تونس أمام الأيام الصعبة: مخاوف من انفلات الأزمة والمجهول

08 سبتمبر 2022
مخاوف من غليان الشارع وخروجه عن السيطرة (شاذلي بن إبراهيم/Getty)
+ الخط -

يطالع التونسيون خبراً من مدينة بنزرت السياحية شمال البلاد، يقول إن مقهى في الميناء العتيق سيقفل أبوابه إلى أجل غير معلوم، لأن أحداً لا يعرف متى ستوفر الحكومة السكر والشاي والقهوة. ويؤكد ناقلو الخبر أن 18 شاباً يعملون في هذا المقهى سيصبحون عاطلين عن العمل.

ويقرأ مواطنون تونسيون بتعجب شديد لافتات على رفوف المحلات التجارية تطالبهم بعدم تجاوز كمية معينة من بعض المواد، بالنسبة للمواد المتوفرة طبعاً، ووصل هذا التقسيط حتى للماء المعلب. ولكن المهم هو أن تونسيين أصبحوا غير قادرين على شراء بعض السلع، حتى لو كانت متوفرة، بسبب الارتفاع الكبير لأسعارها.

وعلى الرغم من حالة الإنكار والاعتقاد الدائم بأن الأزمة ستنتهي طبعاً ولن تصل إلى المرحلة الخطرة، إلا أن التونسيين بدأوا يستشعرون هذا الخطر مع هذه المؤشرات، ويدركون أن بلادهم تسير في سيناريوهات لم يعرفوها من قبل، وهو ما يعني بوضوح أن الأزمة الاقتصادية تطل برأسها سريعاً وتخيّم على البلاد، وتنذر بأيام صعبة للغاية.

بعد شهرين من صيف ينصرف فيه التونسيون إلى أعراسهم وشواطئهم ومهرجاناتهم، يطل الخريف بكل مشاكله وحقائقه الموجعة، وقد صار معروفاً تاريخياً بأنه خريف الغضب دائماً، فكيف مع هذه الظروف القاسية هذا العام؟

هناك حالة نكران تامة من قبل السلطة التي تحمّل المسؤولية لـ"المناوئين والخونة"

أعلى نسبة للتضخم في تونس منذ 1991

وتشير آخر الأرقام الرسمية إلى أن نسبة التضخم لشهر أغسطس/آب 2022 التي أعلنها المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، قُدرت بـ8.6 في المائة، وهي أعلى نسبة للتضخم تبلغها تونس منذ سبتمبر/أيلول 1991، عندما سجلت آنذاك 8.65 في المائة.

وارتفعت أسعار البيض بنسبة 28.3 في المائة، والدواجن بنسبة 22.1 في المائة، والزيوت الغذائية بنسبة 21.4 في المائة، والفاكهة الطازجة بنسبة 18.4 في المائة، والخضار بنسبة 15.8 في المائة، ومشتقات الحبوب بنسبة 12.7 في المائة، بحسب المعهد.

كما ارتفعت أسعار مواد البناء بنسبة 9.3 في المائة، والملابس والأحذية بنسبة 10.2 في المائة، ومواد التنظيف بنسبة 8.5 في المائة، وإلى آخره من المواد التي تُعتبر ضرورية للحياة اليومية.

ويروي معز (40 عاماً) من منطقة الياسمينات بالضاحية الجنوبية للعاصمة تونس، أنه اضطر إلى ترك عمله في مجال بيع الخضار والفاكهة بسبب نقص الإقبال، فالظرف الاقتصادي ألقى بظلاله على الجميع، والمواطن الذي كان يشتري كيلوغراماً أو اثنين، أصبح يطلب رطلاً (يساوي 453 غراما) وأحياناً أقل من ذلك، وفق قوله.

ويضيف معز، في حديث مع "العربي الجديد"، أن نشاطه كان مربحاً، ولكن منذ عامين تقريباً تراجعت المقدرة الشرائية للتونسيين، ما أثّر على البيع والشراء، واضطره إلى ترك مهنته كبائع خضار.

ويقول معز إنه تحوّل إلى جمع البلاستيك، لأن هذا النشاط، على الرغم من الإرهاق الذي يسببه في الحرارة أو البرد، إلا أنه لا يتطلب توفير رأس مال، مشيراً إلى أنه يعمل تقريباً 8 ساعات متتالية ويجوب الأحياء والشوارع لجمع القوارير البلاستيكية، حيث يغنم ما بين 10 و20 ديناراً في اليوم (حوالي 7 دولارات) وهو بالكاد مصروف يوم.

ويلفت إلى أن الوضع سيئ ويسوء يوماً بعد آخر، وهو يعيش مع والديه وعليه مساعدتهما لأن معاش والده المتقاعد لا يفي بالحاجة. ويوضح أن "الوضع الاقتصادي والمعيشي لا يسمح لي بالزواج وتكوين أسرة، فالشخص بمفرده بالكاد يؤمن حاجياته، فكيف بالمتزوجين أو رب أسرة لديه 4 أبناء وعليه تأمين مستلزمات العودة المدرسية، وتوفير حاجيات الأبناء التي تشهد هذا العام ارتفاعاً كبيراً؟".

من جهتها، تقول لطيفة (موظفة، 56 عاماً) إن "الوضع لا يبعث على السرور"، فهي تتقاضى 800 دينار (الدينار يساوي 0.31 دولار)، ولكنها تُعتبر تحت عتبة الفقر، لأن هذا المبلغ لا يكفي لتأمين أبسط الحاجيات، خصوصاً أن لديها أطفالا في المدارس.

وتضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن لديها قرضا بنكيا تقوم بسداده، ويتم اقتطاع نصف راتبها تقريباً لهذا الهدف، وبالتالي فالمبلغ المتبقي زهيد ولا يؤمّن أبسط الحاجيات، خصوصاً أن هناك نفقات للتنقل والطعام والكهرباء والماء.

وتوضح أن لديها 3 أطفال من بينهم طفل يعاني من إعاقة، وهو لا يزال في البيت، لأنها لم تتمكن من إيداعه في إحدى المؤسسات المختصة، إذ يتطلب الأمر توفير 300 دينار شهرياً.

وتقول لطيفة إن الوضع منذ 3 أعوام صعب على الأسر التونسية وهم يشعرون أن هذا العام هو الأصعب، مؤكدة أن "جائحة كورونا عمّقت الأزمة، والأسر مطالبة بمجابهة غلاء المعيشة، وسط فقدان مواد أساسية عدة، وبتوفير قوت اليوم وثمن دروس للأبناء". وترى أن "على الدولة الالتفات للفئات الضعيفة وتقديم معونات، خاصة في ظل فترة العودة للمدارس، لمساعدتهم على مجابهة هذا الوضع".

محسن حسن: اختلال توازن المالية العامة لم يعد يسمح للدولة بالقيام بدورها الاجتماعي

عجز الدولة التونسية ونكران السلطة

ولكن ما لا تدركه لطيفة هو أن الدولة عاجزة عن تقديم أدنى عون لمواطنيها، خصوصاً مع هذه الأرقام السيئة، وغياب الإدراك السياسي بخطورة الوضع في البلاد، في ظل حالة النكران التامة من قبل السلطة التي تحمّل المسؤولية لـ"المناوئين والخونة"، وتقول إن "السلع متوفرة، ولكن الأعداء في الداخل يخفونها للمضاربة والتنكيل بالقوانين".

ومع ارتفاع الأسعار وبدء احتجاجات في الأحياء الشعبية، يسلّط الرئيس قيس سعيّد كل همّه على القانون الانتخابي، وعلى المؤيدين السابقين الذين "خانوا الأمانة"، ويعمّق الخلافات مع القوى الكبرى المتحكمة في السوق الدولية، لأنها فقط دعته إلى وضع مسار تشاركي وطني مع أبناء بلده.

ولكنه في المقابل، يلقي بكل بيضه في السلة الجزائرية بعد موقفه الشهير من ملف الصحراء (باستقباله زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي) وانحيازه الواضح للجزائر ضد المغرب.

أيام صعبة على تونس

ولكن يبدو أن الأيام الصعبة على تونس قد حلّت فعلاً. ويرجح الخبير الاقتصادي، وزير التجارة الأسبق محسن حسن، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "تتصاعد نسبة التضخم وتبلغ رقمين نهاية العام الحالي، مدفوعة بتواصل توفر العوامل التي دفعت بالتضخم إلى معدل قياسي لم تسجله البلاد منذ أكثر من 3 عقود وهو 8.6 في المائة".

ويتوقع حسن أن "تكون أيام التونسيين المقبلة صعبة، نتيجة تواصل تأثير التضخم على قدرة المواطنين الإنفاقية وارتفاع أسعار السلع". ويعتبر أن "الوضع الاقتصادي في غاية من الخطورة، بل إن خطورته قد تفوق كل التوقعات، ما يجعل البلاد مفتوحة على كل السيناريوهات".

وبحسب الخبير الاقتصادي نفسه، فإن "وضع المالية العامة يكشف عن مؤشرات خطيرة، ذلك أن جلّ الموارد الذاتية للدولة والقروض التي تمت تعبئتها منذ بداية العام الحالي، تكفي فقط لتغطية كتلة الرواتب وسداد خدمة الدين الخارجي".

ويشير إلى أن "اختلال توازن المالية العامة لم يعد يسمح للدولة بالقيام بدورها الاجتماعي أو تنفيذ استثمارات عامة، وهو ما يجرّ البلاد إلى ركود شامل ووضع اجتماعي صعب تشوبه الاضطرابات".

ويلفت حسن إلى أن "الموارد المالية للدولة لم تعد تسمح بتغطية واردات المواد الأساسية، إذ لم تعد المؤسسات الحكومية المكلفة بالشراء قادرة على الإيفاء بتعهداتها إزاء المزودين الأجانب".

ويرجح "تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية في الفترة المقبلة إذا فشلت الدولة في احتواء الأزمة، خصوصاً مع بروز بوادر غضب شعبي داخل الأحياء الشعبية والفقيرة، على غرار حي دوار هيشر القريب من العاصمة تونس أخيراً".

الجانب السياسي لا يخدم موقف تونس لدى القوى المؤثرة في قرار صندوق النقد الدولي

حلّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي

ولا يرى حسن حلولاً للوضع التونسي خارج اتفاق صندوق النقد الدولي "الذي سيمنح السلطات الضوء الأخضر للخروج على السوق الدولية لتعبئة موارد لفائدة الموازنة، وسيتيح للدولة مواصلة القيام بدورها الاجتماعي واحتواء الفقر وتخفيف آثار التضخم".

لكن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، بحسب حسن، قد يتأخر "نتيجة عدم توفر العنصر التشاركي والتوافق الداخلي حول الإصلاحات الاقتصادية، وتواصل تباين وجهات النظر بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يرفض إصلاحات تستهدف قوت التونسيين ومكاسبهم الاجتماعية".

ويرى حسن أن "الجانب السياسي لا يخدم موقف تونس لدى القوى المؤثرة في قرار صندوق النقد الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة التي تربط مواصلة مساعدة تونس بعودة المسار الديمقراطي"، معتبراً أن "عدم توصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يجر البلاد نحو المجهول".

جرّ تونس نحو المجهول

من جهته، يعتبر المحلل السياسي أيمن البوغانمي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الأزمة كانت صعبة، ولكنها أصبحت اليوم مخيفة وتهدد بانحرافات عميقة، والوضع الاقتصادي أصبح يفتح الباب على المجهول، فعندما ينفلت الوضع الاجتماعي ندخل إلى منطقة اللاعقل، فالبطون الفارغة لا أُذن لها".

ويضيف: "على الرغم من كل ذلك، فالسلطة تتحدث عن كل شيء إلا عن المشكل الاقتصادي، فهذه المسألة مغيّبة في ذهن السلطة، ومن يطرحها فهو متآمر بالضرورة".

ويبيّن المحلل السياسي أن "حديث الرئيس سعيّد عن المضاربين والمناوئين هو في أحسن الأحوال كلام سياسي، وفي أسوئها كلام فارغ، ولكن في كل الأحوال ليس حديثاً اقتصادياً. ففي فرنسا مثلاً، تحدث الرئيس إلى الفرنسيين بصراحة وأخبرهم أن أيام الرخاء وراءنا وليست أمامنا".

ويقول البوغانمي "مما لا شك فيه أن السلطة لا تتحمّل مسؤوليتها، بل تسير نحو الاعتماد على الشعبية الموهومة لرئيس الجمهورية لتجنّب إثارة المسألة الاقتصادية والاجتماعية، باعتبار أن مواجهتها يبعد الحالة السياسية التونسية من حالة العقل الشعري والسحرية والكلام الرسائلي شبه النبوي للرئيس، ويضعنا أمام الواقع، وهو ما يجعله لا يفهم ما يحدث في الواقع، وكذلك رئيسة الحكومة (نجلاء بودن) لا تفهم ما يجب أن تفعله".

البوغانمي: استخدام سلاح الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في المعركة السياسية، مقامرة لا نعرف كيف تنتهي

ويتابع "رئيس الجمهورية لديه اعتقاد راسخ بأن المشكلة هي مشكلة نصوص ولصوص، فهو يقول كلما ازداد نص ازداد لص، ولكن لا نعلم هل هذا يشمل نصوصه أم لا؟".

ويؤكد أن "الحقيقة الاقتصادية تنتصر في النهاية وتفرض كلمتها، ولكن السؤال المهم اليوم في تونس هو هل سيكون ذلك في إطار عقل اجتماعي سلمي وفي إطار الحوار وهو ما تعودت عليه تونس، أم في إطار عنيف؟".

ويبيّن البوغانمي أن "استخدام سلاح الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في المعركة السياسية، مقامرة نعرف كيف تبدأ، ولكن لا نعرف كيف تنتهي. فغليان الشارع وخروجه عن السيطرة إذا حصل فعلاً، وتواصل غياب العقلانية والقطيعة مع الخارج وعدم الواقعية في التعامل مع المؤسسات الدولية، ستكون مسؤوليته على رئيس الدولة والحكومة بلا شك، ولكن الرهان عليه (من المعارضة) سيكون غير محسوم".

ويلفت البوغانمي إلى أنه "منذ تسليم رقاب التونسيين إلى شخص واحد خارج العقلانية، وضعنا أنفسنا على الطريق الأسوأ، ولكن المفاجئ هو نسق سرعة ذهابنا نحو هذا الأسوأ، ولم نتوقع حجم عدم المسؤولية من الممسك بالسلطة، ولم يكن أحد يتصور هذا التعاطي مع الخارج وشبه القطيعة مع حلفائنا التقليديين ومع المؤسسات المالية".

المساهمون