عاشت تونس خلال الأيام الثلاثة الماضية على إيقاع سلسلة من البيانات واللقاءات لمسؤولين دوليين حول تطور الأوضاع في البلاد، أثارت جدلاً كبيراً بين التونسيين، وحملت تأويلات مختلفة لمضامينها ورسائلها المعلنة والخفية.
وبدأت سلسلة اللقاءات، السبت، بلقاء وفد أميركي يقوده السيناتور كريس مرفي، بالرئيس قيس سعيّد. وفي تغريدات على حسابه على "تويتر"، قال مرفي إنه دعا في اللقاء إلى "العودة السريعة إلى المسار الديمقراطي وإنهاء الحالة الاستثنائية"، موضحا أن "اهتمام الولايات المتحدة الوحيد هو حماية وتعزيز ديمقراطية واقتصاد سليمين للتونسيين".
وأمس، الإثنين، حث سفراء مجموعة الدول السبع بتونس على "سرعة العودة إلى نظام دستوري يضطلع فيه برلمانٌ منتخبٌ بدور بارز".
وشددوا على "الحاجة الماسّة لتعيين رئيس حكومة جديد حتّى يتسنّى تشكيل حكومة مقتدرة تستطيع معالجة الأزمات الراهنة التي تواجه تونس على الصعيدين الاقتصادي والصحي، وهو ما من شأنه أن يفسح المجال لحوار شامل حول الإصلاحات الدستورية والانتخابية المُقترَحة".
ودعا السفراء إلى "الالتزام العام باحترام الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لجميع التونسيين وباحترام سيادة القانون"، مؤكدين أن "مجموعة السبع ستبقى ملتزمة بإبقاء القيم الديمقراطية المشتركة ذات أهميّة محوريّة في علاقاتنا المستمرّة".
والاثنين، سارع السفير الفرنسي أندريه باران للقاء وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي، مؤكدا تفهم فرنسا لإجراءات سعيّد.
وتذهب أغلب القراءات في تونس اليوم إلى أن توازنات ما قبل إعلان سعيّد عن إجراءاته الاستثنائية في 25 يوليو/ تموز الماضي قد انتهت، وأن هناك مرحلة جديدة يقبل بها من غالبية هذه الدول، غير أنها تبقى محكومة بشروط وضد الذهاب إلى المجهول والمغامرات.
بدوره، قال مدير مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي عدنان منصر، الذي كان مديراً لديوان الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي: "أرى أن هناك تناسقا بين المواقف، الأميركي والفرنسي ومجموعة السبع.. لأنهم يعبرون عن الفكرة نفسها، وهو ما يدل على وجود تنسيق كبير بينهم".
وأضاف "لم يعد أي طرف يتحدث عن برلمان 24 يوليو/ تموز، والتوازنات السياسية القديمة كذلك انتهت، والتركيز الآن على المستقبل وما سيحدث غدا وحول موضوع الحكومة، والتأكيد على أن أي إصلاحات ستتم، يجب أن تتم في إطار الدستور الحالي القائم".
وبين في تصريح له، أن "هناك خطوطا حمراء تتمثل في عدم إلغاء الدستور أو إيقاف العمل به، رغم أن هذا لم يقل صراحة، كذلك مسألة اقتراح تغييرات في الدستور بصفة أحادية أو تنظيم مؤقت للسلط العمومية بشكل أحادي، فهم يعتبرون أن هذا يجب أن يتم عبر المسلك الدستوري".
وشدد على أنهم "يتحدثون عن حوار سياسي شامل، لأنهم يعتبرون أنه لا يجب أن يقدم دستور من طرف واحد".
وحول تواتر التدخل الخارجي في تونس وتداعياته، قال منصر إن "تونس تمثل رهانا سياسيا بالدرجة الأولى وليس اقتصاديا، غير أنه يتم الضغط عليها من موطن ضعفها الاقتصادي"، مشيرا إلى أنه "بالتفريط في السيادة في جميع المجالات لا يمكن المحافظة عليها في الجانب السياسي لأن السيادة استتباع، فالدول المقرضة والممولة تبحث عن استقرار مصالحها خصوصا على الحدود الأوروبية، والتجربة التونسية مختلفة عن المصرية، وفي تونس مجتمع مدني قوي بينما في مصر المؤسسة العسكرية قوية".
وبين أن "العشرية الماضية كشفت أنه لا يمكن لشخص أن يقوم بما يريد دون معارضة وفي صمت من جميع الأطراف والمجتمع المدني"، معتبراً أن "تصور مجموعة السبع لتحقيق الاستقرار يمر عبر تشكيل حكومة مقتدرة، ويعتبرون أن هذه الحكومة ستفتك المبادرة وستلجم نسبيا قيس سعيّد، ومن أجل ذلك يقترحون شخصيات لرئاسة الحكومة بمواصفاتهم وقريبة منهم".
وشدد على أنهم "يدفعون ويدعمون محافظ البنك المركزي مروان العباسي، الذي يعد شخصية قوية ولا يقبل بأن يكون أداة تنفيذ ويلعب دور وزير أول عند الرئيس"، معتبراً أن "شرعية الحكومة القادمة ستستمدها من الأمر الواقع ومن تعيين الرئيس قيس سعيّد، وليس من البرلمان".
وفيما لفت إلى أن "من بين النقاط التي لم تكشف صراحة أن هذه الحكومة هي التي ستقود وتعد للانتخابات"، أكد أن "الرئيس واع بهذه الضغوط وهذه الدعوات الخارجية، ودليل ذلك عدم تعيينه إلى الآن شخصية مقربة منه، لأنه يعرف تبعات ذلك وخصوصا الاقتصادية".
أضاف أن هذه "الدول مستعدة لمواصلة التعاون مع تونس حسب تلك الشروط المذكورة في بيانها".
وقال إن "سعيّد تراجع عن تعيين العباسي الذي اتصل به بشكل رسمي في البداية، وشرع الأخير في الإعداد لتولي المنصب، ثم فهم ما ينتظره فلم يواصل إجراءات تعيينه"، مشيراً إلى أنه "اكتوى من تجربة هشام المشيشي (رئيس الحكومة المقال)، الذي عينه، وبالتالي لن يغامر من جديد ويضطر بعد أشهر لتفعيل البند 80 من جديد لإقالة رئيس الحكومة.. وبالتالي يصبح ذلك عبثا".
ويتضح أن تعيين رئيس حكومة قوياً أصبح مطلباً دولياً واضحاً، تريد هذه الدول أن تعدل به كفة التوازن بين السلطات ويكون شريكا لها في المشهد الجديد وإن كان مؤقتاً ويقود إلى المرحلة القادمة ما بعد الانتخابات.
ويذهب المحلل السياسي والمدير العام الأسبق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (تابع للرئاسة)، طارق الكحلاوي، إلى التأكيد على أن "التأجيل الحاصل في تعيين رئيس الحكومة إلى حد الآن سببه البحث عن شخصية قريبة يمكن من خلالها السيطرة على السلطة التنفيذية، وهذا هو الإشكال الرئيسي حاليا".
وكشف الكحلاوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "اجتماعاً غير معلن لممثل صندوق النقد الدولي المكلف بالشرق الأوسط تم في 26 يوليو/ تموز، أي مباشرة بعد إجراءات 25 يوليو، تم الاعتراض فيه على المجموعة المقربة من قيس سعيّد لترؤس الحكومة، وتحديدا توفيق شرف الدين، والاسم الذي طرح بقوة من قبله هو مروان العباسي".
وبين الكحلاوي أن هناك "لوبيينغ (ضغط) يتعلق بمسألة الحكومة مورس في الفترة الماضية من مجموعة السبع ورسائل إلى القصر في هذا الاتجاه، وورد حتى في بيانها أمس، ولكن هناك تباطؤا من سعيّد وربما عدم وجود رغبة منه في الاستجابة لهذا الطلب وربما رغبة نحو الذهاب لخيار آخر".
وأفاد بأن ذلك "كان وراء قرار توسيع دائرة الضغط والطلبات، لأنه لأول مرة يرد ضمنيا الحديث عن الاعتراض على نظام الحكم الذي يريده سعيّد (ما يسمى بالديمقراطية المباشرة ونظام الاقتراع على الأشخاص من المحلي إلى الجهوي إلى الوطني)، وتم التركيز على ضرورة وجود نظام دستوري يلعب فيه البرلمان دوره".
وأكد الكحلاوي أن "الدعوة ليست لعودة البرلمان بل للدفاع عن نظام سياسي يكون فيه للبرلمان دور"، مشيرا إلى أن "المنتظم الدولي ركز على الحكومة، ولكن الإشكال أعمق وفي علاقة بقيس سعيّد، حيث تغيب الثقة فيه، لأنه شخصية غير معتادة بالنسبة لهم، فقد تعودوا طيلة السنوات الماضية على شخصيات تتجاوب معهم، واليوم هناك تغييرات فُرضت في البلاد وإجراءات تمت دون علمهم ولم يحصل التشاور معهم مسبقا، وعندما طلبوا أشياء رفضها، وهذا هو الجديد ومبعث قلقهم".
ولفت إلى أن "تصريحات سعيّد في ما يتعلق بالتطبيع والحديث عن الكيان الصهيوني مسائل لا تنسى بالنسبة لهم، لقد وجدوا أنفسهم أمام شخصية جديدة وغير متوقعة"، مؤكدا أن "البيان وضع خريطة طريق لما لا يجب القيام به، وهي نقاط غير مسبوقة".
وأضاف أنه "لأول مرة يقال هذا الموضوع علنا، حيث كان في العادة لا يخرج للعلن ويتم في اللقاءات المغلقة ومع وزير الخارجية".
وشدّد الكحلاوي على أن "تصريح سفير فرنسا للتعبير عن تفهمه للإجراءات ثانوي أمام البيان الذي وقعته فرنسا وهو الملزم والواضح".
وأضاف أن "تعيين رئيس الحكومة سيكون المؤشر لقبول هذه الطلبات أو لا، والمسألة تتعلق بالحصول على جزء من السلطة التنفيذية، وهو ما قد لا يقبله سعيّد".