على بُعد أسابيع قليلة من مرور عام على اتفاق السلام الموقع بين الحكومة في جمهورية أفريقيا الوسطى، في ظلّ رئاسة فوستين أرشانج تواديرا، وبين 14 فصيلاً مسلحاً في البلاد، بعضهم سيطر على العاصمة بانغي في العام 2013، لا تزال الحرب الأهلية في هذا البلد، الواقع في قلب أفريقيا الوسطى، والذي تحده السودان وجنوب السودان والكاميرون وتشاد وجهورية الكونغو والكونغو الديمقراطية، دائرة، بعناوين جديدة. الفصل الجديد من العنف يأتي ليكمل سلسلة متواصلة من الانقلابات ومحاولات الانقلاب، والتاريخ الدموي، منذ الاستقلال عن فرنسا في العام 1960. ويبدو من جولة العنف الأخيرة، والتي ارتفعت حدّتها منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي جرت في 27 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وأبقت تواديرا في الحكم لولاية ثانية، أنها لن تكتمل إلا في بانغي. وقد يكون ذلك ما يفسّر اشتداد الهجمات، أمس، من قبل المسلحين المتمردين، الذين انضووا في تحالف جديد منذ 19 ديسمبر الماضي، على ضواحي العاصمة، على الرغم من الدعم الكبير الذي يحظى به الرئيس من القوات الأممية الموجودة في هذا البلد، والتحليق المتواصل لمقاتلات "ميراج" الفرنسية، والوجود الروسي الكثيف ودعم القوات الرواندية.
ونفذّ المتمردون، الذين يقودون تمرداً ضد نظام تواديرا، هجومين متزامنين، أمس الأربعاء، عند مدخل بانغي، فيما أكدت حكومة فيرمين نجريبادا أنه تمّ التصدي لهما. وأوضح وزير الداخلية هنري وانزيت لينغويسارا أنّ "سريّات من الجيش تعرضت لهجومين متزامنين (على مسافة 9 و12 كيلومتراً من وسط العاصمة)، لكن بفضل شجاعة قواتنا والدعم الثنائي، تمكنا من صدّ المهاجمين الفارين حالياً"، مضيفاً أن "دورية لمينوسكا (القوات الأممية) واجهت عناصر مسلحة".
تتهم السلطة الرئيس السابق فرنسوا بوزيزيه بتأجيج العنف
ويضم التحالف الذي يعرف باسم الـ"سي بي سي" أو تحالف "الوطنيين من أجل التغيير"، ستاً من أقوى الجماعات المسلحة التي تسيطر على ثلثي جمهورية أفريقيا الوسطى منذ اندلاع الحرب الأهلية قبل ثماني سنوات. وتأتي في مقدمتها فصائل من مليشيات الـ"سيليكا" المسلمة والـ"أنتي بالاكا" المسيحية. وكان التحالف قد أعلَن في 19 ديسمبر الماضي، أي قبل أيام من الانتخابات الرئاسية والتشريعية، عن تمرد لمنع إعادة انتخاب تواديرا. وتستعيد العديد من الوجوه السياسية القديمة إلى جانب زعماء حرب، عبر هذا التحالف، فصلاً جديداً من الصراع، عبر مهاجمة العاصمة، ليطغى التوتر المسلح على الانتخابات، التي أفرزت فوز الرئيس بولاية ثانية، أعلن عنه في 4 يناير/ كانون الثاني الحالي، بعد حصول تواديرا على أكثر من 50 في المائة من الأصوات، ما جنّبه جولة إعادة في وجه 16 مرشحاً للرئاسة.
وشنّ المتمردون منذ انتخابات ديسمبر هجمات متفرقة ومتتالية صدّتها قوات حفظ السلام وجنود روانديون والقوات شبه العسكرية الروسية، وكذلك الجنود النظاميون، لكن ذلك كان عادة ما ينفذ في بلدات بعيدة عن العاصمة. أما اشتباكات أمس، فهي الأولى التي تحدث على أبواب بانغي، وتحديداً في منطقتي "بي كا 11" و"بي كا 12"، ومن ناحية منطقة بيمبو. ويطالب التحالف بإلغاء نتائج الانتخابات، باعتبار أنها لم تشمل سوى جزء بسيط من البلاد، وذلك بعدما عرقلوا إجراءها في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم، فيما عدد كبير من النازحين واللاجئين لم يتمكن من التصويت.
وتتهم السلطة في بانغي، وكذلك الدول الداعمة لها، الرئيس السابق فرنسوا بوزيزيه (2003 - 2013)، والذي عاد إلى البلاد في أواخر العام 2019 من المنفى، ورُفض ترشحه للرئاسة أخيراً من المحكمة الدستورية، بالوقوف وراء التحالف المسلح الجديد، الذي كانت بعض فصائله قد ساهمت بالانقلاب على بوزيزيه، وبعضها حارب قبل أعوام من أجل عودته للسلطة. وكان اتفاق سلام بين الحكومة و14 فصيلاً مسلحاً، وتمّ التفاوض حوله في الخرطوم، ثم وُقّع في فبراير/ شباط 2019، قد منح البلاد فرصة للتعافي. لكن هذا الاتفاق ظلّ هشّاً، إذ ثبّت سيطرة الفصائل المسلحة على حوالي ثلثي البلاد، وأدى إلى مشاركتها في الحكم عبر وزراء ومستشارين، وخلق معارضة للرئيس، حيث اتهم بمواصلة منح زعماء الحرب الامتيازات، على حساب سلطة الدولة. لكن حتى الفصائل المسلحة نفسها لم تكن راضية عن الاتفاق، وواصلت التمرد عليه، لا سيما أن شقّه المتعلق بدمج الفصائل في الجيش لم يتحقق. وجاء استحقاق الانتخابات، الذي كان تواديرا يريد تأجيله بسبب فيروس كورونا قبل أن يعدل عن ذلك، كقنبلة موقوتة فجّرت دائرة العنف الجديدة من دون أن يكون واضحاً كيف ستنتهي. ولا يزال تواديرا يحظى بدعم عسكري روسي، لا سيما أن شركة مرتزقة "فاغنر" تنشط في البلاد منذ 2018، وبدعم عسكري رواندي. أما فرنسا، التي انسحبت قواتها من هذا البلد عام 2016 والتي لا تزال ترى فيه امتداداً لنفوذها في المنطقة، فقد كانت تفضل أن ترى وجهاً جديداً في السلطة، وهي لا تزال ممسكة بخيوط التواصل مع الكثير من الفصائل المسلحة في هذا البلد الغني بالثروات، وحيث تسعى لصدّ النفوذ الروسي المتنامي. إلا أن الخشية من دخول البلاد في حمام دم جديد، يرجّح أن يكون قد لجم تدخلها وحصره بالإشراف جوياً على حماية بانغي.
تعاني العاصمة بانغي مما يشبه الحصار الاقتصادي
وجرّاء جولة الهجمات الأخيرة، والمتواصلة، فإن العاصمة بانغي تعاني مما يشبه الحصار، إذ لم تعد المواد الغذائية والبضائع تصل إليها بانتظام. كما ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وهي تعتمد فقط على الطريق الشرقية مع الكاميرون. وأعلن رئيس الوزراء، أول من أمس الثلاثاء، عودة مواكبة القوافل التجارية عسكرياً. وبعد عقود من الحرب، لا تزال جمهورية أفريقيا الوسطى من أفقر الدول في العالم، ويحتاج ثلثا سكانها لمساعدات إنسانية، بحسب الأمم المتحدة.
وفيما يحاول المتمردون اليوم فرض قواعد جديدة للعبة، حيث لم يتوانوا في سلسلة هجمات متتابعة عن مواجهة حتى القوات الأممية، وكذلك قوات دولية داعمة للسلطة، يرى الباحث تييري فيكولون، من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية "إيفري"، أن "هذه المجموعات المسلحة تريد إرغام تواديرا على حوار جديد". وأشار في حديث لصحيفة "لوموند" الفرنسية، نشر أول من أمس، إلى سعي المتمردين لدفع الرئيس "إلى تقاسم السلطة، بعدما شعروا بأنه أصبح في موقع بإمكانه فيه الاستئثار بكل شيء، إثر إعادة انتخابه".
(العربي الجديد)