أثار بيان أصدره عدد من الأكاديميين والناشطين الفلسطينيين بشأن التصريحات الأخيرة للرئيس محمود عباس حول المحرقة (الهولوكوست)، جدلاً فلسطينياً بين جهة أيدت فحوى البيان الذي تبرأ من تصريحات عباس واعتبرها إضراراً بالقضية الفلسطينية، وجهة أخرى عارضته، من أطراف غالبها محسوب على السلطة.
وكان الرئيس الفلسطيني قد قال، خلال اجتماع للمجلس الثوري لحركة فتح، قبل نحو أسبوعين، إنّ الزعيم النازي أدولف هتلر قتل اليهود "ليس لأنهم يهود" إنما بسبب وظيفتهم الاجتماعية.
وقال عباس في خطابه: "قالوا إن هتلر قتل اليهود لأنهم يهود وإن أوروبا تكره اليهود لأنهم يهود... غير صحيح"، مضيفاً: "شرحت بالضبط أنهم (الأوروبيين) حاربوا هؤلاء (اليهود) بسبب وظيفتهم الاجتماعية وليس بسبب ديانتهم". وشكك في أصل "اليهود الأشكناز"، قائلاً إنهم ليسوا ساميين.
وبعد نحو أسبوع على ذلك التصريح، أعادت قناة إسرائيلية نشره في 6 سبتمبر/ أيلول الجاري، مما أثار عاصفة استنكار من قبل عدة أطراف دولية على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا.
وفي بيانهم الذي تم تداوله أول أمس الثلاثاء، أدان عشرات من الأكاديميين والكتاب والفنانين والناشطين الفلسطينيين "التصريحات المستهجنة أخلاقياً وسياسياً التي أدلى بها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حول المحرقة".
وقال البيان: "كانت الإبادة الجماعية النازية للشعب اليهودي، المتجذرة في نظرية عنصرية، والمنتشرة على نطاق واسع في الثقافة والعلوم الأوروبية في ذلك الوقت، وليدة معاداة السامية والفاشية والعنصرية. نحن نرفض بشدة أي محاولة لتقليل أو تحريف أو تبرير معاداة السامية أو الجرائم النازية ضد الإنسانية أو التحريف التاريخي في ما يتعلق بالمحرقة".
وتبرّأ البيان من تصريحات عباس، معتبراً أن "الشعب الفلسطيني مثقل بما فيه الكفاية بالاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والسلب والاحتلال والقمع دون أن يضطر إلى تحمل التأثير السلبي لمثل هذه الروايات الجاهلة والمعادية للسامية بشدة، والتي يديمها أولئك الذين يزعمون أنهم يتحدثون باسمنا".
ومن بين الموقّعين على العريضة عضو الكونغرس الأميركي رشيدة طليب والمؤرخ رشيد الخالدي والباحثة نورا عريقات وغيرهم من الشخصيات الفلسطينية، وجزء كبير منهم يعيش في الخارج، بحسب وكالة فرانس برس.
ورداً على ذلك، وصفت أطراف فلسطينية غالبيتها محسوبة على تيارات السلطة، البيان بـ"بيان العار"، واتهمت القائمين عليه بـ"تبني الرواية الصهيونية"، معتبرة أنهم يجهلون التاريخ.
وفي بيان لها، تحدثت اللجنة المركزية لحركة فتح التي يتزعمها الرئيس عباس، أمس الأربعاء، عن وجود "حالة تحريض" على الرئيس، "في ظل التطرف ومخططات المشروع الاستعماري، وقبيل كلمة فلسطين في الأمم المتحدة التي ستضع العالم أمام مسؤولية الاعتراف بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين وإنهاء احتلالها"، بحسب البيان.
من جهته، قال المجلس الوطني الفلسطيني، في بيان، أول أمس الثلاثاء، إنّ "مجموعة تدعي أنها من المثقفين، والكتاب، والأكاديميين الفلسطينيين ممن يعيشون في أوروبا وأميركا، تتطاول في انحدار أخلاقي لتتبنى أكاذيب الإعلام والرواية الإسرائيلية المصطنعة ضد الرئيس عباس، للنيل من رأس الشرعية الفلسطيني".
وفي حين قال القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ماهر مزهر، إنّ "من يسمون أنفسهم كتاباً ومثقفين كان الأجدر بهم أن ينحازوا للرواية الفلسطينية لا مهاجمة الرئيس محمود عباس"، نفت الجبهة، أمس الأربعاء، إصدار أي تصريح بخصوص البيان.
وقالت وحدة إعلامها المركزي، إنّ "الجبهة تؤكد أنها لم تصدر تصريحاً بهذا الخصوص، أو توصيفاً للبيان والموقعين عليه، أو الانحياز لجهةٍ ما، وتدعو إلى مناقشة ما جاء في البيان مع الموقعين عليه بموضوعية، بدلاً من الذهاب في توصيفهم إلى حد الاصطفاف إلى جانب العدو، وهذا لا يعني بأيّ حالٍ أن ليست للجبهة ملاحظات على بعض ما جاء في البيان، أو على توقيته الذي سيستغله العدو ويستفيد منه".
"أخطاء تاريخية جسيمة"
ويرى كتاب ومحللون فلسطينيون أنّ الرئيس عباس أخطأ في تصريحاته، وأقحم نفسه في مواضيع ما كان عليه أن يتطرق إليها.
وقال المؤرخ الفلسطيني صبري جريس إنّ عباس "مغرم"، لسبب ما، بتاريخ اليهود واليهودية، لكنه "في أكثر من مرة وقع في أخطاء تاريخية جسيمة بسبب (هواياته) تلك، واضطر في نهاية الأمر إلى الاعتذار عنها، أو قام المقربون منه بمحاولات طمسها".
وتابع جريس، في منشور على صفحته في "فيسبوك"، السبت الماضي، أنّ الانتقادات التي واجهتها تصريحات عباس الأخيرة "عملياً" صحيحة وفي محلّها.
وقال: "وقع عباس في خطأ تاريخي مفضوح، لا يدل بالضبط على معرفة عميقة بالمواضيع التي يحب تناولها. فهتلر نفسه، في كتابه (كفاحي)، يقسم شعوب العالم إلى أعراق ويقول إن اليهود هم أكثر عرق دونية وتنبغي إبادتهم... وإن كان هتلر نفسه يقول ذلك صراحة في كتابه، فلماذا يقوم عباس بتجاهل ذلك واختراع نظريات من عنده؟ وما الفائدة من ذلك؟".
من جهته، تساءل المؤرخ عصام نصار، أحد الموقعين على البيان، في حديث لـ"العربي الجديد"، الأربعاء، "لماذا يعطي أبو مازن محاضرات في التاريخ أمام المجلس الثوري وحركة فتح بدل تركيزه على مناقشة قضايا السياسة؟"، مضيفاً: "هو ليس مؤرخاً، وثوري فتح ليس مكاناً مناسباً لإلقاء محاضرات ودروس في التاريخ".
وبيّن نصار أنّ بيان الموقّعين لم يكن "مجتزأ" كما وصفه منتقدوه بل "قراءتهم له كانت مجتزأة، حين ركّزوا على ما يتعلّق بانتقادنا لعباس وتجاهلوا الباقي، فالبيان يدين بوضوح الاحتلال الإسرائيلي ويصفه بالاستعمار الاستيطاني ويتحدث عن ممارساته بحق الشعب الفلسطيني".
وأوضح نصار أنّ ما يقوله البيان هو "أننا لسنا بحاجة إلى معركة كهذه تسيء إلى مصلحة القضية الفلسطينية، لاسيما بعدما استدعت ردود فعل أوروبية وأميركية، وأطلقت حملة عالمية تحاول التدليل على لا سامية الفلسطيني، تضاف إلى محاولات مستمرة لوصم النضال الفلسطيني بأنه نضال معاد للسامية. تصريحات عباس زادت الطين بلّة".
وتابع: "إذا كان عدد كبير من الموقّعين على البيان يعيش في الغرب فهذا لأنهم أكثر من يشعر بتأثيرات تلك الهجمة على الفلسطينيين، التي لن يدركها المطبّلون في الضفة الغربية المحتلة، الذين لا همّ لهم سوى أساليب الولاء القبلي التام بدل حرصهم على المصلحة الفلسطينية".
وفنّد نصار اتهام الموقعين على البيان بـ"جهل التاريخ"، وقال إنّ الذين وقّعوا البيان "مؤرخون معروفون كتبوا تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، ومناضلون في الحركة الوطنية الفلسطينية".
وأضاف: "عباس فاقد للشرعية، وهو يستفرد بسلطة خلقت نظاماً استبدادياً، فهو لا يمثل الشعب الفلسطيني ليصرح بما يشاء متحدّثاً باسمه، ويمحو أي مشاركة لأطراف أخرى".
من جهته، قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة حيفا أسعد غانم، لـ"العربي الجديد"، الأربعاء، إنه "سعيد بالنجاح الكبير لهذا البيان الذي تم تداوله، والذي أعتقد أنّ د. رشيد الخالدي قد صاغ نصّه".
وأضاف أنّ "ردة فعل السلطة وتشابه مضامين التصريحات والبيانات يشيران بوضوح إلى تنسيق وأوامر من فوق، وأنّ زمرة السلطة تشعر بقرب انتهاء دورها، لذلك تجند "شلة" (مجموعة) من المنتفعين". وتابع في ذات الوقت: "ليس كل من ينتقد البيان منتفعاً بل هذا حقه".
وقال إنّ "الدفاع عما يسمى (الشرعية)، المغتصبة للسلطة، ولجزء مهم من الشعب الفلسطيني في الضفة، وكذلك الحال في غزة، فعل مدان يؤكد أن هذه القوى السياسية التي تدور في فلك السلطة باتت تنتمي إلى إرث سياسي انتهى دوره، بعدما أوصلنا إلى هنا"، معتبراً أنّ "القطيعة مع هذا الإرث تصبح ضرورة ملحّة أكثر من قبل".
ونبّه إلى أنّ "إسكات الانتقادات وإبطال دور المثقفين مطلوبان، حتى تتم عملية توريث السلطة ونقلها إلى (أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، القيادي في حركة فتح) حسين الشيخ".
واعتبر أنّ البيان جاء في وقته "طالما كان هذا الرجل الذي يقدّم نفسه قائداً للفلسطينيين يقوم عبر تصريحاته المتكررة بالإساءة إلى الفلسطينيين، وهي تصريحات توظف للإساءة إلى نضالهم المحق".
وكانت جهات إسرائيلية ودولية، اتهمت ضمن حملة واسعة الرئيس عباس بمعاداة السامية، ما دفع بالرئاسة الفلسطينية إلى إصدار بيان أشارت فيه إلى أن التصريحات "مجرد اقتباسات من كتابات لمؤرخين وكتاب يهود وأميركيين".
وشدد المتحدث باسم الرئاسة، نبيل أبو ردينة، على أن تلك التصريحات "لا تشكل إنكاراً بأي شكل من الأشكال للمحرقة النازية".
يشار إلى أن عباس حصل في العام 1982 على شهادة الدكتوراه من معهد الاستشراق في موسكو، وكان موضوع رسالته "العلاقات السرية بين ألمانيا النازية والحركة الصهيونية". وألّف العديد من الكتب في هذا السياق منها: "الاستقطاب الديني والعرقي في إسرائيل"، و"إسرائيل وجنوب أفريقيا العنصريين"، و"الصهيونية بداية ونهاية".
وسبق أن هاجمت أوساط إسرائيلية عباس حين أصبح رئيساً للحكومة الفلسطينية في العام 2003، بزعم أنه شكك في رسالته بأعداد القتلى اليهود في المحرقة.
وقد انتُقد عباس، في مايو/ أيار، لتشبيهه إسرائيل بألمانيا النازية في خطاب ألقاه في مناسبة للأمم المتحدة. وأثار غضباً دولياً، العام الماضي، بعدما قال إن إسرائيل نفذت "50 مذبحة؛ 50 محرقة" خلال مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، في برلين. وقال شولتز لاحقاً إنه "يشعر بالاشمئزاز من التصريحات المُشينة".