تونس: سنة حزبية صعبة في زمن الانقلاب

13 يوليو 2022
خطر الانقلاب وحّد موقف بعض قوى المعارضة (الشاذلي بن إبراهيم/فرانس برس)
+ الخط -

تعيش الأحزاب والمنظمات في تونس، انقسامات وهزّات منذ 25 يوليو/تموز الماضي، بسبب ارتباك مواقفها من انقلاب الرئيس قيس سعيّد، وموقعها من مشروع الرئيس التونسي الذي تتهمه باستهدافه لها ورفضه العمل معها.

تونس: سنة حزبية صعبة

وعرفت الساحة السياسية في تونس، سنة حزبية صعبة منذ ذلك التاريخ، ومليئة بالانقسامات والخلافات الداخلية، وسط تراجع حضور الأحزاب في المشهد العام وانحسار أدوارها، مقابل تضاعف حضور الرئيس سعيّد، الذي تحول إلى الفاعل السياسي الرئيسي، منفرداً بالسلطات ومركز القرار والمبادرة.

وآخر تجليات التجاذب الحزبي الداخلي، تسجيل حزب "مشروع تونس"، الأسبوع الماضي، استقالة جماعية للمكتب الجهوي للحزب في محافظة تطاوين، جنوبي البلاد، إثر خلاف حول التصويت على الدستور الجديد المطروح من قبل الرئيس سعيّد على الاستفتاء في 25 يوليو الحالي، حيث اتخذت قيادة الحزب قراراً بمقاطعة الاستفتاء، بينما دعا المكتب الجهوي إلى التصويت بنعم.

ضربت الخلافات الأحزاب الأكثر تنظيماً وهيكلةً، والأكثر تمثيلاً في البرلمان

وعموماً، فإن موجة الخلافات الحزبية في تونس كانت واسعة، وطاولت حتى الأحزاب الأكثر تنظيماً وهيكلة، والأكثر تمثيلاً في البرلمان، بحسب نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي أجربت في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019.

ولم تقف الانشقاقات بعد 25 يوليو الماضي، عند حركة "النهضة"، أكبر الأحزاب البرلمانية، حيث شهد حزب "قلب تونس" (الذي حلّ ثانياً من حيث عدد المقاعد في انتخابات 2019)، انشقاقات واستقالات بشكل غير مسبوق، وسارعت غالبية نوابه وقياداته إلى الانسحاب من الحزب والتنصل من مواقفه، بمجرد إعلان سعيّد تعليق عمل البرلمان وحلّ الحكومة في 25 يوليو 2021، وخصوصاً بعد مغادرة رئيس الحزب نبيل القروي البلاد.

كذلك، ضربت رياح 25 يوليو، الأحزاب التي ساندت سعيّد، واليسار، بالإضافة إلى المنظمات الوطنية، على غرار "اتحاد الفلاحين" و"رابطة حقوق الإنسان"، وحتى عمادة المحامين.

انشقاق عمادة المحامين

وبلغ الانشقاق صفوف عمادة المحامين حدّ رفع شكوى استعجالية في محكمة العاصمة تونس، ضد العميد إبراهيم بودربالة (عيّنه سعيّد رئيساً للجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، إحدى لجان الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة، التي شكّلها سعيّد لصياغة الدستور الجديد)، طالب خلالها محامون معارضون للانقلاب بتعيين مؤتمنين عدليين لتسيير الهيئة الوطنية للمحامين، حتى إجراء المؤتمر الانتخابي وتسليم رئاسة الهيئة.

وانتهت ولاية بودربالة رسمياً في 6 يوليو الحالي، بينما أجّل هو، الجلسة الانتخابية العامة للهيئة، إلى 10 و11 سبتمبر/أيلول المقبل. واعتبر جزء هام من المحامين الغاضبين أن العميد لم تعد له أي صفة ليتحدث باسم المحامين، وخصوصاً بشأن مساندته اللامشروطة لسعيّد وقراراته.

بدورها، لم تعرف "منظمة الفلاحين" استقراراً بسبب تصاعد الخلاف بين شقٍّ فيها داعم لسعيّد وآخر مناهض له، والذي بلغ حد بروز قيادتين تتصارعان على الرئاسة. وتضم الأولى الرئيس المنتخب عبد المجيد الزار، والثانية بزعامة نائبه نور الدين عياد الذي اعترف به سعيّد.

من جهتها، تعيش رابطة حقوق الإنسان التونسية تململاً غير مسبوق داخل قيادتها المركزية، ومع مكاتبها الجهوية، بسبب الاختلاف حول الموقف من مساندة مسار 25 يوليو وصياغة الدستور الجديد.

وتعيش الرابطة انقساماً واضحاً بسبب اختلاف المواقف داخلها منذ بداية الانقلاب، وهو ما تواصل مع نشر الدستور الجديد. وأصدرت مجموعة من ناشطي الرابطة، منذ أيام، بياناً، اعترضت فيه على ما صدر من رئيسها جمال مسلم، وموقفه النقدي لمشرع الدستور، مطالبة بعقد مجلس وطني للرابطة في أقرب وقت.

موجة استقالات داخل حركة "النهضة" التونسية

وشهدت حركة النهضة موجة استقالات واسعة في سبتمبر/أيلول 2021، شملت نحو 120 عضواً، بسبب "الإخفاق في الإصلاح الداخلي للحزب والقرارات الخاطئة لقيادته الحالية التي كانت من بين مسبباتها تمهيد الطريق لانقلاب 25 يوليو"، بحسب بيان للمنسحبين.

وأعلنت مجموعة من القيادات المستقيلة، يتقدمهم وزير الصحة الأسبق عبد اللطيف المكي، أخيراً، تأسيس حزب" العمل والإنجاز" (أعلن عن تأسيسه في 28 يونيو/حزيران الماضي)، الذي يضم نواباً وقيادات مركزية كانت فاعلة داخل حركة "النهضة".

وأكد القيادي في حزب "العمل والإنجاز"، الدكتور أحمد النفاتي (مستقيل من "النهضة")، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "البلاد بلغت قبل 25 يوليو حالة من الانحباس السياسي ساهم فيه الجميع بأقدار متفاوتة، وعلى رأسهم الرئيس قيس سعيّد الذي لا ننسى أنه هو من اختار رؤساء الحكومات المتعاقبة بعد انتخابات 2019، وكان رافضاً للحوار منذ تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ".

النفاتي: سعيّد يستمد قوته منذ فترة من تشتت معارضيه

وأشار النفاتي إلى أن "حركة النهضة ارتكبت خطأ فادحا عندما تسرعت وساهمت في إسقاط حكومة الفخفاخ دون تحضير بديل يحقق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي في وضع حرج ومتقلب تمر به البلاد." ولفت النفاتي في هذا الإطار، إلى أن "تشبث حركة النهضة بـ(رئيس الحكومة السابق هشام) المشيشي عمّق الهوة مع رئيس الجمهورية وفتح الطريق أمام الأخير نحو تعكير الأوضاع السياسية، فقد تبين أن الرئيس كان يبحث عن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي حتى يطلق مشروعه الشخصي".

ورأى النفاتي أنه "بعد 25 يوليو، لم تستوعب قيادة النهضة خطورة المرحلة، إذ تعالت أصوات من داخلها تطالب بتجديد قيادي فوري، ونذكّر ببيان تصحيح المسار الذي وقعه نحو 200 قيادي شاب من الحركة طالبوا فيه القيادة بتحمل مسؤوليتها التاريخية والاستقالة من قيادة الحركة، ولكن لم تكن هناك آذان صاغية لكل صوت يطالب بالتجديد داخل النهضة".

وبيّن النفاتي أن "تشبث رئيس البرلمان، راشد الغنوشي (رئيس حركة النهضة)، بموقعه، وقف عائقاً أمام انخراط العديدين في النضال من أجل تفعيل دور البرلمان وعودة المسار الديمقراطي".

أما بالنسبة لسعيّد، فأكد النفاتي أن "الرئيس لا يؤمن بالحوار ولا يؤمن أصلاً بالجلوس مع الأطراف السياسية الفاعلة، فمشروعه قائم على إلغاء واجتثاث كل الكيانات الوسيطة، بل إنه لا يؤمن بدورها أصلاً".

وذكّر القيادي في حزب "العمل والإنجاز"، بأنه "حتى الأحزاب التي هلّلت لانقلاب 25 يوليو وساندت مشروع الرئيس، لم يعترف بها الأخير، ولم يقم بتشريكها، ولو شكلياً، في المسار الذي يريد رسمه لتونس، ما جعل العديد من هذه الأحزاب تراجع موقفها".

ورأى النفاتي أن "سعيّد يستمد قوته منذ فترة من تشتت معارضيه، ولكن في الفترة الأخيرة تبين لهذه القوى أن الرئيس يقوم بعملية تفكيك للدولة تدريجياً وإلغاء لكل أدوار الأجسام الوسيطة". وأضاف أن "هذا الخطر ساهم في توحيد موقف المعارضة من الانقلاب ولعلّها تكون خطوة أولى لتكوين جبهة وطنية تنخرط فيها كل القوى الديمقراطية متجاوزة خلافاتها التي تبين أنها ثانوية أمام خطر انهيار الدولة وإفلاسها".

شرخ داخل "حركة الشعب"

ولم تقتصر الانقسامات على الأحزاب التي كانت حاكمة قبل 25 يوليو 2021، فحتى أحزاب المعارضة والمساندون لمسار الانقلاب في بداياته عرفت انسلاخات واستقالات غير مسبوقة.

وشهدت حركة الشعب (المساندة لسعيّد) كذلك شرخاً داخلها، باستقالة عدد من قياداتها الجهوية والمركزية، في إطار تصحيح المسار داخل الحركة واحتجاجاً على مؤتمرها الأخير (في مارس/آذار الماضي) وانتخابات مجلسها الوطني قبل أيام.

وعرفت الحركة تناقضاً في تصريحات قياداتها المركزية، خصوصاً بسبب العلاقة بالرئيس سعيّد الذي يرفض الحوار مع الحركة أو لقاء هؤلاء القياديين، على الرغم من دعمهم المتواصل لمسار 25 يوليو.

عصفت الانقسامات بأحزاب اليسار التونسي بعد 25 يوليو

وفي السياق، كتب القيادي في حركة الشعب ووزير التعليم الأسبق، سالم لبيض، في منشور على صفحته بموقع فيسبوك أخيراً "من المفارقات أن الرئيس سعيّد قرّر وهو في كامل وعيه، أن يقصي من الحوار الوطني والإصلاحات السياسية المرتقبة، أحزاب الموالاة الداعمة لواقعة 25 يوليو 2021 ومسارها، قبل إقصاء الأحزاب المعارضة لمشروعه، فهي منذ البداية لم تكن معنيّة بخياراته".

وأضاف لبيض أن "أحزاب الموالاة اليوم أمام محنة حقيقية، فإما أن تعلن رفضها للإقصاء ومعارضة سياسات سعيّد بكل وضوح ومن دون مواربة وتلوّن... لأنها أعمدة العملية السياسية والديمقراطية كما هو متعارف عليه في كل الدول الديمقراطية، أو أن تغلق مقرّاتها ودكاكينها إن هي قبلت بأنّ ممارسة السياسة والتفكير في قضاياها هما من حق الخبراء وبعض منظمات المجتمع المدني دون سواهم، وأن ممارسة السلطة والحكم هي من حقّ الرئيس وحده".

ويعيش "التيار الديمقراطي" بدوره ارتباكاً، ويشهد انسحابات غير معلنة من قبل عدد من قياداته ونوابه، بسبب ضبابية المواقف منذ 25 يوليو، وتحوّله من المساندة المشروطة والدعم الحذر لمسار سعيّد إلى معارضة الأخير، ثمّ مناهضة مشروعه والتصدي له أخيراً.

انقسامات داخل أحزاب اليسار التونسي

وعصفت الانقسامات كذلك بأحزاب اليسار التونسي بعد 25 يوليو. فعلاوة على حزب "المسار الديمقراطي الاجتماعي" الذي تعقدت الأمور داخله، وانشطر ببروز تيار "مساريون لإصلاح المسار"، انسلخ عشرات الناشطين الذين يعدّون من صلب حزب العمّال، عنه، في إبريل/نيسان الماضي. وعرض المستقيلون في بيان أصدروه باسم مجموعة "قاوم"، مبررات قرارهم، وذلك بـ" بدخول حزب العمّال، بقيادة لجنته التنفيذية وقياداته التاريخية "في مسار انحرافي، انتهى به إلى حزب يشتغل حصرياً على المحطات الانتخابية، ما جعله يتحوّل إلى محض منصة دعائية لعدد من رموزه على حساب العمل في صفوف الجماهير".

وحمّل البيان القيادة النافذة في الحزب، مسؤولية تلاشي "الهوية الثورية للحزب، وفشل تجربة ائتلاف الجبهة الشعبية (ائتلاف يساري معارض) بسبب نزعات فردية زعامتية وانتخابية"، مضيفاً أن "الحزب فشل أخيراً أيضاً في كيفية التعاطي مع تحركات 25 يوليو ومع انقلاب قيس سعيّد على المسار الثوري".

كذلك، تسلّل الارتباك إلى حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" اليساري، الذي قرّر أخيراً فصل نائبه الوحيد في البرلمان المنحل، والقيادي الأبرز في الحزب، منجي الرحوي، وسحب عضويته بسبب مشاركته في الحوار الوطني الذي دعا إليه سعيّد، على الرغم من معارضة حزبه للانقلاب.

الأحزاب التونسية ومخاض الفرز الديمقراطي

وتعليقاً على ذلك، قال القيادي في تنفيذية حراك "مواطنون ضد الانقلاب"، لمين البوعزيزي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "رياح الانقلاب ضربت تماسك الأحزاب، وتسرّبت نحو المنظمات، بسبب الاختلاف أولاً حول تقييم الموقف من الانقلاب، ثم حول التموقع في معركة الدفاع عن الديمقراطية".

ورأى البوعزيزي أن "الأحزاب تعيش مخاض الفرز على أساس الديمقراطية، وتبحث عن ثبات في مواجهة الانقلاب وإرباك مؤسساتها وقياداتها".

واعتبر البوعزيزي أن "سلطة الانقلاب تتلاعب ببعض الدكاكين التي اختارت لنفسها ذلّ الموالاة من دون أن يطلب منها ذلك، وأخرى حاولت التزلف والتقرب من الرئيس، ولكن من دون جدوى، فضلاً عن مجموعة أخرى تبدّل موقفها لشعورها بأنها سائرة للاندثار والانحلال، باكتشافها متأخراً مشروع سعيّد المعادي للأحزاب والكيانات الوسيطة".

وأوضح المتحدث نفسه أن "سعيّد يعادي كل الأجسام الوسيطة ويعتبرها حاجزاً دون الحكم المطلق، وهو يرى في مشروعه القاعدي الهلامي أن الحاكم يجب أن يكون متصلاً بالشعب رأساً، فلا يحتاج إلى وسائط بينه وبين الشعب من قبيل الأحزاب والمنظمات والهيئات".
واعتبر البوعزيزي أن "الانقلاب أصبح داءً معدياً يجب التصدي له، فكل حزب أو منظمة اقتربت منه أصبحت تعاني انشقاقات وسجالات وخلافات بسبب انسياق رئيسها معه ومعارضة مكوناتها؛ فمثلاً العميد (عميد المحامين) موال، والمحامون رافضون، ورئيس الرابطة يساند والرابطيون مناهضون".

المساهمون