تمر سحابة كثيفة من الكآبة والقلق الجماعي فوق تونس. لا يعود ذلك فقط إلى بلوغ الموجة الرابعة من فيروس كورونا ذروتها، وارتفاع عدد الضحايا إلى أرقام قياسية، بل يشعر التونسيون بأن كل شيء تقريباً يبدو مضطرباً ومأزوماً: السياسة، الاقتصاد، الأوضاع الاجتماعية، الحياة النفسية والعاطفية للأفراد. حالة غريبة تكاد تكون غير مسبوقة في تاريخ البلاد. 92.8 في المائة من التونسيين يشعرون بتشاؤم حاد، لاعتقادهم بأن بلادهم تسير في الطريق الخطأ. قد يشكك البعض في جدية استطلاعات الرأي التي تنظم بشكل دوري، ويعتبرونها جزءاً من حرب الأعصاب التي يشنها البعض، لكن الواقع المعيش ليس بعيداً عن النتائج المعلنة.
بدأت ثقة التونسيين برئيس الجمهورية قيس سعيّد تتراجع بوتيرة سريعة
في الأيام الأخيرة بدأت ثقة التونسيين في رئيس الجمهورية قيس سعيّد تتراجع بوتيرة سريعة. وظهر في استطلاع أخير تراجع سعيّد عن المرتبة الأولى التي احتفظ بها لأكثر من سنة ونصف السنة، فاسحاً المجال لوزير الصحة السابق عبد اللطيف المكي، وهو من بين أحد المرشحين الأقوياء لخلافة راشد الغنوشي على رأس حركة "النهضة". ويعود السبب الرئيسي في هذا التراجع إلى شعور يزداد انتشاراً في صفوف المواطنين بأن رئيسهم لا يملك حلولاً لهذه الأوضاع الصعبة، ولم ينجح حتى الآن في معالجة أي ملف من الملفات، خصوصاً تلك التي تندرج ضمن صلاحياته الدستورية.
ويبدو أن سعيّد أدرك خيبة أمل الشعب في قدراته السياسية، لذلك يحاول تصحيح سلوكه، ومراجعة أولوياته. لقد شعر، ولو بشكل متأخر، أن الخطر الداهم حالياً لا يكمن في ارتباك النظام السياسي، ولا في خروج رئيس الحكومة عن طوعه، وليس ما يسميه "اختطاف" راشد الغنوشي وحركة "النهضة" للبرلمان. توقف الرئيس عن الحديث، ولو بصفة مؤقتة، عن المطالبة بتغيير الدستور أو تجميده، بعد أن نادى بالعودة إلى دستور 1959 وما قد يترتب على ذلك من تغيير الأولويات الوطنية. ولعل ذلك يعود إلى ما طرحه أحد فقهاء القانون الدستوري حول احتمال أن تطالب بعض الدول الأوروبية بمعاقبة تونس، نظراً للإرباك الذي يمكن أن يتسبّب فيه مثل هذا التوجه السياسي. وتتمثل أولوية البلاد اليوم في التصدي لفيروس كورونا وتداعياته الاقتصادية، لهذا قبل سعيّد التعاون مع رئيس الحكومة هشام المشيشي ومساعديه على مضض، عبر تشكيل لجنة رئاسية تتولى متابعة الوضع الصحي العام، وتنتقل إلى الولايات المنكوبة لتنفيذ التعليمات الرئاسية.
هذا التوجه العملي سيكون أفضل لسعيّد من استعانته ببعض جنرالات الجيش والقادة الأمنيين، وأجدى من تهجّمه على عدد من الإعلاميين الذين انتقدوه بشدة ووصفهم بـ"المأجورين"، أو إحالة بعض المدونين إلى المحكمة العسكرية، مثيراً سخط نقابة الصحافيين والجمعيات الحقوقية.
كان لهذا السلوك الرئاسي الأخير الأثر الإيجابي حتى على نشاط رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي سارع إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات الصحية، مبدياً استعداده لتفعيل قرارات سابقة بقيت حبراً على ورق، مثل تسخير المصحات الخاصة لمعالجة مرضى كورونا وإنقاذ الأرواح ومنع الانهيار الكامل لقطاع الصحة العمومية.
في سياق موازٍ، عبّرت 114 جمعية ومنظمة مدنية عن استعدادها للقيام بحملة وطنية لإقناع التونسيين المتخوفين من التلقيح، إذ لا تزال الأغلبية ترفض تلقّيه. كما أن انتقاد الحكومة ورئاسة الجمهورية وتحميلهما مسؤولية عدم توفير اللقاحات، أعاد تحريك هذه المسألة الحيوية في الحرب ضد الفيروس، ودفع بالمشيشي إلى الإعلان عن أن حكومته تقدمت بطلب للحصول على 14 مليون جرعة، مشيراً إلى وجود مجهود دبلوماسي لتجاوز الأزمة العالمية في أسواق اللقاحات.
بدا اقتراح "النهضة" الحكومي مفاجئاً للكتل النيابية
هذه الأجواء الجديدة التي تصب في اتجاه إعطاء الأولوية المطلقة لمقاومة الفيروس، شجعت بعض الأطراف الداعية إلى منع انعقاد مؤتمر "الاتحاد العام التونسي للشغل" في مدينة سوسة، التي تُعتبر من بين أهم الولايات المنكوبة صحياً. وقد تجرأ القضاء حين أصدر حكماً منع بموجبه أعمال المؤتمر، وذلك على الرغم من قوة النقابات ووزن الاتحاد، الذي أصبح بشهادة العديد من المراقبين أقوى حتى من سلطة الدولة الضعيفة والمرتبكة.
على الرغم من ذلك، لا يزال قطار البرلمان متعثراً جداً، ويسير ببطء قاتل. فجلساته متقطعة بسبب استمرار التدافع بين نوابه وكتله، إلى درجة استعمال العنف المباشر وغير المبرر أخلاقياً وسياسياً. هذا العنف الذي أعاد الهجوم ضد الغنوشي، مع قرار المعارضة من جديد العمل على إسقاطه، على الرغم من أن الأغلبية البرلمانية لا تزال مساندة له، وترفض الدخول في مغامرة جديدة.
هذا الصراع الذي تخوضه المعارضة ضد حركة "النهضة"، باعتبارها العمود الفقري للأغلبية البرلمانية، جعل الحركة تقترح في مجلس الشورى الأخير لها، في الأسبوع الماضي، تشكيل حكومة سياسية، يتحمّل أصحابها مسؤولياتهم أمام الشعب. مقترح فاجأ الجميع، لأنه بدا وكأن الحركة تلوّح برسالة جعلت البعض يفهم من خلالها أن مرحلة المشيشي قد انتهت، وأن "النهضة" مستعدة للتفاوض مع رئيس الجمهورية حول حكومة بديلة برئيس جديد. لكن هذا السيناريو لا يزال مستبعداً حالياً ما لم يحصل تقارب حقيقي بين الغنوشي وسعيّد. فـ"النهضة" غير مستعدة للتنازل عن المشيشي، على الرغم من تراجع أدائه الحكومي، وذلك في غياب صفقة واضحة المعالم مع رئيس الجمهورية من جهة، ومع حلفائها من جهة أخرى.