في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2019، نفذ الجيش التركي وفصائل سورية معارضة عملية عسكرية ثانية ضد "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، بهدف تبديد مخاوف أنقرة الأمنية من وجود هذه القوات على حدودها الجنوبية، إلا أن العملية أدت إلى تغيير كبير في خريطة السيطرة في الشمال الشرقي من سورية أو ما بات يُعرف بـ"شرقي نهر الفرات".
وسيطر الجيش التركي نتيجة هذه العملية التي أطلق عليها اسم "نبع السلام" على شريط حدودي يمتد بطول أكثر من 100 كيلومتر، ويضم مدينتي تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، ورأس العين في ريف الحسكة، والقسم الأكبر من ريفهما في شرق الفرات.
ولم يواجه الجيش التركي مقاومة في منطقة تل أبيض، حيث سيطر عليها في العاشر من أكتوبر 2019، إلا أنه واجه صعوبة في السيطرة على رأس العين التي شهدت مقاومة كبيرة من "قسد" التي انسحبت من المدينة في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام. ولم تهدأ خطوط التماس بين قوات "قسد" وفصائل المعارضة السورية منذ ذلك الحين، إلا أن الأمر لم يتطور إلى حد الشروع بعمليات واسعة النطاق من قبل أي طرف.
استغل الروس "نبع السلام" لترسيخ وجودهم بشرق الفرات
وكانت القوات الأميركية الموجودة في المنطقة قد انسحبت في حينه، ما مهّد الطريق أمام الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية لشن العملية التي بعثرت أوراق المنطقة التي كانت تسيطر على جلها "قسد".
وقد وجدت هذه القوات، المدعومة من "التحالف الدولي ضد الإرهاب" بقيادة واشنطن، نفسها مضطرة للاستعانة بالروس بعد انسحاب القوات الأميركية، لإيقاف الخطر التركي عند حدود معينة، ما أدى إلى دخول قوات روسية وأخرى تابعة للنظام السوري، وفق اتفاق عسكري، إلى "شرقي الفرات" وخصوصاً في محافظة الحسكة في أقصى الشمال الشرقي من البلاد وهي المحافظة الأكثر أهمية في سورية. وتوقفت العملية في السابع عشر من نوفمبر بعد تدخل من الجانبين الروسي والأميركي.
وفي 22 أكتوبر 2019، اتفق الجانبان التركي والروسي في قمة رئاسية في سوتشي الروسية، على انسحاب "قسد" التي تشكل وحدات "حماية الشعب" الكردية ثقلها الرئيسي، لعمق 33 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، بعيداً عن الحدود التركية، مع تسيير دوريات عسكرية تركية - روسية مشتركة بعمق 5 كيلومترات على طول الحدود، باستثناء المنطقة التي سيطر عليها الأتراك ما بين منطقتي تل أبيض ورأس العين
"نبع السلام" تبدّل خريطة السيطرة شرقي الفرات
وبدلت عملية "نبع السلام" خريطة السيطرة في منطقة "شرقي الفرات" التي أصبحت تضم كل أطراف النزاع في سورية، وهو ما يبقي المنطقة بحالة عدم استقرار بسبب التنافس على النفوذ وخاصة بين الروس والأتراك والأميركيين.
واستغل الروس عملية "نبع السلام" لترسيخ وجودهم العسكري في منطقة شرقي الفرات، وخصوصاً في مدينة القامشلي على الحدود السورية التركية، حيث بات لهم قاعدة في مطار المدينة مرتبطة بقاعدة حميميم، وتضم منظومات دفاع جوي وطائرات حربية.
من جهتهم، عزز الأميركيون من وجودهم في ريف الحسكة الجنوبي والشرقي، حيث حقول وآبار النفط والغاز، إضافة إلى العديد من النقاط العسكرية التي تحول دون اتساع النفوذ الروسي وخاصة باتجاه المثلث الحدودي العراقي السوري التركي عند منطقة عين ديوار.
أمن مفقود في مناطق فصائل المعارضة
وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على عملية "نبع السلام"، إلا أن الأمن ما يزال مفقوداً في المنطقة التي تقع تحت سيطرة فصائل المعارضة، إذ طالما شهدت هذه الفصائل اشتباكات وصراعات على النفوذ والموارد، خلفت قتلى ومصابين بين عناصرها، بالإضافة إلى ضحايا من المدنيين، كان آخرها في مايو/أيار الفائت.
ويضاف إلى ذلك الصراعات بين عناصر الفصيل الواحد لأسباب شخصية أو مناطقية أو عشائرية، أو بسبب خلافات على معابر تهريب. وتستدعي هذه الأحداث عادة تدخلاً عسكرياً تركياً لتطويق ما يحدث والحيلولة دون اتساعه.
عمليات نزوح جراء "نبع السلام"
ووفق بيان صادر أمس الأحد، عن الإدارة الذاتية ذات الصبغة الكردية في الشمال الشرقي من سورية، فإن عملية "نبع السلام" أدت إلى "تهجير نحو 300 ألف مدني من سكان منطقتي تل أبيض ورأس العين، عدد منهم يقيم في مخيمات منتشرة في شرق الفرات في ظروف معيشية صعبة".
وقالت الإدارة في الذكرى الثالثة للعملية، إن المنطقة التي سيطرت عليها فصائل المعارضة السورية شهدت "انتهاكات وجرائم حرب".
إلا أن مصادر محلية في رأس العين، أكدت في حديث مع "العربي الجديد" أن "عدد المهجرين من المنطقة هو أقل من العدد الذي تعلنه الإدارة الذاتية"، مشيرةً إلى أن "عدد سكان منطقة رأس العين التي شهدت أكبر موجة نزوح لا يصل إلى 150 ألف نسمة".
ولفتت المصادر إلى أن النزوح "لم يقتصر فقط على المكون الكردي، بل إن هناك عدداً كبيراً من عرب المنطقة نزحوا منها بفعل العمليات العسكرية، ودخول فصائل المعارضة". وأوضحت أن "هناك جملة أسباب أدت إلى النزوح، منها أن العديد من القرى كانت نقاط اشتباك في العملية العسكرية".
رضوان أوغلو: نبع السلام بددت الكثير من المخاوف الأمنية التركية
من جانبه، قال الناشط السياسي المقرب من الإدارة الذاتية، إبراهيم مسلم، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "نحو 90 في المائة من أكراد تل أبيض ورأس العين نزحوا إلى مناطق الإدارة الذاتية بسبب عملية نبع السلام".
وأشار إلى أنه "تم الاستيلاء على أراضي ومنازل النازحين". وأوضح أن "بعض الفصائل مارست انتهاكات بحق السكان المحليين"، مشيراً إلى أنه "جرى اختطاف سكان من أجل الحصول على أفدية". وقال إنه "لم يبق في منطقة تل أبيض، إلا عدد محدود من العائلات الكردية".
وتعتبر أنقرة "قوات سورية الديمقراطية" امتداداً سورياً لحزب "العمال الكردستاني"، وتنظر إلى هذه القوات على أنها تشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي. وكانت وزارة الدفاع التركية قالت في العام الفائت إن عملية نبع السلام أدت إلى "تطهير" مئات القرى والبلدات من "الإرهابيين"، وعودة نحو 200 ألف سوري بطريقة آمنة وطوعية من الأراضي التركية.
وبحسب المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، فإن عملية نبع السلام في منطقة شرقي الفرات السورية "أسهمت في إفشال مخطط قوات سورية الديمقراطية في إنشاء كيان ذي صبغة كردية في شمال شرقي سورية". وتابع في حديث لـ"العربي الجديد" أن "نبع السلام بددت الكثير من المخاوف الأمنية التركية، والتهديد الأمني اليوم أقل مما كان عليه في عام 2019 قبل الشروع بالعملية".