لم يعد هناك شك في تونس بأن القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو/تموز الماضي، ووصفها البعض بالانقلابية، أحدثت زلزالاً في الساحة السياسية، وخلقت واقعاً جديداً لن يكون بالإمكان تخطيه في أي استحقاقات قريبة. وفيما بات واضحاً تراجع التأييد الشعبي للأحزاب التقليدية التي شاركت في الحكم خلال السنوات الأخيرة، بسبب ما يعتبره كثير من التونسيين إخفاق هذه الأحزاب في إخراج البلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن المؤشرات تشير إلى تقدّم سعيّد في الحصول على الرضا الشعبي، وفق استطلاعات الرأي، خصوصاً بعد القرارات الشعبوية التي اتخذها، وبدا فيها كمن يطيح بالمنظومة القائمة التي تأجج الغضب عليها خلال سنوات.
يؤشر استطلاع رأي إلى أن المشهد التونسي، الحزبي بالخصوص، مقبل على متغيرات كبيرة
لكن هذا التأييد لسعيّد، يبقى مرتبطاً بمدى قدرته على تغيير الواقع الاجتماعي، ونجاحه في تحقيق الوعود التي قطعها للتونسيين، وإلى أي حد سيتمكن من تمديد صبرهم على تغييرات ستتطلب وقتاً طويلاً لتحقيقها. كما تبرز أسئلة أخرى كثيرة، تتعلق بالمنظومة السياسية والقانونية التي سيعتمد عليها سعيّد لقطع هذه الطريق الطويلة والخطرة، وكيفية إقناع التونسيين بمشروع غامض قد يشكّل تهديداً واضحاً للحريات والمسار الديمقراطي في البلاد، مع تخوفات من تفرده بالحكم، خصوصاً مع دعوة كثيرين من مؤيدي قرارات سعيّد لتمديد العمل بالوضع الاستثنائي، وهو ما يخالف الدستور الذي ينصّ على مدة 30 يوماً لإنهاء تجميد عمل البرلمان وغيرها من القرارات التي اتخذها سعيّد في 25 يوليو.
وفي جديد الانعكاسات لما بعد قرارات سعيّد، كشف استطلاع رأي، لشهر أغسطس/آب الحالي، أنجزته مؤسسة "سيغما كونساي" بالتعاون مع صحيفة "المغرب"، نُشر أمس الأول الثلاثاء، عدداً من النتائج اللافتة، والتي تؤشر إلى أن المشهد التونسي، الحزبي بالخصوص، مقبل على متغيرات كبيرة في المرحلة المقبلة، على الرغم من نسبية هذه النتائج ومحدوديتها في الزمن، إذ يجيب من تم استجوابهم في العموم عن سؤال "لمن ستصوّت لو جرت الانتخابات غداً"، وهو ما يعني أنها تعكس حالة اجتماعية وسياسية آنية، يمكن أن تتغير مع تغير الظروف، ولو على المدى المتوسط.
وبيّنت النتائج التي شملت آراء 1707 تونسيين، حصول حزب قيس سعيّد، الذي لا وجود له في الساحة أصلاً، على نسبة 20.1 في المائة من نوايا التصويت. وبالنسبة لنوايا التصويت في الانتخابات التشريعية، أشار استطلاع الرأي إلى تقدّم الحزب "الدستوري الحر" بـ30.8 في المائة، مقابل 20.1 في المائة لـ"حزب قيس سعيّد"، وتليه حركة "النهضة" بـ10.9 في المائة، ثم "قلب تونس" بـ7.8 في المائة، و"التيار الديمقراطي" بـ5.9 في المائة، مع العلم أن 74.6 في المائة من المستجوبين لم يدلوا بنوايا تصويتهم في التشريعية.
وفي ما يتعلق بنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية، تصدّر سعيّد المرتبة الأولى بنسبة 91.9 في المائة، تليه عبير موسي بـ2 في المائة والصافي سعيّد بـ 1.4 في المائة، ثم نبيل القروي بـ1.3 في المائة، ويليه المنصف المرزوقي بـ1.2 في المائة، مقابل رفض 23.9 في المائة من المستجوبين التعبير عن نوايا تصويتهم في الرئاسية. وأظهر الاستطلاع كذلك أن 77.1 في المائة من التونسيين يرون أن البلاد تسير في الطريق الصحيح، وأن 94.9 في المائة من التونسيين يساندون قرارات سعيّد.
حصل حزب سعيّد، الذي لا وجود له في الساحة أصلاً، على نسبة 20.1 في المائة من نوايا التصويت
وعن هذه النتائج، قال المدير العام لمؤسسة "سيغما كونساي"، حسن الزرقوني، إن المشهد لن يعود كما كان في السابق. وأضاف، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن سرعة التغيير كبيرة، خصوصاً لدى الأحزاب ذات المرجعية الأيديولوجية القوية، وأحزاب كـ"النهضة" وحتى "الدستوري الحر" يمكنها أن تصمد وتبقى موجودة، ولكن المشهد برمته بصدد التغيير، لأن الناس نفرت من الأحزاب، وفهمت أن الحياة السياسية يمكن أن تستمر من دونها. وتابع: "هناك مستجدات كبيرة ستحصل، والإخفاق ظهر للأحزاب التي لم تكن ناجعة، ولم تقدم سياسات عامة تنفع البلاد والمجتمع". وفيما يتعلق بالانتخابات التشريعية ونسبة الـ74 في المائة التي امتنعت عن تقديم نواياها في التصويت، أوضح الزرقوني أن "هؤلاء لا يؤمنون بالتشريع البرلماني، بمعنى أنهم لم يلمسوا نجاعة وقوانين تنفعهم"، مضيفاً أن هناك "نفوراً من الانتخابات التشريعية مقابل إيمان بالتصويت في الرئاسية". وتابع: "إنهم يؤمنون بالشخص الذي يقرر، وهو ما يبحث عنه الناس، أي يريدون التنفيذ والإنجاز". وبين أن "هناك أصواتاً لسعيّد جاءت من النهضة وائتلاف الكرامة، لأن سعيّد شخصية محافظة في الحقيقة، وهو أيضاً ليس من الخط الوطني الكلاسيكي الدستوري. وعلى الرغم من هذا، فإن هناك جزءا من الجسم الانتخابي للدستوري الحر يعجبه سعيّد بسبب تنافره مع حركة النهضة".
من جهته، رأى المحلل السياسي ماجد البرهومي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن سعيّد "نجح في قلب موازين القوى الحزبية، وفي تغيير المشهد السياسي بشكل كبير وواضح منذ 25 يوليو الماضي". وأضاف: "على الرغم من التحفظات حول نتائج سبر الآراء واستطلاعات الرأي العام، ومدى صدقيتها وتوجيهها نحو صناعة رأي عام، فإن نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة تتماهى مع الواقع وقريبة مما يحدث في الشارع التونسي، إذ يستأثر سعيّد بإعجاب التونسيين الذين يتطلعون إلى التغيير والإصلاح، وإلى محاربة الفساد، وإلى شخصية قوية وحازمة". وتابع أن "سعيّد نجح في سحب أنصار العديد من الأحزاب ومناصريهم من الفكر الثوري، والمحافظين من داعمي الإسلام السياسي، بإعلانه الحرب على الفساد".
ماجد البرهومي: نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة قريبة مما يحدث في الشارع التونسي
وأوضح البرهومي أن سعيّد "استقطب كذلك الدستوريين والتجمعيين، فلا ننسى مغازلة سعيّد لهؤلاء بزيارته ضريح الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ومدحه له، ولمساهمة الدساترة في معركة التحرير وبناء الدولة، إلى جانب نجاحه في إبعاد النهضة ومواجهتها، الشيء الذي زاد من مكانته عندهم". وأضاف: "حتى وإن كانت لعبير موسي (رئيسة الحزب الدستوري الحر) شعبية كبيرة، فإنها لن تستطيع مقارعة سعيّد في الرئاسيات بالعودة للعقلية السائدة، والتي لا ترى في المرأة رئيساً للبلاد، وهذه العقلية ليست حكراً على المجتمعات العربية والإسلامية، بل إنها سائدة حتى في المجتمعات الغربية، كفرنسا والولايات المتحدة". وتوقع أن ينجح سعيّد في دورة رئاسية ثانية إن أقدم على الترشح، على الرغم من صعوبة ما يقدم عليه من مخاطرة، مشيراً إلى أنه "أمام خيارين أحلاهما مرّ، لأن الدخول في مواجهة مع الحيتان الكبيرة واللوبيات لن تتركه يعمل بسلام، وفي المقابل فإن الحكم يقلص الشعبية، بحكم التحديات والطلبات والصعوبات". وأشار إلى أنه على مستوى التشريعيات "ففرضية التصويت لحزب سعيّد متوقعة باعتبار شعبيته المتزايدة"، مرجحاً أنه "لو كان لسعيّد حزب سياسي فإنه سيكون في المرتبة الأولى"، مفسراً بأن "سبب تواجده في استطلاع الرأي في المركز الثاني بعد حزب عبير موسي لأن الحزب غير موجود أصلاً، ومشروع سعيّد ما زال لم يتضح بعد".
أما الباحث في القانون الدستوري والقانون النيابي، رابح الخرايفي، فتحدث، في تدوينة على صفحته في "فيسبوك"، عن "تعاظم مزاج التأييد الشعبي لسعيّد بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها بتاريخ 25 يوليو، ونجاح اليوم الوطني للتقليح ضد وباء كورونا. وقد كانت نتيجة هذه الإجراءات إنهاء الاستقطاب السياسي الثنائي العبثي، النهضة-الدستوري الحر، وتدمير منظومة الأحزاب القديمة". وتابع: "يبقى التفكير في هل أن هذا التأييد من مخزون الذين كانوا رافضين التصويت، أم الذين صوّتوا للأحزاب الصغرى، أم من الاثنين؟ وهذا التأييد يجرنا إلى طرح سؤال كيف ستتشكل الحياة السياسية في تونس؟". وأمام هذا المد، وما أحاط به من تعليقات، بين مهرجان المتفائلين بالمشهد الجديد والمتشائمين منه، تساءل القيادي في حزب "التيار الديمقراطي" سفيان المخلوفي "لماذا يخشى الـ94.90 في المائة (المساندين لقرارات سعيّد) الـ5.1 في المائة، ويمعنون في وصفهم بكل النعوت؟". وأضاف، في تدوينة على صفحته في "فيسبوك": "هل هي خشية الأغلبية من خطأ اختياراتها؟ أم الخشية من أن تكون الأقلية على حق، أم أن عقلية رفض الآخر، ورفض الاختلاف هي الأساس لدينا؟ فالمرحوم الحبيب بورقيبة عندما قالوا له لقد انتخبك 99 في المائة من الناخبين، أجابهم لماذا لا يريدني الواحد في المائة المتبقون، يجب إقناعهم للالتحاق بالأغلبية".