مرت قبل أيّامٍ الذكرى الثلاثون لاتّفاق أوسلو، الذي وقّعته منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في في حديقة البيت الأبيض في واشنطن 13/9/1993م، برعايةٍ أميركيةٍ وغربيةٍ، إذ يطرح المقال في هذه الذكرى تساؤلاتٍ عديدةً، أهمّها: ما هو اتّفاق أوسلو؟ وما أهمّ الإشكالات التي وقع بها المفاوض الفلسطيني عند توقيعه عليه؟ وما أهمّ إيجابيات وسلبيات الاتّفاق؟ ولماذا انقلبت إسرائيل على الاتّفاق طالما يخدم توجهاتها؟ وما هو مستقبل السلطة الفلسطينية، التي هي إحدى أهمّ إفرازات اتّفاق أوسلو؟
أولاً: اتّفاق أوسلو في سطور
هو اتّفاق إطار، نتج عن قناة تفاوض سريةٍ، في العاصمة النرويجية أوسلو، بموجبه اعترفت منظّمة التحرير الفلسطينية بحق دولة إسرائيل في العيش بسلامٍ وأمنٍ، كما قبلت بقراري مجلس الأمن 242 و338. مقابل اعتراف إسرائيل بمنظّمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني. وبموجب هذا الاتّفاق وملحقاته أيضًا، أسس مجلس منظّمة التحرير الفلسطينية المركزي السلطة الفلسطينية، التي وقع على كاهلها تنفيذ الاتّفاق من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية.
ثانياً: أهمّ إشكالات المفاوض الفلسطيني في أوسلو
وقع المفاوض الفلسطيني، الذي قاد مسار أوسلو السري، في أخطاء كثيرةٍ، التي أسست في ما بعد إشكالاتٍ وخطايا سياسيةً عديدةً، يدفع شعبنا الآن أثمانًا باهظةً بسببها، ومن أهمّ هذه الإشكالات:
1. قاد المفاوض الفلسطيني قناةً سريةً انخفض سقفها التفاوضي كثيرًا مقارنةً بقناة مدريد التفاوضية، التي كان يرأسها المرحوم حيدر عبد الشافي.
2. لم يشترط المفاوض الفلسطيني، عند صياغة الاتّفاق، وقف الاستيطان، بينما كان عدد المستوطنين في الضفّة الغربية المحتلة وشرقي القدس عام 1993م (تاريخ توقيع أوسلو) 260 ألف مستوطنٍ تقريباً، وصل عددهم فيها مطلع العام الحالي (بعد 30 عامًا من توقيع أوسلو) إلى 726 ألف مستوطنٍ.
3. وقع المفاوض الفلسطيني في خطيئةٍ سياسيةٍ كبرى، تتمثّل في الاعتراف غير المتكافئ؛ قد ذكرناه في متن المقال.
4. قبول المفاوض الفلسطيني بالاتّفاق الانتقالي، أيّ القبول بترحيل كافّة قضايا الحلّ النهائي، وهو ما منح إسرائيل مكتسباتٍ كثيرةً دون أن تدفع أيّ أثمانٍ.
5. جعل الاتّفاق احتلال فلسطين الأرخص عبر التاريخ، إذ نقل مسؤولية الشعب المحتل إلى الدول المانحة، وأفاد الاحتلال ماديًا رغم احتلاله، عبر اتّفاق باريس على سبيل المثال لا الحصر.
إسرائيل مزقت أوسلو طمعًا في مزيدٍ من التنازلات، واستغلالاً لحالة الضعف الفلسطيني والعربي
ثالثاً: إيجابيات وسلبيات أوسلو
• أهمّ إيجابيات أوسلو:
1. ساهم أوسلو في عودة الآلاف من فلسطينيي الشتات إلى الأرض الفلسطينية، كما منح الفلسطينيين جوازًا فلسطينيًا للسفر بدلًا من وثيقة السفر المصرية، على سبيل المثال.
2. منح أوسلو منظّمة التحرير الفلسطينية شرعيةً دوليةً، ساهمت في انضمام فلسطين إلى منظّماتٍ واتّفاقياتٍ دوليةٍ عديدةٍ، ورفع مكانة فلسطين في الأمم المتّحدة إلى دولةٍ مراقبٍ غير عضوٍ.
3. ساهم اتّفاق أوسلو بانسحاب إسرائيل من قطاع غزّة وأريحا، ثمّ من جزءٍ من الضفّة الغربية.
4. دخول السلاح، عبر أجهزة الأمن المدربة جيدًا، ساهم في نقل جزءٍ من السلاح والمعرفة والتدريب إلى المقاومة الفلسطينية.
5. لا يمكن أن نرصد الإيجابيات بعيدًا عن تحليل البيئة الاستراتيجية التي رافقت موافقة منظّمة التحرير الفلسطينية على الذهاب إلى أوسلو، والمتمثّلة في تداعيات حرب الخليج، ونتائج موقف منظّمة التحرير الفلسطينية، بعد تأييدها للعراق والرئيس صدام حسين في غزوه الكويت، وأثر ذلك على قرابة 400 ألف فلسطيني طردتهم الكويت من أراضيها، وهو ما استغلته الولايات المتّحدة لابتزاز القيادة الفلسطينية، ودفعها نحو أوسلو للاستمرار بالعمل السياسي، وهذا إيجابيٌ من ناحية الحفاظ على مصالح قيادة المنظّمة، وسلبيٌ من ناحية ذهاب المفاوض إلى أوسلو ضعيفًا، نتيجة تداعيات حرب الخليج، وعدم وجود حالة إجماعٍ فلسطينيٍ على مسار التسوية.
• أهمّ سلبيات أوسلو
1. مَنحت منظّمة التحرير الفلسطينية الشرعية لدولة الاحتلال على 78% من مساحة أرض فلسطين التاريخية.
2. الإشكالات التي ذكرت بمحورٍ منفردٍ بالمقال تندرج كلّها ضمن سلبيات أوسلو.
3. زاد من حالة الانقسام في الشارع الفلسطيني.
4. أسس جماعات مصالحٍ وصراعٍ على سلطةٍ تحت الاحتلال، أدت في النهاية إلى انقسامٍ وشرخٍ مجتمعيٍ يمثّل أفضليةً استراتيجيةً لدولة الاحتلال.
5. منح دولًا وشعوبًا كثيرةً الجرأة على التطبيع، على قاعدة "لسنا ملكيين أكثر من الملك".
6. أضعف الفعل المقاوم الشعبي والمسلّح، لأنّه اصطدم مع سلسلةٍ من الاتّفاقيات والمعاهدات الأمنية، التي تحول دون ممارسة المقاومة على الأرض.
7. ساهم في تآكل الطبقة الوسطى في المجتمع الفلسطيني، لصالح وجود طبقتين غنية وفقيرة، بسبب غياب العدالة ومحاربة الفساد والشفافية.
8. قزم دور منظّمة التحرير الفلسطينية، لتصبح إحدى دوائر السلطة الفلسطينية من الناحية العملية والنظرية.
قاد المفاوض الفلسطيني قناةً سريةً انخفض سقفها التفاوضي كثيرًا مقارنةً بقناة مدريد التفاوضية
رابعاً: دوافع إسرائيل للانقلاب على أوسلو، ومستقبل السلطة الفلسطينية
قد يطرح بعضهم سؤالاً: بعدما انقلبت إسرائيل على أوسلو ومزقته، هل من المنطقي مسايرة النهج الصهيوني؟ الإجابة: إسرائيل مزقت أوسلو طمعًا في مزيدٍ من التنازلات، واستغلالاً لحالة الضعف الفلسطيني والعربي، وعليه باتت تعمل ضمن مسارين:
الأول: حسم الصراع، عبر زيادة الاستيطان، والعمليات العسكرية، والحصار الذي يساهم في اقتلاع الفلسطيني من أرضه.
الثاني: وضع السلطة الفلسطينية أمام مسارٍ واحدٍ ووحيدٍ وعليها أن تختار إمّا الالتزام بالاتّفاقيات الأمنية، ما يعني مواجهة المقاومة والقضاء عليها، أو أن تلقى مصيرها الحتمي، عبر إضعافها وصولاً لإنهاء وجودها.
وفقًا لما سبق؛ فإنّ مستقبل السلطة الفلسطينية على المحك، فإن قبلت بالمعادلة الصهيونية، ومعادلة المانحين دون مسارٍ سياسيٍ حقيقيٍ يقبله الشارع الفلسطيني، فإنّ شرعيتها على المستوى الشعبي تتآكل، وستكون على المحك عند أيّ حدثٍ كبيرٍ، ما سيدفع كادرها العسكري إلى لحظة الانخراط بالعمل المسلّح. أما إن رفضت وعملت على تغيير وظيفتها الأمنية، فسيتوقف التمويل الخارجي، وستحاربها إسرائيل، وبذلك سينفرط عقدها، وسيصبح سلاحها بيد الوطنيين منها، ممن يؤمنون بجدوى الكفاح المسلّح مع هذه الفاشية الصهيونية.