تونس: مبادرات لتفكيك الأزمات بمواجهة التحريض على الانقلاب

13 ديسمبر 2020
يتوسّع نطاق الاحتجاجات الشعبية في تونس (ياسين قائدي/الأناضول)
+ الخط -

تشهد تونس حالة من التوتر الشديد؛ سياسياً واجتماعياً، مع توسّع نطاق الاحتجاجات الشعبية، وارتفاع منسوب الصراع السياسي إلى الحد الذي بلغ ببعض النواب والسياسيين إلى الدعوة لحل البرلمان وتدخل الجيش، على غرار مطالبة الأمين العام السابق لـ"التيار الديمقراطي" محمد عبو، رئيس الجمهورية قيس سعيد، بتفعيل المادة 80 من الدستور التونسي وإعلان الخطر الداهم، وهو الأمر الذي كرره أيضاً برلمانيون مثل النائب المستقيل من حزب "قلب تونس" حاتم المليكي.
وتنصّ المادة 80 على أنه "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلِنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة. وبعد مُضيّ ثلاثين يوماً على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يُعهَد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه، البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوماً. ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها، ويوجه رئيس الجمهورية بياناً في ذلك إلى الشعب".

يزيد المناخ المتوتر من صعوبة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد

ويزيد هذا المناخ المتوتر من صعوبة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، خصوصاً مع استفحال تداعيات أزمة وباء كورونا. ويبدو أنّ البعض يحاول الاستفادة من تعكير الأوضاع وحالة الفوضى الاجتماعية والسياسية بهدف إنتاج ظروف مماثلة لسنة 2013 التي أدت إلى إعادة ترتيب المشهد عكس ما أفرزته الانتخابات.
في المقابل، يتمسك رئيس الحكومة، هشام المشيشي، بأنّ الاستقرار السياسي هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية التي تمرّ بها البلاد. وقد أوضح في بيان أول من أمس الجمعة أنه "إذا لم يتحقق هذا الاستقرار، فلا يمكن أن تطلق الحكومة خطة لإنعاش الاقتصاد وتكريس منوال (مسار) تنموي أكثر عدالة وأكثر تشاركية".
بدوره، اعتبر رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، أنّ الدعوات لحل البرلمان هي "مواقف غير عقلانية ونوع من الهروب من الأزمة"، وأنّ الدعوات إلى تطبيق المادة 80 من الدستور هي "شعبوية ونوع من الوهم"، مشيراً إلى أنّ "رئيس الجمهورية قيس سعيّد هو رجل قانون ولا يستمع إلى هذا اللغو الذي سيعمّق أزمة تونس". وأضاف الغنوشي، في حوار مع قناة "حنبعل" الخاصة، أول من أمس الجمعة، أنّ "هناك أصواتا قلقة من الانتقال الديمقراطي لجأ أصحابها إلى الحلول الرعوانية، ولكن تونس فيها حكماء وعقلاء".
بدوره، ردّ العميد المتقاعد من الجيش، الرئيس السابق للجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، مختار بن نصر، على دعوات إقحام الجيش في الصراع السياسي، وشدد في منشور عبر حسابه بموقع "فيسبوك"، على أنّ الجيش التونسي هو "جيش جمهوري"، وسبق أن "حمى الشعب والثورة في أحلك الأيام ووقف بحزم لحماية التجربة الديمقراطية الناشئة".

وأشار بن نصر إلى أنّ المؤسسة العسكرية، سارعت خلال الشروع في إعداد دستور 2014 "بمراسلة المجلس الوطني التأسيسي لتضمين بعض المبادئ في الدستور الجديد، وبعد نقاش مضنٍ تمّ تضمين تلك المبادئ"، مضيفاً "وهو ساهر (الجيش) اليوم وغداً على احترامها؛ جيش جمهوري، محايد تماماً مع ضبط مهامه دستورياً، خاضع للسلطة المدنية وللرقابة الديمقراطية". وخلص بن نصر إلى القول إنّ "كل من يتحدث عن الجيش الانقلابي نقول له إن عصر الانقلابات ولى وانتهى، وبقي في بعض أذهان ممن لم يقوموا بالواجب العسكري ولم يفتحوا كتاباً للتعرف على المؤسسة العسكرية التونسية. أفكار فاتها الوقت وأفدح الأخطاء هي القناعات التي تجاوزها الزمن".
وبخصوص محاولة نتاج ظروف أزمة 2013، اعتبر الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري"، عصام الشابي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "الظرف الحالي يختلف عن 2013، وهناك الآن احتكام للدستور الذي يؤطّر العمل السياسي، كما أنّ هناك مؤسسات منتخبة تحظى بالشرعية ولا يمكن القدح فيها". وأضاف: "صحيح أنّ هذه المؤسسات عجزت عن القيام بدورها في إدارة الدولة بشكل عادي، وهناك أزمة سياسية، ولكن في السابق كان هناك خلاف حتى على الشرعية لأنّ الترويكا حينها تجاوزت الفترة المتفق عليها كمدة أقصى لكتابة الدستور، ولكن الآن لا وجود لأزمة الشرعية، بل هناك أزمة حكم، ومعالجتها تكون في إطار الدستور والتمسك بالشرعية". وأشار إلى أنّ "العمل الآن يتركز على توجيه مؤسسات الدولة والبرلمان والحكومة والدفع نحو الحوار من أجل البحث عن توافق وطني لتجاوز الأزمة في ظلّ المؤسسات القائمة".

الشابي: تونس في حاجة إلى إنقاذ من دون أن يكون هناك تنازع على السلطة

وأوضح الشابي أنه "لا يمكن ترك البلاد في مثل هذا الوضع، فالمشهد وصل إلى درجة كبيرة من الاحتقان، ولا بدّ من حوار وطني للاتفاق حول خريطة الطريق لدعم الحكومة ومراقبتها والعمل تحت رقابة الهيئات المنتخبة والأحزاب والمجتمع المدني". واعتبر أنّ "تونس في حاجة إلى إنقاذ من دون أن يكون هناك تنازع على السلطة وعلى الشرعية، فَلَو أنّ الحوار الوطني يضع في جدول أعماله تغيير الحكومة، فإنه سينحرف عن مساره وعن الموضوعية، وعندها يصبح الحوار حول تقاسم كعكة الحكم، مثلما حصل في وثيقة قرطاج 2 (تم التوصل إليها في عام 2018)، عندما تم الاتفاق على 62 نقطة وحصل الاختلاف على تغيير الحكومة".
واعتبر المتحدث نفسه أنّ الهدف يجب أن يكون "سياسات جديدة وليس حكومات جديدة، والضغط لإصلاح الأوضاع وليس تغيير المؤسسات القائمة وحلّ البرلمان، لأن ساعتها ستتحول إلى دعوات انقلابية، وهي مرفوضة. فالمقايضة بين الديمقراطية والاستقرار، وبين الديمقراطية والتنمية، هي مقايضات غير ناجحة وسبق للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي اللجوء إليها ولم ينجح. وتونس يجب أن تحل خلافاتها في إطار الديمقراطية وفي إطار الدستور".

ولفت إلى أنّ جنوح البعض لدعوات الانقلاب مرده إلى أنّ "هناك نخبة ثقافتها الديمقراطية صفر، تدعي الحداثة وهي ليست كذلك. فدعوة الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي محمد عبو لتدخل الجيش ومطالبته رئيس الجمهورية بتفعيل المادة 80، هي دعوات لتحويل الديمقراطية وحكم المؤسسات إلى حكم الفرد". وتابع أنّ "هناك أساتذة في القانون الدستوري اكتشفنا من خلال هذه الأزمة أن لا علاقة لهم بالقانون الدستوري، وهناك استعجال من قبل بعض النخب لتغيير الحكم، فعلى الرغم من انهزام بعضها في الانتخابات، فهي الآن لا تريد أن تصبر ولا تريد إصلاح ما بها من نقائص، بل توظف الأزمة للاستقواء بالمؤسسة العسكرية، وهو ما يدل على ضعف الثقافة الديمقراطية ويعمق الأزمة ولا يحلها".
وقال الشابي إنّ "هناك خلافات عميقة ولكن يجب حلها ديمقراطياً، فالحزب الجمهوري مثلاً لا يتفق مع حركة النهضة، ولكن الانتصار عليها لا يكون إلا بالانتخابات، ونحن نعارض أيضاً الائتلاف البرلماني، وخصوصاً حزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة الذي خرج عن السياق السياسي ومارس العنف والمسّ في مكانة رئيس الجمهورية. فثقافة البلطجة والعنتريات تضرّ بمؤسسات الدولة. وأيضاً نحن في الحزب الجمهوري نعارض عبير موسي وحزبها (الدستوري الحر) وما تفعله في البرلمان من اعتداء على رموز الدولة، فهي تريد أن تعطّل المسار الديمقراطي. وهناك استعداد فطري لدى بعض الحداثيين للتعاون مع الفكر الاستبدادي فقط لأنهم ضدّ النهضة، ولكن منافسة الأخيرة والانتصار عليها لا يكون إلا بالانتخابات، فالقوى الحداثية يجب أن تثبت أنّ لديها ما تضيفه ولديها ما تقنع به الشعب التونسي، وليس الاستعانة بالقوانين الاستثنائية".

القوماني: هناك تحركات من قبل العقلاء لتطويق الأزمة

وتطرح أسئلة حول الخيارات المتاحة أمام الائتلاف الداعم للحكومة في ظلّ هذه الضغوط المتزايدة. وفي السياق، قال القيادي في حركة "النهضة"، محمد القوماني، في حديث مع "العربي الجديد"، إنهم اعتادوا "على مثل هذه الأمور من الأحزاب والأطراف السياسية التي لديها أجندات في الإرباك، خصوصاً تلك التي تضع نفسها في حالة مناكفة مع حركة النهضة، وكل من يبحثون عن منصات ومواقع لخوض معركة ضدّ المسار القائم. فمرة يتم اللجوء لاتحاد الشغل، نظراً لوزنه التاريخي والاجتماعي، وفي هذه المرة يحاولون ركوب الموجة إما ضدّ البرلمان أو الحكومة والأحزاب، والبعض يدفع لإقحام الرئيس قيس سعيد في الصراع السياسي وهو في الحقيقة متفطن لمثل هذه الأمور". وبرأي القوماني، فإنّ رئيس الجمهورية "يدرك جيداً أنّ الدستور يبوئه مكانة الضامن لوحدة الدولة والدستور، وبالتالي من يطالبون بخرق الدستور وبحل مجلس نواب الشعب هم يحرجون رئيس الجمهورية المكلف بحمايته".
ورأى القوماني أنّ "دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل وأطراف أخرى للرئيس ليتحمل مسؤوليته في إدارة حوار وطني أولوياته اقتصادية واجتماعية، هي حلّ واقعي، وله مقوماته بشرط عدم الإقصاء. فكل من له شرعية داخل البرلمان هو طرف في الحوار وأي إقصاء سيفشله، وسيؤدي إلى تعقيد المشاكل". وتابع أنّ "الأغلبية الداعمة للحكومة متمسكة بالمؤسسات ومستمرة في دعمها لحكومة هشام المشيشي، وبيّنت من خلال تمرير الميزانية أنها قادرة على ضمان استمرار المجلس في أداء مهماته". ولفت إلى أنّ هذه الأغلبية "منفتحة على أي حلول ذات طابع سياسي، ولها مقاربتها، ولديها أغلبية شعبية هي التي منحتها المقاعد، ومن يعتقد أن النواب يمثلون أنفسهم فهو واهم لأنهم يمثلون أغلبيات انتخابية، وفي حال زيادة الضغط عليهم والانقلاب على شرعيتهم فهذا سيهز المدافعين عنهم".
ورأى أنّ "الدعوات للانقلاب وإدخال المؤسسة العسكرية في الصراع ليست جديدة وظهرت في السنوات الماضية وتبيّن أن هذه الدعوات الفوضوية لا سند شعبياً لها، وبالتالي ليست هي الخطر، وإنما الخطر الحقيقي هو في المناكفة بين القوى السياسية والاجتماعية وعدم إدراك بعض أطرافها لخطورة التصعيد من دون حدود، خصوصاً عندما تعلو بعض الأصوات على أصوات العقلاء". وأشار إلى "وجود تحركات من قبل هؤلاء العقلاء لتطويق الأزمة، ولا نستبعد التوصل إلى حلول مع الكتلة الديمقراطية، وعادة تهتدي النخبة السياسية إلى ما يساعد على تجنيب البلاد مخاطر العنف الذي لا يتمناه أحد لتونس".
يذكر أنّ الأمين العام للتيار الديمقراطي، غازي الشواشي، رفض دعوة مؤسس التيار المستقيل، محمد عبّو، وأكد في منشور على صفحته بموقع فيسبوك أنه "على الرغم من تعاسة المشهد وتردي الأوضاع على جميع المستويات، وحالة الإحباط والفوضى السائدة في بلادنا خلال هذه المرحلة الانتقالية، تبقى كل الدعوات الرامية للانقلاب على الدستور أو على مؤسسات الدولة أو على مسار الانتقال الديمقراطي مرفوضة وعلى الجميع التنديد بها والتصدي لأصحابها بالحجة والقانون".

شخصيات وطنية تؤيد مبادرة "اتحاد الشغل" بشأن الحوار

وتحاول جهات عديدة في تونس، بحث حلول لفك الأزمة، كاتحاد الشغل وهيئة المحامين، فيما عبّرت شخصيات وطنية تونسية في بيان مشترك أصدرته أول من أمس الجمعة عن تأييدها المبدئي لمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل الداعية إلى عقد مؤتمر للحوار الوطني يتناول الأزمة التونسية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وأكدت هذه الشخصيات أنّ أهم شروط نجاح الحوار الوطني هي "النأي به عن التجاذبات السياسية وتشريك كافة الفرقاء السياسيين والاجتماعيين قصد الخروج عاجلاً ببرنامج انقاذ تتولى السلطات العمومية اعتماده والعمل على تنفيذه".
وأعلن الموقعون على البيان فتح مشاورات مع الرباعي الراعي للحوار سنة 2013 والمنظمات الوطنية الكبرى، مناشدين القوى الديمقراطية بتكثيف التشاور في ما بينها. ومن بين هذه الشخصيات رئيس الحكومة الأسبق، الحبيب الصيد، ومستشار الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، لزهر القروي الشابي، ووزير الخارجية الأسبق خميس الجهيناوي، وغيرهم.

المساهمون