لا يزال المشهد السياسي في تونس على حاله، على الرغم من صعوبة الأوضاع وتصاعد مخاطر الموجة الثالثة من وباء كورونا، حيث اقترب عدد الوفيات من حدود المائة يومياً. وينتظر البعض أن يُقدم الرئيس قيس سعيّد على خطوة من شأنها أن تزيل هذا الركود القاتل وتفتح المجال نحو عودة النشاط الحكومي إلى سالف عهده، وإطلاق الحوار الوطني الذي لا تزال معظم الأطراف متمسكة به.
وعمّقت زيارة الرئيس التونسي إلى القاهرة، أخيراً، الصراع الداخلي بين الأطراف السياسية، إذ كانت مناسبة للبعض للمطالبة بضرورة تبني النموذج المصري في مقاومة الإسلام السياسي، وإخراجه من اللعبة السياسية المحلية، حتى لو أدى ذلك إلى تحجيم الديمقراطية وغض الطرف عن حقوق الإنسان.
عمقت زيارة سعيد إلى القاهرة الصراع الداخلي بين الأطراف السياسية
كان هذا التفكير مكبوتاً لدى عدد من السياسيين والمثقفين، لكنه اليوم أصبح أكثر وضوحاً وأعلى صوتاً. فالذين يتحدثون عن أزمة النموذج التونسي وفشله، يقارنونه بالنموذج المصري الذي يعتبرونه أكثر "استقراراً ونجاحاً ونمواً". أي أن الديمقراطية التونسية أدّت، حسب هؤلاء، إلى عدم الاستقرار السياسي، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وصعود الإسلام السياسي وما صاحبه من مخاطر الإرهاب وتهديد الدولة، وهو ما جعل موقع "المونيتور" الأميركي يرى في زيارة مصر "محاولة من قيس سعيد لتدويل خلافه الداخلي مع حركة النهضة، وكأنه يطلب الدعم من الرئيس المصري (عبد الفتاح السيسي) في هذا الملف". كذلك اعتبر الموقع أن "الفجوة مستقبلاً بينه (سعيد) وبين حركة النهضة ستتعمق أكثر فأكثر".
يحاول رئيس "النهضة"، رئيس البرلمان التونسي، راشد الغنوشي، تجنب أن تصطدم حركته مرة أخرى برئاسة الجمهورية. صحيح أن قواعد اللعبة بعد الثورة تغيرت كثيراً، لكن مواصلة الاشتباك مع سعيّد لن تكون في مصلحة "النهضة". فالرئيس، وإن كانت صلاحياته محدودة، إلا أنه قادر على تعطيل الحياة السياسية، كما أن بإمكانه إزعاج الحركة وأن يتسبب لها بمشاكل عديدة.
حتى لو فكرت الحركة جدياً في إزاحة سعيّد، فإن ذلك يفترض أن تُمسك بين يديها بجميع خيوط اللعبة، وأن يساندها في هذا الأمر عدد واسع من الأطراف والكتل البرلمانية للمطالبة بسحب الثقة من الرئيس. إلى جانب ذلك، يضع الدستور شروطاً معقدة لتمرير لائحة الإعفاء، إذ ينص الفصل 88 على أنه "يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معلّلة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه. وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية الثلثين من أعضائها". أي أن الداعين إلى عزل الرئيس عليهم أن يجمعوا ثلثي عدد النواب. وحتى في صورة حصولهم على النصاب، فإنه لا يمكن دستورياً تحقيق هدفهم إلا بوجود المحكمة الدستورية، وهو الشرط الغائب حتى الآن، وفي غيابه يكمن جزء من الصراع الدائر حول توفير الضمانات الضرورية لبعث هذه المحكمة.
يحاول الغنوشي تجنّب أن تصطدم "النهضة" مرة أخرى برئاسة الجمهورية
هناك من بين كوادر "النهضة" من دعا صراحة أو ضمنياً إلى سحب الثقة من الرئيس، لكن هؤلاء أقلية صغيرة، في حين أن الحركة لم تدعم رسمياً هذا التوجه، ولا تزال قيادتها تعتبر أن مسألة إطاحة قيس سعيّد غير واردة حالياً في أجندتها المعلنة. مع ذلك، فإن سعيّد يعتقد بأن هناك "نية مبيتة" للإطاحة به، وأن وراء هذا المخطط "الذي يطبخ على نار هادئة" الإسلاميون، إلى جانب من يصفهم باللصوص، في إشارة إلى حزب "قلب تونس" الذي سبق لرئيسه نبيل القروي أن صرح، قبل إيداعه السجن، أن "حجب الثقة عن الرئيس فرضية واردة".
هذه الهواجس التي تعتمد على بعض التصريحات الفردية والإشارات، التي هي أقرب إلى رد الفعل منها إلى التخطيط والانتقال إلى التنفيذ، هي التي زادت في توتير الأجواء، ودفعت برئيس الجمهورية من جديد إلى القول إن المحكمة الدستورية "لا يريدونها أن تكون محكمة بقدر ما يريدون أن تكون محكمة تصفية حسابات".