النظام الأردني، والتحولات الأيديولوجية نحو الماركسية وتأثيرها على التماسك الداخلي.

هذا الحوار وثيقة مهمة في تجربة جورج حبش ورفاقه الأوائل الذين أسسوا حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أنجزه في الجزائر سنة 1989 شريف الحسيني وسائدة الأسمر (حكمت نصّار). يتعلّق، في جزء كبير منه، بالقيادي المؤسس في الجبهة وديع حدّاد وخلافه معها ومع حبش. ويتضمن تفصيلات مهمة عن البدايات التأسيسية لحركة القوميين العرب، وعن الرفاق الأوائل، أمثال هاني الهندي ووديع حدّاد وأحمد الخطيب وصالح شبل وحامد الجبوري ومحسن إبراهيم وأحمد اليماني. كما يحتوي معلومات شائقة عن مرحلة النضال السياسي والعسكري، ولا سيّما عمليات خطف الطائرات التي برع وديع حدّاد في تخطيطها وتنفيذها، علاوة على الانشقاقات اليسارية التي خلخلت تنظيم الجبهة الشعبية بين 1968 و1972. وقد انتثلَ الزميل صقر أبو فخر هذا الحوار المطوّل، والذي لم ينشر من قبل، من أوراقه الفلسطينية وحقّقه ووضع حواشيه وقدّم له. تنشر "العربي الجديد" حلقاتٍ منه، قبيل صدوره قريباً في كتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفيما يلي الحلقة السادسة من الحوار.

                                                    *************

شريف: عدتم إلى الأحراج [أحراج جرش وعجلون في شمال الأردن]، وكان ثمة إلحاح من القيادة على ذهاب وديع إلى الأردن، وكذلك على نقل الإعلام إلى عمّان، وكذلك التنظيم الخارجي والاتصال. وبسام [أبو شريف] عندما ذهب إلى الأردن قبل أيلول ذهب على هذا الأساس، أي على أساس نقل الإعلام والتنظيم الخارجي. وفي تلك المرحلة لم يكن هناك تفكير في إحداث محطة رديفة في بيروت.
الحكيم: حسناً.
شريف: في تلك الفترة أصبح موضوع العمليات الخارجية يستنزف معظم وقت وديع؛ من عملية زيوريخ إلى عملية الأشبال ثم عملية ليلى [خالد] وسليم [عيساوي] في أوروبا، حتى عملية مطار الثورة في 1970. كيف كان اتخاذ القرارت الخاصة بالعمليات تُبحث وتُقر؟ هل كانت الأفكار تأتي من اللجنة في لبنان وتُقر في عمان؟ أم ماذا؟
الحكيم: لم تكن هناك، بعد انشقاق الجبهة الديمقراطية، اجتهادات في شأن العمليات الخارجية من حيث المبدأ. لكن ما أذكره تبعاً للحساسية الأمنية في هذه الموضوعات أنه كان هناك اتفاق على أن يُعلِمَني وديع بالعمليات التي يفكر فيها من دون أن أتدخّل في التفصيلات. وكان عليّ حصراً أن أحصد، أميناً عامّاً للجبهة، مردودها السياسي، على أن تبقى العمليات موجّهة أساساً نحو أهداف إسرائيلية وصهيونية وإمبريالية. وكان تنفيذ العمليات يُبحث في إطار ضيّق محصور بين وديع وبيني، وربّما معنا أبو محمود. وهذا الكلام من الذاكرة، ولست متأكّداً منه تماماً. ولم يكن خطّ العمليات الخارجية موضع خلافات في الجبهة. ربمّا وقفت اللجنة السياسية، التي هي قيادة الجبهة، أمام الوسائل التي تضمن لنا أن يكون المردود السياسي لمصلحة الثورة ولمصلحة الجبهة. وقد اتفقنا على عدم إشغال القيادة بالتفصيلات، التي تُركت لوديع كي يدرسها مع أبو محمود ومعي. وهذا ما أتذكّره، وربما يفيدنا أبو محمود في هذه المسألة. وإذا كان جوابه يختلف عن جوابي، فأنا أتبنّى جوابه تلقائياً، لأن ذاكرته أفضل من ذاكرتي في هذا الشأن.

فدائيون أمام إحدى الطائرات المختطفة إلى الأردن، سبتمبر 1970
(Getty) فدائيون أمام إحدى الطائرات المختطفة إلى الأردن، سبتمبر 1970

شريف: عندما اشترينا امتياز مجلة"الهدف" أتذكر أن خلافاً نشب في هذا الموضوع على السعر، فقد اشتريناها بنحو 100 ألف ليرة لبنانية، وحدثت ضجّة في القواعد ولدى المقاتلين.
الحكيم: هل لديكما وثائق في هذا الموضوع؟ أنا أتذكر أننا اتخذنا قرار شراء "الهدف" في المستوى القيادي (1).
شريف: في بعض الرسائل تشير إلى عدم ضرورة شراء الامتياز، وتفضل استخدام جريدة وفيق الطيبي، الذي عرض علينا في تلك الفترة تخصيص صفحات من صحيفته لنا جبهةً. وجاءت رسالة منك تقول بعدم الشراء. ثم ظهرت فكرة استئجار مجلة إلى الأمام (2)، التي اشتراها فيما بعد أحمد جبريل. آنذاك كان وديع وغسّان والمجموعة يناقشون هذا الموضوع، ولم تكن لدينا الأموال اللازمة للشراء، لكن وديع اتخذ قرار شراء امتياز "الهدف" على عاتقه.
الحكيم: لا أتذكّر ذلك، وأؤيّد ما تقولانه في حالة واحدة: إذا كانت هناك وثائق في هذا الأمر.
شريف: أعتقد أن الرسائل تحتوي جانباً من ذلك.
سائدة: رسائل المركز في عمان ليست كلها مُرسلة منك. ربما يتلقّى غيرك الرسائل ويجيب عنها، ثم يطلعونك عليها.
شريف: أحياناً تأتي الرسائل من أبو محمود. وهناك رسائل منك ومن أبو محمود ومن أبو ماهر [اليماني].
سائدة: وأبو بسام [فايز قدورة].
شريف: في العام التالي، أي في عام 1970، كانت الجبهة قد بدأت تتجاوز آثار الانشقاق، وتثبَّتت نفسها قوةً أساسيةً في الساحة الأردنية، وهو ما يظهر في المواجهات مع السلطة الأردنية بالدرجة الأولى.

الحكيم: معركة فبراير/ شباط 1970 مثلاً.
شريف: شباط/فبراير وحزيران/يونيو 1970.
الحكيم: وأيلول/سبتمبر 1970.
شريف: ثم أيلول/ سبتمبر.
الحكيم: مع الفارق أننا كنا في معركتي شباط وحزيران القوة الصدامية الأولى. أما معركة أيلول فكانت هجمة أردنية على جميع فصائل المقاومة. يمكن أن تتذكّرا اجتماع قصر الحمّر (3)، عندما جمع الملك (حسين) جميع منظمات المقاومة، باستثناء الجبهة الشعبية التي لم تحضر، وصدر بيان يقول إن ما جرى كان قتالاً بين إخوة، وسننتهي من هذا الموضوع. وكان رأي الجبهة مخالفاً للبيان، وأعلن أن هناك تآمراً يقوم به الشريف ناصر [بن جميل، وهو خال الملك حسين]، ولا يمكن أن تهدأ الأمور إلا إذا أقيل الشريف ناصر من مناصبه. وقفنا ذلك الموقف، وسارت معنا قواعد المقاتلين من مختلف المنظمات، وخضنا المعركة واضطر الملك، بعد بيان قصر الحمّر، إلى أن يقيل الشريف ناصر. وهذا دليل على أن الجبهة تجاوزت الانشقاق وشقّت طريقها، وكادت تنافس فتح على القيادة في تلك الفترة لأسباب منها أن الجبهة لها جذور في الأردن، وتعرف ساحة الأردن (4) . وكذلك كان للموقف السياسي الذي اتخذته الجبهة من النظام الأردني في مقابل وجهة نظر فتح، التي كانت تقول بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، شأن مهم في الحوادث آنذاك. وكانت وجهة نظرنا تقول إن الرجعية العربية هي التي تتدخّل في شؤوننا، وواجبنا أن نفتح أعيننا ونأخذ الحذر ونتنبه لمؤامراتها. وهذا الموضوع امتدّ من فبراير إلى سبتمبر 1970، وكانت الجبهة الشعبية تقود حركة الجماهير السياسية في التصدّي للنظام الأردني. وكان ذلك التصدّي نابعاً من رؤية سياسية لطبيعة النظام ومعاداته للعمل الفدائي.

كان الاتفاق أن يُعلِمْني وديع بالعمليات التي يفكر فيها من دون أن أتدخّل في التفصيلات. وكان عليّ حصرًا أن أحصد مردودها السياسي

شريف: قبل أحداث يونيو/ حزيران 1970 أو بعدها مباشرة، جاء أبو عيسى إلى بيروت مصطحباً مجموعة من عملاء الاستخبارات الأردنية، الذين كانوا يهيئون الأجواء للصدام الذي وقع في سبتمبر/ أيلول 1970، وعقد مؤتمراً صحافياً عرض فيه اعترافات هؤلاء. كنتُ موجوداً في ذلك المؤتمر، وكذلك أبو عيسى وعلي حسن سلامة.
الحكيم: أعتقد أن ذلك حدث قبل يونيو/ حزيران 1970.

شريف: كان إصرار الجبهة في ذلك الوقت على أن التآمر موجود، والمشكلة لا تُحل بتنحية فلان أو علّان. وأتذكر قبل عام 1969 موضوع اللقاء مع قائد الجيش اللبناني العماد إميل البستاني الذي جرى بعد انتفاضة المخيّمات في لبنان. فقد ذهب وفد مؤلف من برهان [الدجاني] وحامد [سليم أبو سالم] ووديع.
سائدة: برهان أو نجيب؟ لأن نجيب [أبو حيدر] ذكر ذلك في إحدى مقابلاته أنه هو من اصطحب وديع إلى ذلك اللقاء.
شريف: برهان، ربما نجيب هو الذي رتب الموعد.
سائدة: إميل البستاني هو الذي أبلغ نجيب [أبو حيدر] أنه يريد أن يلتقي قيادة الجبهة.
شريف: آنذاك كانت حركة فتح قد بدأت تثبّت قواعدها في الجنوب، ثم جاءت أحداث المخيمات، إلى أن حُسمت الأمور في أواخر تلك السنة. وترتّب من ذلك اللقاء مشكلات في داخل الجبهة.
سائدة: نجيب أبو حيدر يقول إنكم أدنتم وديع لأنه اجتمع إلى إميل البستاني ومن معه، واعتبرتم ذلك خيانة.

الحكيم: خيانة؟ مستحيل.


سائدة: ربما كان القصد خيانة العمل التنظيمي.
الحكيم: كان لدى الرفيق أبو هاني وجهة نظر خاصة في شأن الوجود العسكري في لبنان، وكنت أنا والمركز في عمّان لدينا وجهة نظر مختلفة، مع أن ذلك لم يصل إلى الخلاف الحاد.

شريف: لا أعرف إذا كان هناك شيء في الرسائل عن هذه القصة. ما أتذكره هو أننا كنا ننظر إلى لبنان في تلك الفترة على أنه ساحة ترفد الأردن بالعناصر والأسلحة، ولم يكن تخطر في ذهن أي واحد في الجبهة فكرة إقامة قواعد في لبنان، لا قواعد ولا عمل عسكري.
الحكيم: ثم أكدنا مراراً أننا لا نريد أن نصبح جزءاً من الظاهرة العسكرية العلنية في لبنان. لكننا أسسنا مجموعة من القواعد العسكرية في منطقة العرقوب في الجنوب اللبناني التي انتقل إليها الرفاق المقاتلون، وأذكر، في مايو/ أيار 1970، استشهاد أحد كوادرنا من عائلة البرغوثي.

شريف: تحرير المخيمات في لبنان جرى في أواخر عام 1969، وظهرت المطالبة في صفوف الجبهة الشعبية بأن يصبح لدينا وجود عسكري في لبنان. لكن قبل هذه الفترة كان التركيز ينصبّ على الأردن. وحامد [سليم أبو سالم] يقول إننا كنا نجمع السلاح ونبعثه من لبنان إلى الأردن، إلى جانب السلاح الذي كان يُهرّب إلى غزّة من طريق البحر.
الحكيم: صحيح. لكنني ما عدت أذكر وجهة النظر التي تطالب بتأسيس ألوية قتالية للجبهة في لبنان، أَكان ذلك في المخيمات أم في القواعد. ولم يكن أبو هاني متحمّساً لهذا الموضوع.

شريف: وجهة نظره مسجلة في وثائق كثيرة لدينا، وكيف كان ينظر إلى العمل العسكري أو الوجود العسكري في لبنان. مهما يكن الأمر، ألم يكن هناك تسرّع في قرار الإدانة المتّخذ بحقّ أبو هاني؟
الحكيم: لم نعالج الموضوع بتسرّع، بل حاولنا فعلاً أن نتفادى تلك المشكلة (5). ثم تبلور قرار جماعي في الهيئة القيادية التي لم تكن تسيطر عليها أجواء المزايدة.

شريف: الهيئة القيادية التي اتخذت القرار كانت مؤلفة من جورج [حبش] وأبو محمود [هاني الهندي] وأبو علي [مصطفى الزبري] وأبو ماهر [اليماني]. وأنا أشعر أن هذا الإنسان ظُلم وظلمه رفاقه.
سائدة: لم يُعطَ حقّه.
شريف: نعم، لم يعطَ حقّه. والآن بعدما مضت فترة طويلة على غيابه، أصبح من الضروري أن يُعاد وضع الأمور في نصابها الطبيعي. ومناسبة كلامي هذا أننا نسمع من الشبان الجدد في الجبهة ممن لا يعرفون أبو هاني، أن لديهم صورة عنه تؤلم الواحد منا كثيراً، ولا بد أن تبادر الجبهة إلى عمل ما في هذا الموضوع.

الحكيم: الجبهة تحيي ذكراه وذكرى استشهاده في كل سنة.
شريف: المطلوب أكثر.
الحكيم: لا أتصور أننا يجب أن نتملق أو نقوم بعملية تمجيد للشهيد. يجب أن يُذكر كل ما هو إيجابي عنه، ومن حقّه أن يُذكر ذلك. ومن حقّ من يُستشهد أن يسجل التاريخ له دوره. لكنه ليس حيّاً الآن كي نبدأ عملية تقويم مآثر الشهيد، أي الإيجابيات والسلبيات. لا، هذا إنسان استشهد، وهو شهيد وبطل ووطني، أما تقويم دوره فهو أمر آخر.

كنا في معركتي شباط وحزيران القوة الصدامية الأولى. أما معركة أيلول فكانت هجمة أردنية على جميع فصائل المقاومة

شريف: بعد حوادث جرش والأحراج في سنة 1971، انتقل الثقل الأساسي للجبهة إلى بيروت، وانتقلت القيادة أيضاً؛ اللجان ومؤسسات الجبهة وغيرها. في تلك الفترة صارت للمجال الخارجي لجنته الخاصة، وهذا الوضع الجديد كان بدأ يتبلور منذ عام 1970. لكن في الفترة التي جاءت فيها القيادة إلى بيروت اختلف التفاعل بين وديع وقيادة الجبهة عمّا كان عليه سابقاً؛ إذ أصبحتم موجودين معه وجهاً لوجه ويومياً. وانعكست مشكلات الجبهة وأوضاعها على الجميع. سابقاً كان هو الشخص الأساس في لبنان، أما الآن فقد جاءت القيادة كلها، وترتبت منه واجبات ومسؤوليات جديدة، وأصبح المسؤول المالي علاوة على مهمّاته الأخرى.
الحكيم: أذكر أننا حين عقدنا اجتماع اللجنة المركزية في 5/11/1970، أن العلاقة الرفاقية مع وديع كانت وطيدة وحميمة جدّاً. وقال لي: يهمني أمرَان فقط، مسؤولية العمليات الخاصة وبعض الترتيبات والمالية. لكنني لا أذكر تلك الترتيبات. وكنا اتخذنا مثل هذا القرار في 5/11/1970. وعندما انتقلنا إلى بيروت في تلك الفترة كانت المالية في يد وديع.

فدائيون في شوارع عمان (Getty/17/9/1970)
فدائيون فلسطينيون في شوارع عمان (Getty/17/9/1970)

شريف: في تلك الفترة واجهنا أصعب أزمة مالية في الجبهة.
الحكيم: صحيح. وأذكر أن عيد الأضحى جاء ولم يكن لدينا أموال للمقاتلين. وسألت وديع هل سُدَّت الأبواب أمامنا؟ ثم وضعت قائمةً بأسماء أثرياء كي أتصل بهم لحلحلة تلك الأزمة. في تلك الفترة كان الموضوع المالي هو الضاغط علينا، ثم موضوع الأزمة في الجبهة. لنترك موضوع الجبهة الديمقراطية جانباً، إذ كانت الهزيمة التي حصلت في الأردن قد بدأت تؤثر في ظهور التناقضات التنظيمية في داخل الجبهة. وقد توفّرتُ على إعداد الوثيقة السياسية التي عُرضت في المؤتمر الثالث، وسمّيت "مهمّات المرحلة"، وكذلك الدراسة التنظيمية التي سمّيت "الأزمة التنظيمية"، وموضوع النظام الداخلي. كانت هناك ثلاث وثائق إذاً. وأنا تنكّبت مسؤولية وضع مسوّدة النظام الداخلي، وكان من المفترض عقد Conference في لبنان لإقرار النظام الداخلي، ولم يحصل ذلك. إذاً كانت هناك ثلاثة موضوعات مركزية انهمكت فيها المستويات القيادية الانهماك كلّه: التحليل السياسي، أي ما الذي حصل وكيف نُفسّر ما حصل، وهذا ما أنتج الوثيقة السياسية ("مهمات المرحلة")، ثم فهم التناقضات التنظيمية المتعلّقة بموضوعة التحوّل إلى الماركسية، ثم النظام الداخلي. وقد شُغلنا بهذه الوثائق في الوقت الذي راحت فيه التناقضات تبرز في صفوف الجبهة. كانت هناك مجموعة انشقّت لاحقاً هي "الجبهة الثورية"(6)، التي كانت لديها تحليلات تتعلّق بهزيمة الأردن، ولماذا حدثت، وكذلك أوضاع الجبهة، بينما كان لنا تحليل آخر مختلف. وقد أشرتُ إلى أن رفاقاً، بينهم أبو هاني، كانوا يطالبون بالحسم السريع والانتهاء من هذه الظاهرة المراهقة. وعلى هذا النحو المضطرب كانت أوضاع الجبهة حينذاك. وفي المناسبة، متى حصلت عملية عدن؟
شريف: أعتقد في فبراير/ شباط 1972، أي قبيل المؤتمر بفترة بسيطة
الحكيم: قبل بضعة أسابيع، لأن المؤتمر عُقد في مارس/آذار 1972.
شريف: في تلك الأشهر تحديداً، وكنا خارجين من هزيمة كبيرة في الأردن، وكانت الجبهة تحتاج إلى عملية إعادة بناء شاملة في وضع مالي "تعبان على الآخر". وكان وديع مع بعض رفاقه، يتّخذون موقفاً واحداً. لذلك لم تكن القضية هي قضية وديع وحده. وأعتقد أن القضية تطوّرت من قضية عدم انضباط قضيةً أكبر هي أزمة الجبهة وكيفية معالجتها. وفي تقديري لم يحصل أي اتفاق على هذا الموضوع. كان هناك حوار، لكن لم يتم التوصّل إلى فهم موحّد، وباتت هناك رؤية ذات زاويتَين مختلفتَين بل متناقضتَين.
الحكيم: بيني وبين وديع؟
شريف: بينك وبين وديع تحديداً.
الحكيم: صحيح. لكن لم أشعر شخصياً، في تلك الفترة، أن ذلك الخلاف الكبير سيهدد وحدة الجبهة أو يهدد علاقتنا الشخصية والرفاقية. وقد كان هناك اتفاق كامل بين أبو شهاب [أحمد فرحان] وأبو علي حميدي [حميدي العبد الله]، وبيني وبين وديع وأبو عيسى، على عقد مؤتمر بعد هذا الحدث الكبير، أي الخروج من الأردن. وكان أمام المؤتمر ثلاث وثائق. ولم تكن هناك خلافات حادّة بيني وبين وديع على الموضوع السياسي، أي على تحليل ما حصل في الأردن ومقدار المسؤولية التي يتحمّلها اليمين، والمسؤولية التي يتحمّلها اليسار. هنا لم يكن ثمة أي خلاف، وكذلك في موضوع النظام الداخلي. الخلاف انصبّ على أزمة الجبهة التنظيمية. وقد قدمتُ ورقةً تضمّنت التحوّل إلى الماركسية بشكل نظري عام. وفي أحد الفصول عالجتُ قابلية الجبهة للتحوّل. وهنا ظهرت الخلافات، ووقع انشقاق "الجبهة الثورية" غداة المؤتمر ليعكس نفسه على تلاحمنا في شأن الوقوف في وجه الانشقاق. ونشأت هنا بالتحديد بداية التوتّر بيني وبين وديع، أي بعد المؤتمر ومع ظهور نتائجه. المؤتمر [الثالث] أقرّ الخطوط العامة للدراسة التنظيمية التي قدّمتُها باسمي، واتفقنا، نظرياً، على تبنّي ما جاء في تلك الوثيقة(7). ومع ذلك بقيت ثمة تعارضات لم تُحل. وعندما تشكّلت اللجنة المركزية بعد المؤتمر عقدنا اجتماعات متواصلة بلغت نحو 106 ساعات كي نتوصّل إلى فهم أعمق وموحّد بقدر الإمكان للأزمة التنظيمية. لكن تلك الاجتماعات لم تُنهِ الخلافات.

جمع الملك حسين منظمات المقاومة، باستثناء الجبهة الشعبية، وصدر بيان يقول إن ما جرى قتال بين أخوة، وكان رأينا مخالفاً

شريف: في تلك الفترة، أي في 1972، بعد المؤتمر بفترة بسيطة، مرضتَ وتشكّلت اللجنة المركزية استناداً إلى الصلاحية التي منحك إياها المؤتمر الثالث. ولم يكن هناك قبول لهذه التشكيلة. أنا لم أحضر مؤتمر البدّاوي لأنني كنت مسؤولاً عن الوفد المالي في الخارج. لكن، بعدما عدت، وجدت الجوَّ غير طبيعي. صحيح أن انشقاق "الجبهة الثورية" كان له تأثير ما، وخرجت في أثنائه مجموعة من العناصر من الجبهة، غير أنني شعرت بأن الجو لم يختلف كثيراً عن السابق.
الحكيم: معك حق، لأننا وحّدنا موقفنا في إدانة الانشقاق. لكن ماذا بعد ذلك؟ كانت هناك موضوعات خلافية تتمحور حول القضايا السياسية مثل الموقف من النظام الأردني، وموضوع الوحدة الوطنية، والعمل العربي في ذلك الوقت، وحزب العمل الاشتراكي العربي (8). وبعد خروجنا من عمّان تحوّلت الخلافات السياسية خلافاتٍ تنظيميةً تتعلّق بفهمنا لتناقضات الجبهة وكيفية الخروج بوحدة جديدة أعمق، لنبني على أساسها الجبهة من جديد. وأول موضوع واجهنا في هذا الصدد هو أن المؤتمر منحني صلاحيات لتشكيل الهيئة القيادية، وأنا إنسان ديمقراطي، ولست فردياً أو ديكتاتورياً. ومع ذلك طلبت هذه الصلاحية لأنها الوسيلة الوحيدة لتشكيل هيئات قيادية. آنذاك كنت مصرّاً على موضوعين على الصعيد التنظيمي: الأول، أن ينتخبني المؤتمر أميناً عامّاً للجبهة، وأن ينصّ ذلك النظام الداخلي. والثاني، أن يُعطى الأمين العام، في ضوء الأوضاع الخاصة والاستثنائية التي تعيشها الجبهة، صلاحية تشكيل اللجنة المركزية والمكتب السياسي. وديع وأبو علي [مصطفى] وأبو عيسى وأبو نضال [المسلمي] وأبو ماهر [اليماني] وافقوا. وأعتقد أن شخصاً واحداً عارض انتخابي.


شريف: نادية؟
الحكيم: نعم، نادية [السلطي]، بينما وديع كان موافقاً وأبو ماهر أيضاً، والجميع بمن فيهم قيادة إقليم لبنان، لأن الجميع شعر بأننا إذا أردنا فعلاً الإبقاء على وحدة الجبهة فليس أمامنا غير هذا الطريق. وأنا طلبت هذه الصلاحيات لأنني كنت مضطراً، والجميع لم يوافق على منحي تلك الصلاحيات إلا لشعوره بأننا نريد الحفاظ على الجبهة، ولا سيما أنه كان هناك صراع حادّ بين فريقين. أنا أذكر أنني قلت لأبو ماهر: يا أبو ماهر، أشعر أني وحدي لأن هناك فريقاً وفريقاً آخر، وأنا لا آخذ بوجهة نظر هذا الفريق كليّاً ولا بوجهة نظر الفريق الآخر، ولذلك أردت تلك الصلاحيات. وفي ضوء ذلك عينتُ أعضاء اللجنة المركزية وأعضاء المكتب السياسي. الفريق الذي كان يمثّله أبو هاني لم يقبل النتائج. أعتقد أنه قبل بنتائج اللجنة المركزية وحدها. لكن كانت لديه اعتراضات على تشكيل الهيئة القيادية، وبعدما شُفيت كانت أول مهمّة لي هي معالجة هذا الإشكال. وفي أثناء ذلك عقدنا الاجتماعات التي أشرتَ إليها، التي استغرقت نحو 106 ساعات.


شريف: الفترة بين المؤتمر ومرضك كانت مشحونة جداً، ولم يكن ثمة أي رغبة في ممارسة أي مسؤولية، ولم يكن لدينا استعداد للمشاركة في أي هيئة قيادية. وعندما مرضتَ، أذكر أن أبو هاني جاء إلينا وقال: "ولا في شيء، كلنا بدنا نمشي وبدنا نعتبر حالنا قابلين بما كان يريده الحكيم". وبالفعل عندما رجعتَ بدأتم الاجتماعات.
الحكيم: دائماً كان هناك فريق يعتبر نفسه "أمّ الولد". ساحة لبنان لم تعتبر نفسها "أمّ الولد". وأتصوّر أن الرفاق المؤسسين هم الذين كانوا يعتبرون أنفسهم "أمّ الولد". وما أذكره في أثناء المرض حين كنت ألتقي أبو ماهر كان يقول لي: "لا تفكر بأي شيء، كل شيء ماشي تمام، ما رسمتُه سنمشي على أساسه". أنا غبت نحو ستّة أشهر بين المرض والنقاهة. وبعد النقاهة نصحني الأطباء بعدم الغرق في الاجتماعات. وخلال تسعة أشهر كان يقال لي دائماً اطمئن، نحن نرتّب أحوالنا.


شريف: بعد أحداث لبنان في العام 1973 هل اجتمعت اللجنة المركزية؟
الحكيم: بعد أحداث لبنان في سنة 1973(9)، أذكر أننا جمعنا اللجنة المركزية.
شريف: وكنتَ تركتَ لبنان بعد استشهاد غسان كنفاني بأسبوع.
الحكيم: نعم في تموز/ يوليو 1972، وبقيت في براغ فترة ثم انتقلت إلى موسكو في آب أو أيلول 1972، ثم رجعتُ. ونصحني الأطباء أن أمارس الحدّ الأدنى من المسؤوليات(10) .

(Getty) الأمير زيد بن شاكر يصافح رهائن 3 طائرات خطفتها الجبهة الشعبية إلى الأردن، 25/ 9/ 1970
(Getty) الأمير زيد بن شاكر يصافح رهائن 3 طائرات خطفتها الجبهة الشعبية إلى الأردن، 25/ 9/ 1970

شريف: لم تكن القيادة تجتمع قبل مرضك، لكن بعد مرضك بدأ التغير فوراً، وشرعت اللجنة المركزية في تنظيم الاجتماعات. أبو علي هو الذي تسلّم مسؤولية القيادة. وكان فريق أبو علي [مصطفى] يقول إن ما قام به الحكيم يجب أن نقبله.
الحكيم: ليس هكذا بالضبط.

بعد خروجنا من عمّان تحولت الخلافات السياسية إلى خلافات تنظيمية تتعلق بفهمنا تناقضات الجبهة وكيفية الخروج بوحدة جديدة أعمق

شريف: ثمة ملاحظات كان الواحد منا يسمعها آنذاك. تكلّمتَ عن أنكَ ديمقراطي، لكن الانطباع العام عنك في تلك الفترة أن الحكيم كان طرفاً في الخلافات، وهو ما أكّده اجتماع الـ26 [الاجتماع الذي حضره 26 من أعضاء اللجنة المركزية للجبهة]. وكنتَ لا تريد أن ينشق الطرف الثاني من الجبهة. وهذا الواقع الذي وجدتَ نفسك فيه ترك تأثيرات كثيرة على الجبهة، وهناك من احتسبك على الطرف الثاني.
الحكيم: صحيح. ولا شك أن الفريق المؤسس تصرف على أساس أنه هو "أمّ الولد"، لكن قد أصبح عندنا ليس ولداً واحداً، بل أولاد. فإذا سقط ولد أو بنت من هؤلاء، فقد كنت حريصاً على تمييز البنت الساقطة من بقية الأولاد. والتشابك الذي وقع في فترة جعل الصورة تشير إلى أن المؤسسين كانوا في جهة والأولاد في جهة أخرى. أنا كنت حريصاً على بذل الجهد لكسب بقية الأولاد، حتى لو كانت هناك بنت ساقطة أو ولد عاق. أبو هاني وبعض الرفاق كانوا يلعنون هؤلاء الأولاد الذين خلفناهم ويقولون: دعونا نتخلص منهم. وما دامت الصورة اتخذت هذا التناقض، وجدت نفسي حريصاً على كسب هؤلاء الأولاد الذين نتجوا عن تجربة سنتَين أو ثلاثة من عمر الجبهة، كما كنت أحرص على أن أكون الطرف الذي يُشعر الأولاد بأن هذه المؤسّسة حريصة على بقائهم. هذه هي قضية اجتماع الـ26. كانوا فريقَين فرضا نفسيهما علينا، كنت ألتقي هذا الفريق، ثم أعود لألتقي ذلك الفريق. يومذاك، في أثناء لقائي الفريق الآخر، أي قيادة الساحة اللبنانية، خرجت أقوال تتحدّث عن أن هذا اليسار، أو الظاهرة اليسارية، يريد كيت وكيت. فقلت لهؤلاء اليساريين: من قال إنكم تمثلون الظاهرة اليسارية؟ وعلى أي أساس تنطقون بلسان الظاهرة اليسارية؟ ... أنتم جعلتم من أنفسكم أوصياء على اليسار. لذلك دعونا نرَ الرفاق، ونتأكّد هل أنت يا فلان تمثّل وجهة نظر الرفاق كلّهم. وعلى هذا الأساس، قلت لهم: اجمعوا لي هؤلاء الشبّان الذين تتحدّثون بلسانهم. وكانت الأجواء مشحونةً بين الطرفَين، وكلُّ واحدٍ إذا لم يقف الحكيم إلى جانبه 100% لا يكون مرتاحاً؛ يجب أن يقف إلى جانبه 100%. أي إن هذا الفريق يريد أن أقف معه 100%، والفريق الآخر يريدني أن أقف معه 100%. وعندما اجتمعنا الـ26، كان ذلك المدخل للتمييز بين من يشعر بمسؤوليته إزاء وحدة الجبهة، وبين مَن يدفع الأمور نحو مشكلة تنظيمية. هناك أسماء من نوع صلاح صلاح وعمر قطيش وأبو الرائد [فايز محمد علي] وعدد من الأسماء الذين ظلّوا في الجبهة نتيجة هذه الخطوة أو ذاك التكتيك، الذي أراد التمييز بين من يعالج الموضوع من دون مسؤولية، وبين من يعالجه بمسؤولية. وقد استطعنا بالنفس الطويل أن نعيدهم إلى التفكير بمسؤولية عند معالجة تناقضات الجبهة. وأبرز هؤلاء وليد قدورة [أبو خالد]، وأنا أردت من ذلك اللقاء أن أقول لوليد قدورة: يحقّ لك أن تنطق بلسان جزء من الرفاق، لكن لا يحقّ لك أن تنطق بلسان اليسار أو الظاهرة اليسارية. صحيح أن بعض الرفاق المؤسسين اعتقدوا أن الحكيم اصطفّ مع الطرف الآخر، لكن الحقيقة أنني كنت أودّ جمع هذين الفريقَين لشعوري بأهمّية المحافظة على وحدة الجبهة وعلى تطوّرها. أبو ماهر كان أكثر من يحاول أن يعالج الأمور ضمن القاعدة التي أنا قريب منها. لذلك قلت له: يا أبو ماهر، أشعر بأنني وحدي. لماذا؟ لأن هناك فريقَين يتقاتلان بحدّة، وغير قادرَين على التفاهم إلا إذا قلت لهم: أنا معكم 100%. وديع وبقية الرفاق لم يعرفوا كيف كان ينظر كل فريق إليّ. كان يُنظر إليّ على أنني مع الفريق المقابل له. هذه كانت صورتي، وبالتالي مررت بفترة صعبة. ما كان هذا الفريق مرتاحاً لطريقة معالجتي المشكلات، ولا الفريق الآخر كان مرتاحاً. عدد بسيط من الكوادر كان قادراً على ضبط نفسه ولا يتصرّف بالحدّة والانفعالية. كانت هذه هي الطريقة التي يعالج فيها الحكيم الأمور. وبقينا على هذه الحال إلى أن شاعت الأجواء الجديدة [الايجابية] بعد سنتَين أو ثلاث من خلال الجهد الذي بُذِل بعد نشر الدراسة التنظيمية، وكذلك جرّاء العمل. ولعلّ الأحداث الداهمة ساعدت في عودة الالتحام إلى صفوف الجبهة كأحداث مايو/ أيار 1973 أو أحداث إبريل/ نيسان 1975. بعد أحداث مايو 1973، وقبل حرب أكتوبر (1973)، طرحنا موضوع البترول والثروات النفطية، وكيف سيكون النفط مدخلاً لإحداث تطورات اجتماعية واقتصادية في المنطقة العربية كلّها.

أعرف، من التجربة في حركة القوميين العرب وفي الجبهة الشعبية، أن النزعات الذاتية تظهر أحيانًا كأنها الأساس في التناقضات الداخلية

شريف: لم يكن الجانب النظري أو الأيديولوجي وحده السبب الرئيس في تأزّم الوضع الداخلي في الجبهة. وكان للعوامل الشخصية شأن أساس في التناقضات الداخلية. أذكر على سبيل المثال أننا تلقينا خبراً عن أن كلباً في إحدى القواعد العسكرية التابعة للجبهة الشعبية في لبنان أسموه وديع. لم يبقَ في رأسنا عقل، ولم نستطع أن نتصوّر إمكانية أن يتعايش أي إنسان منا مع ذلك الفريق. وأنا لا أتكلم الآن هنا على المستوى القيادي المؤسس، ونحن لم نكن مقتنعين بأن هؤلاء هم يسار فعلاً. في الجانب النظري لا أتّصور أحداً من كوادر الجبهة آنذاك كان يرفض موضوعة التحوّل إلى الماركسية، فقد كان هناك اتفاق عليها. لكن، في هذا السياق، يؤدّي الأشخاص دوراً كبيراً وأساسياً في قبول الأفكار أو رفضها. نحن لم نكن "قابضين" أبو علي حميدي [أبو علي إربد] ووليد قدّورة وغيرهما من ذلك الطرف.
الحكيم: تترافق التناقضات التنظيمية أحياناً مع النزعات الذاتية. وأعرف، من خلال التجربة في حركة القوميين العرب وفي الجبهة الشعبية، أن النزعات الذاتية تظهر أحياناً كأنها الأساس في التناقضات الداخلية. لكني أعتقد أن الموضوع يبدأ خلافاتٍ سياسيةً أو نظريةً أو تنظيميةً. وهذه الخلافات تتطوّر لتظهر معها القضايا الذاتية. وعلى هذا المنوال كان يُقال آنذاك إن الحكيم يميني وفلان يساري. ولو عدت إلى البيان الذي أصدرته الجبهة الديمقراطية في بداية الانشقاق، لتبين أن له ارتباطاً بتجربة حركة القوميين العرب أكثر من ارتباطه بتجربة الجبهة الشعبية. ومن المفيد مراجعته اليوم لإدراك مدى الذاتية في تقرير الموقف. الرفاق في ساحة لبنان في ذلك الوقت كانوا يطرحون أموراً جديدة غير الفكر القومي، التقليدي والشعارات القومية التي قامت على أساسها حركة القوميين العرب. وأنا قلت إن هذا الطرح جديد حقاً، لكنه غير جائز البتّة. خطّأتُهم في موضوعين. الأول، أن هذا الجديد يشذّ أحياناً ليصل إلى درجة المراهقة. والثاني، أن هؤلاء لم يأخذوا في الاعتبار خصوصية وديع حدّاد أو شهاب [أحمد الخطيب] أو هاني أو جورج، التي لا ترفض الجديد إذا طُرح بطريقة تنظيمية. وهذا الموقف التزمته منذ أيام حركة القوميين العرب، وكنت أطبقه على تناقضات الجبهة. ثم هل نستطيع أن نقول إن الجبهة الشعبية في عام 1968 هي حزب الطبقة العاملة؟ هل نستطيع أن نقول إن هذا التنظيم إذا تبنّى الماركسية - اللينينية يصبح تنظيماً ماركسيّاً - لينينيّاً؟ ... الجواب لا. لكن بعض الرفاق اعتقد أن الجبهة، ما دامت تبنّت في مؤتمر فبراير/ شباط 1968 الماركسية - اللينينية، فإن على قيادة الجبهة أن تمنع أي تعارضات أو تناقضات أو [اتجاهات وتكتلات مثل] يمين ويسار. وأنا لا أنكر أن التناقضات اتخذت طابعاً ذاتياً وحادّاً، لكن الطابع الذاتي هذا كان ناتجاً عن الخلافات في وجهات النظر في شأن موضوعة التحوّل إلى الاشتراكية، بدليل أننا تجاوزنا انشقاق "الجبهة الثورية"، وعدتُ من نقاهتي، وبدأت اللجنة المركزية تجتمع مجدّداً خوفاً من أن يحدث انشقاق آخر في الجبهة؛ فالكل كان متخوفاً من انشقاق جديد بعد انشقاق الجبهة الثورية(11). كان الآباء متخوفين، والأولاد أيضاً، فيما الأولاد العاهرون أو العاقّون شَرَدُوا، والأولاد الذين ظلّوا في الجبهة صاروا حريصين على ألا تحدث انشقاقات جديدة. وفي اجتماعات اللجنة المركزية في ذلك الوقت اختفى السباب، والشتائم، غير أن الخلافات في الآراء استمرّت، ولكن، على أساس غير ذاتي. كانت هناك فعلاً خلافات في الآراء دارت على إدراك متطلّبات التحوّل إلى الاشتراكية، وإدراك البرنامج الذي يجب أن يوضع لذلك التحوّل، أي إن الخلافات دارت بين رفاق غير موافقين على هذه المتطلّبات، أو غير موافقين على هذا البرنامج. ومن حقّي القول الآن، وأنتَ كنتَ في الطرف الآخر مع وديع، إني كنت حريصاً على وحدة الجبهة، ولم أنجرف قط في الموضوع الذاتي. ما كانت مشكلتي إذاً؟ ومن أي قاعدة كانت آرائي تنطلق؟ القاعدة هي أن هناك عملية تحوّل، وأن تبنّي الماركسية - اللينينية في المؤتمر الثاني لم يكن كافياً، فقد كان من المفترض أن يجد التحوّل ترجمات، نظرية وتنظيمية له. ومن صلب الترجمة التنظيمية كان النظام الداخلي بمبادئه المعروفة مثل مبدأ المركزية الديمقراطية، ومبدأ النقد والنقد الذاتي، ومبدأ القيادة الجماعية، ومبدأ الحفاظ على الوحدة الفكرية.

هوامش

(1) صدر العدد الأول من "الهدف" في 24/7/1969، وكان صاحب الامتياز الأصلي نقيب الصحافة اللبنانية زهير عسيران. 
(2) كان وفيق الطيبي يُصّدر جريدة "اليوم". أما مجلة "إلى الأمام" فكان الحزب الشيوعي اللبناني يملك امتيازها المسجّل باسم نسيب نمر. لكن الخلافات الداخلية في الحزب الشيوعي بين التيار الصيني (الماوي)  وتيار الاتحاد السوفياتي أدت إلى أن ينفرد نسيب نمر ببيعها من الجبهة الشعبية – القيادة العامة.
(3) بعد عودة الملك حسين من القاهرة في 23/8/1970 ومباحثاته مع الرئيس جمال عبد الناصر في شأن مبادرة روجرز، عقد اجتماعًا آخر في قصر الحُمّر مع قادة الجيش الأردني في 19/9/1970. وفي هذا الاجتماع جرى عرض المشكلات والاشتباكات المتمادية التي تحصل بين الفدائيين والجيش الأردني. وطلب الملك من الوزراء وقادة الجيش أن يوافقوا على حقه في طلب قوات أجنبية لحماية الأمن الوطني الأردني، وأعلن القادة العسكريون وفي نهاية الاجتماع ولاءهم له. واستعدادهم لتطهير العاصمة عمان من الفدائيين الذين لا يلتزمون القانون والنظام العام. وكان ذلك الاجتماع مقدمة للانفجار العسكري في أيلول/ سبتمبر 1970. 
(4) لم تكن الجبهة الشعبية قادرة على منافسة فتح على القيادة قط في تلك الفترة. فالجبهة التي أُسست في 11/12/1967 لم تلبث أن تعرضت في تشرين الأول/ أكتوبر 1968 لانشقاق مجموعة أحمد جبريل عنها، ثم تعرضت لانشقاق الجبهة الديمقراطية في 22/2/1969. وفي تلك الأثناء كان جورج حبش قد خرج من سجن الشيخ حسن في دمشق، وكان تنظيم الجبهة الشعبية في الضفة الغربية مضعضًا ومفككًا وبلا فاعلية جراء الاعتقالات الاسرائيلية وهروب كثير من أعضائه إلى عمان. والرجل الوحيد الذي جعل اسم الجبهة الشعبية PFLP يتردد في عواصم العالم هو وديع حداد بعملياته المثيرة في خطف الطائرات. والحقيقة أن منظمة الصاعقة كانت هي المنظمة الثانية من بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من حيث الفاعلية العسكرية والحضور التنظيمي في الأردن ولبنان، وظلت على تلك المكانة حتى سنة 1970 حين تغيرت قيادتها بعد الانقلاب الذي قاده الفريق حافظ الأسد ضد الثلاثي صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين الذي كان قائدًا للصاعقة في بداية تأسيسها.  
(5) تتلخص المشكلة في وجود رأي داخل الجبهة يرى أن وديع حداد يتصرف في موضوع العمليات الخاصة وحده من دون الرجوع إلى قيادة الجبهة.
(6) أعلنت مجموعة من كوادر الجبهة الشعبية انشقاقها في 10/3/1972، واتخذت لنفسها اسم "الجبهة الثورية لتحرير فلسطين". وكان أبرز شخصياتها أحمد فرحان (أبو شهاب)، نمر نصار (أبو الفوز وهو الذي كان يشرف في دمشق على أمور منظمة أبطال العودة)، هدى حمودة، مطر عبد الرحيم (أبو حسين)، أحمد السُردي (أبو العبد)، غازي الخليلي (كان في السجن في الأردن ولما خرج وجد أن الجبهة الثورية قد اندثرت فالتحق بالجبهة الديمقراطية)، ابراهيم زاير (أبو خولة – انتحر في بيروت)، أحمد عبد الحميد الحسين (أبو رياض)، طارق علي الربيعي (أبو اليسار)، حميدي العبدالله (أبو علي إربد)، علي الغضبان (تشي الذي اعدم في دمشق في 29/7/1975 بعد تفجيره عبوات ناسفة في وزارة الدفاع السورية)، مروان بكير، سمير الصاحب، أبو الفهود وغيرهم. 
(7) عُقد المؤتمر الثالث للجبهة الشعبية في مخيم البداوي في شمال لبنان في آذار/ مارس 1972، وحضره 62 عضوًا. واتفق هؤلاء على تجميد عضوية وديع حداد في الجبهة، وائيع قرار التجميد في 14/3/1972.
(8) بعد إعلان حل حركة القوميين العرب في 10/2/1968 ارتأى جورج حبش وهاشم علي محسن (أبو عدنان) ومنيف فرج وحسين حمدان وغيرهم تأسيس حزب العمل الاشتراكي العربي كاستمرار جديد للحركة القومية التي شاخت. فأسس هذا الحزب في أيار/ مايو 1969، وأُعلن عنه رسميًا في حزيران/ يونيو 1970. وكان الهدف لململة العناصر غير الفلسطينية في حركة القوميين العرب، لا على أساس قومي هذه المرة، بل على أساس أيديولوجي. وكانت أفكار هذا الحزب أقرب إلى الماوية، ودعا إلى بناء حزب شيوعي عربي موحد على غرار كثير من المظمات الماركسية الجديدة كحزب العمل الشيوعي في سورية، وحزب العمال الشيوعي المصري. لكن الهجوم الصيني على فيتنام في سنة 1979 أدى إلى انهيار أيديولوجية حزب العمل الاشتراكي العربي وغيره من الأحزاب الماوية وشبه الماوية، فانثنى إلى الالتحاق بركب الحركة الشيوعية التي كان يتزعمها الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي جعله بلا فائدة بوجود الأحزاب الشيوعية التاريخية. أصدر حزب العمل الاشتراكي مجلة "طريق الثورة" في حزيران/ يونيو 1970، ولم يلبث أن انشقت عليه مجموعة بقيادة نزيه حمزة في سنة 1979، وأطلقت على نفسها اسم "الحزب الديمقراطي الشعبي". 
(9) المقصود إليه الاشتباكات بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين التي اندلعت في بيروت في 2/5/1973.
(10) أُصيب جورج حبش بذبحة قلبية في 30/4/1972، وعولج في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت طوال أسبوعين. وفي ما بعد، وبالتحديد في 28/8/1980 تعرض لنزف في الدماغ، ودخل إلى مستشفى الجامعة الأميركية باسم مستعار هو "سليم فاخوري" وأجرى له الطبيب موريس سابا العملية الجراحية. أما في 26/2/1992 فقد أصيب بالاغماء وفقدان الوعي في تونس جراء ارتفاع ضغط الدم. فنُقل في 29/2/1992 إلى باريس بطائرة تابعة للصليب الأحمر الفرنسي. وعلى الفور حاصرت الشرطة الفرنسية المستشفى واقتحمت فرقة من شعبة مكافحة الارهاب غرفته وفتشت أغراضه. وفي اليوم التالي أصدر القاضي لويس بروغيير مذكرة توقيف بحقه. وقد نجحت اتصالات ياسر عرفات في منع توقيفه. وكان بسام أبو شريف أبلغ القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي خبر نقل جورج حبش إلى باريس للعلاج (راجع: جورج حبش: الثوريون لا يموتون، حاوره: جورج مالبرونو، بيروت: دار الساقي، 2009، ص 245).
(11) شاعت في تلك الفترة، جراء الانشقاقات المتتالية التي تعرضت لها الجبهة الشعبية، عبارة فكاهية، لكنها تندرج في سياق الكوميديا السوداء، وهي أن كثيريون باتوا يتوقعون انشقاق جورج عن حبش.