تمرّ تونس بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية عدة، عكستها الإضرابات المتعددة في مختلف مناطق البلاد، وأدت إلى إغلاق مواقع الإنتاج وقطع المواصلات، وحتى وصول أسطوانات الغاز المنزلي إلى عدد كبير من مدن الجنوب. وأدت الخلافات بين الحكومة والمصرف المركزي، في شأن الموازنة التكميلية للعام الحالي، إلى تجميد موازنة العام المقبل. ومع استمرار تفشي وباء كورونا وتداعياته على الفئات الهشة، ازدادت وتيرة الإضرابات في الجسم القضائي وسط مشهد سياسي متشنج. وأمام هذا الوضع الخطير، تعددت دعوات الحوار لصياغة الحلول للمشاكل المتراكمة، في مناخ سياسي يغذيه الانقسام وحسابات الربح والخسارة، من دون اكتراث لواقع الناس، ولا لمآلات هذه الصراعات على الاستقرار العام.
لا يمكن التوصّل إلى حلول من دون إقرار الإصلاحات السياسية
في سياق الدعوات، دعت حركة "النهضة" إلى حوار اقتصادي ـ اجتماعي، حسبما ذكر رئيس كتلتها النيابية، المتحدث باسمها عماد الخميري، في حديثٍ لـ"العربي الجديد". وأضاف أن الدعوة متعلقة بمناقشة الموازنة، وبما أن هناك ملاحظات نقدية وجذرية عدة تتعلق بقانون المالية، فإن تونس تحتاج لوقفة، وإلى نقاش هادئ وحوار رصين بين مختلف مكونات الساحة السياسية والاجتماعية حول موازنة العام المقبل. وشدّد على أن الحوار ضروري لمناقشة اختلال التوازنات المالية والتدقيق في المؤشرات الحمراء لعجز الموازنة، في ظلّ ازدياد الدين الخارجي وتدهور معدلات النمو المسجلة.
ورأى الخميري أن كل هذه المعطيات تزيد من حدة الأوضاع على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى تفشي كورونا. وهو ما يحيل الأمر إلى ضرورة الشروع في حوار وطني من أجل استشراف المرحلة المقبلة، وبحث الحدّ الأدنى من التوافقات في الساحة السياسية والمنظمات الوطنية، لإقرار الإصلاحات العميقة. وأضاف أن التجاذبات السياسية هي التي أخّرت الإصلاحات وأضعفت الحكومات، مؤكداً أن مبادرة حركة "النهضة" تأتي في هذا الإطار، وهناك دعوات من أطراف أخرى، أحزاب ومنظمات اجتماعية، ولكن الأهم هو إجراء حوار في أقرب وقت. وحول الجهة الرسمية المرشحة لرعاية الحوار، اعتبر الخميري أنه يمكن التوافق حول ذلك، سواء في الحكومة أو في البرلمان، لكن المهم ألا يقصي الحوار أي طرف.
بدوره، أوضح الأمين العام للحزب "الجمهوري" عصام الشابي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن الأزمة الخطيرة التي تمرّ بها تونس سياسية واقتصادية واجتماعية، وهناك نوع من العجز من قبل مؤسسات الدولة والقائمين على البلاد لمواجهة التحديات. بالتالي فإن تونس في حاجة أكيدة إلى حوار وطني يساعد على الإنقاذ والخروج من الأزمة، ويجب أن يكون وطنياً وشاملاً، وألا يكون محل تجاذب وصراع.
واعتبر أن الأطراف الموجودة في السلطة والبرلمان جعلت من الحوار نقطة خلاف إضافية لتصفية الحسابات الواسعة بين البرلمان ورئاسة الجمهورية من جهة، وبين الحكومة ومختلف الكتل البرلمانية من جهة أخرى. وأكد أن الجهة الداعية للحوار أصبحت بدورها محل خلاف.
وكشف الشابي أن الاتحاد العام التونسي للشغل تقدم بمبادرة، تبدأ برعاية رئيس الجمهورية للحوار لأنه الجهة الأقدر على القيام بهذه الدعوة، رغم الملاحظات الممكنة على أدائه. وأوضح أن البرلمان لم يستطع تنظيم حوار مسؤول وعقلاني بين مكوناته، فكيف سينجح في عقد حوار وطني؟ ورأى أن دعوة حركة "النهضة" للحوار تأتي في إطار الصراع بين البرلمان والرئاسة حول الإمساك بزمام المبادرة السياسية، وهو ما سيلقي بظلاله حول الدعوة للحوار الوطني.
وأشار إلى أن توضيح مديرة ديوان رئيس الجمهورية، نادية عكاشة، أن "الرئيس (قيس سعيّد) مع الحوار الوطني من دون مشاركة الفاسدين"، يفهم منه حزب قلب تونس، وهو ما سيؤثر على مشاركة حلفاء الحزب في البرلمان، أي ائتلاف الكرامة، الأمر الذي قد يؤدي إلى إقصاء نحو مائة نائب. فكيف سيكون الحوار الوطني إذا تمّ استبعاد أحزاب عدة؟
ولفت الشابي إلى أن تونس تبقى في حاجة لحوار وطني، ويمكن لرئاسة الجمهورية أن تدعو إليه وتدعو شخصيات مستقلة تكون قادرة على الإضافة، ولكن على الرئيس أن يحسم أمره ويدعو لمشاورات، وأن يكون حواراً لا يستثني أي طرف، لإغلاق باب الخلافات والإقصاء. أو إقصاء القوى التي تمثل الفساد أو المعادية للثورة والديمقراطية (يقصد حزب الدستوري الحر، بقيادة عبير موسي).
على الرئيس التونسي أن يحسم أمره ويدعو إلى مشاورات لا تستثني أي طرف
واعتبر أن عدم الوقوف على الأزمة السياسية وفي غياب الاتفاق على الإصلاحات السياسية وتحديد صلاحيات كل سلطة وحدودها وتعاونها معاً، لا يمكن الوصول لحلول اقتصادية واجتماعية، ولن تجد الإصلاحات طريقها للتنفيذ. وقال إن الأزمة السياسية بلغت حداً غير مسبوق، والدولة شبه مفككة، والصراعات في كل مكان، وفساد في القضاء استشرى بعد شهادات القضاة بعضهم ضد بعض، ما يؤدي إلى فقدان المواطن ثقته في القضاء. وحتى المؤسسة العسكرية باتت في أزمة، بعد تصريح وزير الدفاع إبراهيم البرتاجي، الذي أشار إلى أن هناك من العسكر من يتخابر مع جهات إرهابية ومهرّبين. كما كشف وزير الداخلية، توفيق شرف الدين، النقاب عن تورّط ضباط في تهريب المخدرات. بالتالي فإنه في ظل حكومة شبه غائبة وبرلمان مفكك ومكوث رئاسة الجمهورية في برجها العاجي، لا بدّ من التدخل وإنقاذ تونس من الانهيار، وحماية الدولة من التفكك. وإذا لم تتم معالجة هذه المسائل، فإنه لا يمكن وضع برنامج اقتصادي ـ اجتماعي. والحوار يجب أن يكون حول الأزمة السياسية، ويفضي إلى إقرار سياسات وإصلاحات اقتصادية، تلتزم الحكومة بتنفيذها تحت رقابة البرلمان والمنظمات الوطنية والمجتمع السياسي. بالتالي فالدعوة أولاً هي لتغيير السياسات، وليس لتغيير الحكومات، وخلاف ذلك يعني الفوضى.