يبلغ عدد سكان جزيرة لامبيدوزا الإيطالية حوالي 6 آلاف، ولكنها تستقبل في بعض الأيام أكثر من هذا العدد من المهاجرين غير النظاميين، الذين يصلون إليها في قوارب من تونس، كما حصل في 12 و13 من الشهر الحالي، عندما استقبلت على التوالي 5 آلاف و3 آلاف منهم، ما أثار استنفاراً أوروبياً، بعد إعلان سلطات المدينة حالة الطوارئ.
وتعد لامبيدوزا محطة مثالية للمهاجرين غير النظاميين القادمين من تونس، بسبب قربها من سواحل مدينة صفاقس على نحو خاص، حيث تبعد عنها 180 كيلومتراً. ويتوقف زمن الرحلة، ومستوى الأمان، على نوعية القوارب المستخدمة، وحالة الطقس، لكنها في كل الأحوال تراوح بين ثلاث وعشر ساعات، وهي أقصر مدة للوصول إلى الضفة الأخرى.
وتراوح أسعار العبور بين 1500 دولار أميركي و5 آلاف، حسب وسيلة النقل وخبرة المهربين، الذين صاروا على درجة عالية من الحرفية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وبذلك تحولت سواحل مدينة صفاقس الفقيرة إلى نقطة حلم للعبور نحو الجزيرة الإيطالية، للتونسيين والأفارقة، الذين قصدوها بعشرات الآلاف.
تضاعف أعداد المهاجرين غير النظاميين خلال العاميَن الماضيَين
تفيد الإحصاءات الرسمية بأن أعداد الذين باتوا يصلون إلى الجزيرة الإيطالية من صفاقس خلال 48 ساعة، يوازي عددهم في عام واحد في 2019 و2020، حين تمكن من العبور في ذلك الوقت 8 آلاف شخص، وفق تقارير الأمم المتحدة، بينما وصل الرقم إلى 8 آلاف خلال 48 ساعة، قبيل منتصف الشهر الحالي.
وتؤكد إيطاليا أن الأرقام تضاعفت خلال العامَين الماضيَين، وقد وصلت خلال العام الماضي إلى 60 ألفاً، بينما بلغت خلال الأشهر التسعة من العام الحالي 123 ألفاً. وتفيد التقديرات بأن العدد المتوقع حتى نهاية العام الحالي سوف يتجاوز 100 ألف، ليصل خلال السنة الحالية إلى ربع مليون من تونس إلى جزيرة لامبيدوزا وحدها.
ومع ذلك، فإن الأرقام لم تتجاوز بعد أرقام عام 2016، وهو العام الذي وصل فيه أكثر من 181 ألف شخص، كثيرون منهم سوريون فارون من الحرب إلى إيطاليا.
شكل الواصلون من تونس هذا العام نصف الوافدين غير النظاميين إلى الاتحاد الأوروبي
وقد شكل الواصلون من تونس هذا العام نصف الوافدين غير النظاميين إلى الاتحاد الأوروبي حتى الآن، بحسب "الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل" (فرونتكس) التابعة للاتحاد الأوروبي. ووفقاً للوكالة، فإن المهاجرين الذين يصلون عبر البحر الأبيض المتوسط، هم في الغالب من ساحل العاج ومصر وغينيا.
وقدرت "فرونتكس" في بيان لها، الأسبوع الماضي، أن ضغط الهجرة غير الشرعية المتزايد قد يستمر على هذا الطريق في الأشهر المقبلة، مع قيام المهربين بتخفيض الأسعار على المهاجرين الذين يغادرون ليبيا أو تونس، في سياق منافسة شرسة بين الجماعات المتخصصة بالتهريب.
اتهام تونس بالتساهل بشأن الهجرة غير النظامية
هناك أسباب كثيرة للارتفاع المتزايد في الأرقام خلال الأسابيع الأخيرة، ومنهم من ينسبها إلى الطقس الصيفي، حيث البحر هادئ، ويسمح بوصول القوارب من دون مشاكل، ولذلك تعد أعداد الضحايا قليلة بالمقارنة مع فترات الشتاء. غير أن ذلك لا يكفي وحده، ولذا ركزت وسائل الإعلام الأوروبية الحديث عن مسائل أخرى.
ثمة من يرى أن وصول 8 آلاف مهاجر على متن 199 مركباً، وفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من مدينة واحدة في تونس خلال 48 ساعة، سببه سهولة الانتقال.
وهذا يعني برأيهم أنه ليست هناك إجراءات منع من طرف السلطات التونسية، التي يبدو أنها توقفت عن مراقبة الشواطئ ومطاردة المهربين حسب الاتفاقات مع الاتحاد الأوروبي للحد من الهجرة غير الشرعية.
ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى اتهام السلطات التونسية بتسهيل هجرة هذه الأعداد الضخمة، من أجل توجيه رسالة صريحة إلى أوروبا، هدفها تسوّل أكبر قدر من الدعم الاقتصادي المباشر، وعبر المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، للحصول على قروض مالية مهمة وميسّرة، من أجل تحريك عجلة الاقتصاد المتوقفة.
حملة السلطات التونسية بوجه الهجرة غير النظامية
ويبدو أن تونس تلقت رسائل الغضب من إيطاليا وأوروبا، لذلك تحركت بعد أيام وقامت بحملة أمنية واسعة النطاق، مدعومة بطائرات ووحدات مكافحة الإرهاب في مدينة صفاقس، استهدفت المهربين.
ونقلت قنوات تلفزة صور وحدات من الحرس الوطني التونسي، تدهم منازل تأوي مئات المهاجرين، واعترضت شاحنات تحمل مهاجرين باتجاه الشواطئ، واحتجزت عديداً من القوارب، وألقت القبض على مهربين.
وطوق المئات من العناصر الأمنية التونسية، منتصف الشهر الحالي، أماكن تعرف بأنها "نقاط أمنية سوداء" في مناطق جبنيانة وقرقنة والمساترية، وفي صفاقس. وصدر بيان عن وزارة الداخلية التونسية، يقول إن الحملة جاءت بناء على تعليمات من الرئيس قيس سعيّد لمواجهة "التدفق غير المقبول للمهاجرين".
وما عزز توجيه أصابع الاتهام للسلطات التونسية هو أنه سبق أن زارت تونس في يوليو/ تموز الماضي كل من رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، وجرى التوقيع على اتفاق "شراكة استراتيجية شاملة"، يُقدّم الاتحاد الأوروبي بمقتضاه مساعدة مالية لتونس كي تعزز، في المقابل، كفاحها ضد الهجرة غير النظامية عبر البحر الأبيض المتوسط.
مهمة صعبة أمام تونس لوقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا
تمتد السواحل البحرية التونسية حوالي 1500 كيلومتر، لذا فإن السلطات التونسية تجد نفسها أمام مهمة صعبة للغاية، في سياق يتميّز بأوضاع اقتصادية بالغة الشدة.
وقد منحت إيطاليا لتونس 82 سفينة للسيطرة بشكل أفضل على سواحلها، وبالتالي تقديم المساعدة اللوجستية والتقنية لجعل حرس الحدود التونسيين أكثر كفاءة. لكن هذه السفن والـ900 مليون يورو، لم تنجح في وقف الهجرة غير الشرعية.
يمارس الاتحاد الأوروبي ضغوطاً على تونس لتولي دور الشرطي الذي يضمن حدود أوروبا
وتبدو الحكومة التونسية وسط حالة من الاضطراب في مواجهة هذا الوضع. من جهة يمارس عليها الاتحاد الأوروبي ضغوطاً، لتولي دور الشرطي الذي يضمن إبقاء حدود أوروبا حصناً منيعاً، ومن جهة أخرى، لا يبدو الرئيس سعيّد مستعداً لتولي هذه المهمة بثمن بخس.
وهنا تبرز مفارقة أن سعيّد نفسه يستخدم خطاباً مناهضاً للهجرة، بشكل أساسي تجاه مهاجري جنوب الصحراء الكبرى. وأعرب عن آرائه بشأن الهجرة في خطابه الشهير في 21 فبراير/ شباط الماضي، الذي أثار ردود فعل سلبية وإدانات، باعتباره عنصرياً، ويغذّي الكراهية ضد الأجانب.
وفي الوقت ذاته تدهورت حقوق الإنسان في تونس، وزادت معاملة اللاجئين الأفارقة سوءاً، وماتت أعداد كبيرة من اللاجئين في البحر، وفي الصحراء ما بين تونس وليبيا، عندما طردتهم السلطات التونسية خلال الصيف الماضي.
يلتقي سعيّد في السياسة الشعبوية، ويتشارك الرؤية المعادية للأجانب والهجرة مع رئيسة الوزراء الإيطالية، ورؤساء دول أوروبية أخرى، غير أن الثمن الذي يحصل عليه مقابل ذلك، لا يبدو أنه يوازي العمل المطلوب منه. ومن هنا فإن المسألة مفتوحة على احتمالات شتى، بما فيها حصول تدخلات أوروبية ضد تونس.
مواقف أوروبية غير مشجعة
ردود الفعل الأوروبية الرسمية كانت على درجة عالية من الحرج بعد الاستغاثات التي وجهتها الحكومة الإيطالية، ولذلك قامت رئيسة المفوضية الأوروبية بزيارة تضامن في 17 من الشهر الحالي إلى الجزيرة، غير أن إيطاليا تنتظر مواقف صارمة، بما في ذلك تعزيز القوات الأوروبية المكلفة بمواجهة الهجرة في مياه البحر المتوسط.
المواقف الأوروبية غير مشجعة، ومنها ما برز صريحاً، مثلما هو الأمر في حالة ألمانيا، التي رفضت صراحة قبول مهاجرين من الذين يصلون عن طريق إيطاليا، ولذلك أسباب عديدة، منها أنها بحاجة إلى عدد قليل من المهاجرين، شرط أن يكونوا يداً عاملة مؤهلة.
ثم أنها تشعر بعبء كبير من قبل اللاجئين الأوكرانيين، الذين فاق عددهم المليون على أراضيها.
ليست ألمانيا وحدها التي رفضت تقاسم أعباء الهجرة المتوسطية، بل جميع الدول البعيدة عن البحر المتوسط مثل تشيكيا وهنغاريا والدول الاسكندنافية، وحتى البلد المتوسطي اليونان الذي يعاني مثل إيطاليا من التدفق الكثيف للمهاجرين، وبالتالي يقع العبء على إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
وشهدت الأيام الماضية تحركات على مستوى الاتحاد الأوروبي من أجل إحياء عملية المراقبة الأوروبية المعروفة باسم "صوفيا" التي تم إيقافها عام 2004، رغم أنها أثبتت جدواها وقدرتها على الحد من الهجرة غير النظامية. ومن شأن هذه الخطوة أن تساهم في تعزيز مراقبة مراكب المهاجرين، ولكن من غير الواضح ماذا سيعقب المراقبة من خطوات.
الأوضاع تتفاقم على نحو يتجاوز طاقة إيطاليا وأوروبا، وعلى بُعد أقل من عام من الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقررة في يونيو/ حزيران المقبل. ويبدو الاستثمار العنصري للمسألة في أفضل أحواله، إذ يلقى هذا السوق رواجاً، حيث سارع زعماء اليمين الفرنسي المتطرف إلى إيطاليا، ووصل الأمر بزعيمة حزب "التجمّع الوطني" اليميني المتطرف في فرنسا مارين لوبان إلى حد المزايدة على ميلوني، معتبرة أن الاستراتيجية التي تتبعها الأخيرة سهلة ولا تؤدي إلى نتائج بعيدة، كما تأخذ عليها أنها تعتمد على الاتحاد الأوروبي في حل المشكلة.
ليست وحدها ميلوني التي لا تمتلك حلاً يؤدي إلى نتائج على المدى البعيد. الكل يبدو عاجزاً عن وقف الهجرة، أو تحويلها إلى ورقة أوروبية رابحة في ظل حاجة أوروبا إلى يد عاملة شابة.
ومن ناحية أخرى، رغم أن إيطاليا هي التي تشهد استقبال أفواج كبيرة من المهاجرين غير النظاميين، فإن أغلبية هؤلاء لا يستقرون هناك، بل يكملون الطريق إلى بلدان أوروبية أخرى، بدليل أن عدد المتقدمين للجوء في فرنسا يتجاوز عددهم بالنسبة لإيطاليا. وفرنسا مرغوبة أكثر بسبب سهولة اللغة للقادمين من بلدان أفريقيا الفرنكوفونية.
السياسة الأوروبية تجاه الهجرة فاشلة أيضاً لأنها غير عادلة، وما تعاني منه أوروبا اليوم هو أعداد اللاجئين الأوكرانيين، التي تتزايد تبعاً لتطورات الحرب، وهي تفوق الهجرة القادمة من أفريقيا بأكثر من عشر مرات. ففي الوقت نفسه الذي استقبلت في إيطاليا 8 آلاف مهاجر، وصل إلى ألمانيا 100 ألف لاجئ أوكراني. ولو جرى تطبيق مبدأ التضامن الأوروبي، لكان يجب على إيطاليا أن تستقبل قسماً من هؤلاء.