تنذر الأوضاع في شرقي السودان بالانفجار كلياً، بعدما وصل الاحتقان في المنطقة إلى حدّ اللجوء لعمليات تفجير بالعبوات الناسفة، ما يعدّ تطوراً نوعياً وخطيراً في الإقليم. وتتعدد التفسيرات لما يحصل، والجهات التي يتمّ تحميلها المسؤولية، ومنها الحكومة المركزية والنظام المخلوع وجهات إقليمية، فيما تصّب الرؤى حول الحلّ في إطار تصحيح الوضعين الأمني والاقتصادي.
تحرك القبائل
وخلال الأسبوعين الماضيين، خيّم التوتر على مدينة بورتسودان، مركز ولاية البحر الأحمر، والميناء الرئيسي للسودان، نتيجة جملة من الأسباب، أولّها تحرّكات زعماء القبائل للمطالبة بتنفيذ توصيات كانوا قد توحّدوا من أجلها العام الماضي. ومن أهمها إلغاء البنود الخاصة بشرقي السودان الواردة في اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر/ تشرين الأول الماضي). وضم اتفاق السلام في جوبا 5 مسارات تشمل المنطقتين (النيل الأزرق وكردفان)، دارفور، الشمال، الوسط، الشرق، على أن يضع كل مسار حلولاً لمنطقته. وفي ما خص مسار الشرق أهم النقاط المفترض التعاطي معها تتمثل في معالجة أسباب التهميش التنموي في شرق السودان، المشاركة العادلة في السلطة القومية والقسمة العادلة للثروة، تخصيص 30 في المائة في السلطة الولائية لحزب مؤتمر البجا المعارض والجبهة الشعبية المتحدة، وقيام مؤتمر تشاوري لأهل شرقي السودان لاستكمال ما لم يتطرق إليه اتفاق جوبا. ووجّه الاعتراض الأساسي لدى المحتجين على ما ورد في اتفاق جوبا اعتبارهم أن الموقعين مع الحكومة، وهما مؤتمر البجا المعارض والجبهة الشعبية، لا يمثلان أهل شرق السودان.
تحرك زعماء القبائل للمطالبة بتنفيذ توصيات سابقة توحدوا من أجلها العام الماضي
كذلك من بين التوصيات التي وضعت من زعماء القبائل، عقد مؤتمر جامع لمكونات شرقي السودان لوضع حلول لمشاكل المنطقة، وتحديد ممثليه في الأجهزة المركزية، وتخصيص 70 في المائة من موارد الإقليم لتنميته، وخفض نسبة الجهل والفقر والمرض التي يقولون إن الإقليم يعاني منها. كما تطالب القبائل بوقف التدخلات الخارجية، والتغول على السيادة الوطنية، وإنهاء وصاية المركز على الإقليم لتحديد خياراته.
وكان زعماء القبائل، تحت مسمّى "مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة"، قد تقدموا بتلك المطالب للحكومة، مشددين على تنفيذها، لكن شيئاً لم يحدث طوال الأشهر الماضية، ما دفع تلك الزعامات إلى إعلان التصعيد في 30 يونيو/ حزيران الماضي. وتمثل التصعيد بإغلاق الطريق القومي الرابط بين بورتسودان والخرطوم، ووقف سكّة الحديد، والتلويح بإغلاق الميناء. وقد استمر إغلاق الطريق لأيام عدة عقب تدخل من حكومة ولاية البحر الأحمر، التي حثّت المحتجين على وقف التصعيد، مع مهلة تنتهي بعد عيد الأضحى (يوم الثلاثاء المقبل).
تلك التحركات القبلية، لا يراها كثيرون مستقلة بذاتها، بل تحركها أيادي النظام السابق، الراغب سلفاً في استخدام كل الطرق والأدوات لإفشال الفترة الانتقالية التي يعيشها السودان عقب سقوط نظام عمر البشير. ويقدم أصحاب نظرية المؤامرة تلك شواهد وأدلة بوجود قيادات بارزة في النظام السابق على رأس تلك التحركات، مثل سيّد محمد الأمين ترك، ناظر (زعيم) عموم قبائل الهدندوة، الذي ينتمي إلى حزب المؤتمر الوطني المنحل، وكذلك الحال بالنسبة لموسى محمد أحمد، رئيس حزب مؤتمر البجا، الذي عمل مساعداً للرئيس المعزول منذ عام 2006 وحتى سقوط النظام في 2019.
ومضى نائب رئيس الحركة الشعبية، الشريك في الحكومة الحالية، ياسر عرمان، إلى تسمية الأمين العام للحركة الإسلامية، وزير الخارجية الأسبق، علي كرتي، واتهمه صراحة بالتورط في ما يدور في شرقي السودان. وأشار عرمان، في بيان، إلى أن كرتي ومجموعة سجن كوبر، وأتباع النظام السابق في الداخل والخارج، رحلّوا خطتهم إلى شرقي السودان بعد فشل تظاهرات 30 يونيو الماضي (في ذكرى تظاهرات يونيو 2019)، "ولا همّ لهم هذه الأيام في الأرض ووسائل التواصل الاجتماعي، إلا محاولات صب الزيت على النار وإثارة الفتنة والكراهية حتى تصل إلى درجة الغليان، وإعلان حالة الطوارئ في شرقي السودان، وأن تزحف حالة الطوارئ إلى مناطق السودان الأخرى لتوقف التحول المدني الديمقراطي والسلام وتسقط الحكومة، ويعودوا على أكتاف الشمولية".
ظلّ شرقي السودان، وتحديداً مناطقه الواقعة على ساحل البحر الأحمر، محل طمع للكثير من القوى الإقليمية والدولية
لكن الجماعات الموالية لزعماء القبائل تنفي جملة وتفصيلاً تلك المزاعم، وتؤكد أنها تُعبّر عن مظالم مرحلية وتاريخية لشرقي السودان، فيما أكد ناظر الهدندوة بنفسه أنّه ليس ضد الثورة ولا ضد لجنة إزالة تمكين نظام الثلاثين من يونيو، وهي لجنة معنية بتفكيك النظام السابق، كما أنه ليس ضد محاسبة المفسدين.
عنف وتفجير
بعيداً عن تحرّكات زعماء القبائل، فإن عاملاً آخر ساهم أكثر في توتير أجواء بورتسودان، التي شهدت منذ عام 2019 اشتباكات قبلية، كانت ثلاثة منها مكلفة، بمقتل وجرح عشرات الأشخاص. ووقعت أحداث عنف في بعض الأحياء طوال الأشهر الماضية، ما قاد إلى موجة من التذمر، وصدرت بيانات في هذا الصدد تستنكر الصمت الحكومي وكذلك صمت بقية مكونات المدينة عنها. وكان آخر بيان صادر عن تلك المجموعات أكثر صراحة، إذ هدّدت بنقل الاضطراب الأمني إلى أحياء إضافية. ولم تمرّ ساعات حتى وقعت حادثة تفجير نادٍ رياضي يوم السبت الماضي، ما أدى إلى سقوط ثمانية أشخاص بين قتيل وجريح. وعنصر المفاجأة في الهجوم هو حيّ سلبونا الذي وقع فيه الحادث، وهو حي غير مرتبط بالنزاعات القبلية بالنظر إلى تكوينه الاجتماعي. وزاد من قتامة المشهد البورتسوداني تردد معلومات أن هوية واحد من منفذي الهجوم، والذي تم إلقاء القبض عليه، ينتمي إلى أحد أطراف الأزمة، ما جعل محاولات الرد تستند إلى الهوية القبلية.
أيادٍ خارجية
العامل الثالث في تأجيج الأزمة في شرقي السودان، برأي غالبية المحللين، هو "الأيادي الخارجية التي تظهر بصماتها مع كل حدث". فشرقي السودان، وتحديداً مناطقه الواقعة على ساحل البحر الأحمر، لا سيما الموانئ، ظلّت محل طمع للكثير من القوى الإقليمية والدولية التي تريد أن يكون لها فيها موطئ قدم. وتضغط تلك القوى بكل السبل لفرض إرادتها والحصول على مكاسبها، مهما كان الثمن.
هذا النهج يواجه بانتقادات عنيفة، ويذهب البعض إلى حد اتهام الحكومة بالتهاون والتراخي عن تطبيق القانون، خصوصاً في حالات القتل وإغلاق الموانئ والطرق الحيوية، وهو ما قاد الحكومة للتحرك أول من أمس الإثنين، بإرسال تعزيزات عسكرية إلى بورتسودان بناء على أوامر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، الذي أوفد عدداً من الوزراء إلى المنطقة ووجههم بضرورة فرض إجراءات أمنية صارمة على الأرض لوقف كافة التفلتات، وإلقاء القبض على كل من يثبت تورطه في أحداث العنف. كذلك وجّه حمدوك حكومته بالدخول في مباحثات مع قيادات الولاية السياسية والأمنية والمجتمعية. وفي الوقت ذاته، لجأ رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان إلى استدعاء زعماء القبائل إلى الخرطوم للاجتماع بهم وإبلاغهم بحرص الدولة على فرض هيبتها وتطبيق القانون.
أما على جهة "تحالف الحرية والتغيير" الحاكم، فلم يصدر أي تعليق على الأحداث، لكن "المؤتمر السوداني"، وهو أحد الأحزاب المشكلة لـ"التحالف"، أصدر بياناً حمّل فيه مسؤولية التفلتات للجنة الأمنية لولاية البحر الأحمر، مطالباً بتوفير الإسناد الأمني المركزي من أجل احتواء الفتنة القبلية وتقديم المعتدين من كل الأطراف للعدالة، وإجراء التحقيقات اللازمة في القصور الأمني البيّن. كما طالب الحزب بكشف الجهات المتواطئة التي تعبث بالأمن، والعمل فوراً على فرض هيبة الدولة والتواصل مع كافة الأطراف المعنية من أجل تغليب صوت العقل والحكمة.
تحديات وحلول
ورأى صالح عمار، وهو ناشط عُيّن والياً لكسلا قبل نحو عام، لكنه لم يتسلم منصبه حتى تاريخ إقالته، بعد ضغط مجموعات لمنعه من تقلد منصبه، أن التحدي الأول في شرق السودان هو التحدي الأمني بوجود أزمة اقتصادية تؤثر على الإقليم ويؤثر فيها، مضافاً لذلك التشظي المجتمعي. وتوقع عمار انزلاق الإقليم نحو الفوضى بسبب التباطؤ الأمني والراحة التي يشعر بها المجرمون في تنفيذ جرائمهم دون خوف، مشيراً إلى أن ذلك يرافقه عجز سياسي في التصدي للمشاكل الواقعة.
وأضاف عمار، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الكلام عن تدخلات خارجية صحيح في ظل الفراغات الموجودة، لكنه اعتبر أن صنع الفوضى في حدّ ذاته حدث بأيادٍ داخلية، مبدياً استنكاره لاستضافة مصر عناصر تُدير المخططات ضد شرقي السودان من أراضيها، مثل مدير جهاز الأمن الأسبق صلاح قوش، ووالي البحر الأحمر في عهد النظام البائد، محمد طاهر أيلا، وآخرين كثر، على حد قوله. وأشار إلى أنه شخصياً تحدث لجهات مصرية، وحذرها من مغبة تلك الاستضافة وعواقبها. ورأى أن على القاهرة أن توضح أسباب استضافتها تلك المجموعة التي تمثل بقايا نظام البشير.
وحول مطلب منح شرقي السودان تقرير المصير، أوضح صالح عمار أنه يخص فقط ناظر قبيلة الهدندوة سيد محمد الأمين ترك ومجموعته، ولا يمثل كل سكان الشرق من مختلف المجموعات العرقية، واصفاً هذا المطلب بأنه مجرد ابتزاز سياسي يمارس ضد الحكومة المركزية، مثله مثل خطوات خنق الاقتصاد السوداني عبر الميناء. ورأى عمار أن الحل يكمن في مسارين، الأول أمني والثاني سياسي، على أن يعتمد المسار الأمني أولاً على تغيير كل القيادات الأمنية في ولايتي البحر الأحمر وكسلا لأنها مارست أسوأ أنواع الفشل في إدارة الأزمات خلال عامين كاملين. وبالنسبة له، فإن المسار السياسي يستند إلى اعتبار مشكلة شرقي السودان جزءاً من مشكلة السودان.
وسبق للحكومة الانتقالية، التي تُدير أوضاعاً سياسية وأمنية واقتصادية هشّة في كل السودان، منذ تشكلها في أغسطس/ آب 2019، أن وافقت على تجميد تنفيذ البنود الخاصة بشرقي السودان، الواردة في اتفاقية السلام الموقعة في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وتحاول بقدر الإمكان إدارة أزمة شرقي السودان بالابتعاد عن استخدام العنف والجلوس مع زعماء القبائل للحوار والنقاش. فالحكومة لا تريد، بحسب المعطيات، انزلاق الإقليم في حرب أهلية، ولا في حرب مع المركز، حتى لا يتكرر ما حدث في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان في سنوات سابقة.
أما الناشط في الثورة السودانية بولاية القضارف، جعفر خضر، فاتهم الثورة المضادة بالعبث بأمن واستقرار شرقي السودان، معتمدة على هشاشة النسيج الاجتماعي، وفقدان بعض ذوي الحظوة في العهد البائد امتيازاتهم، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي)، اعترف بأن ما يحدث في الشرق مصنوع، وهو اعتراف يقول إنه جاء في إطار الصراعات داخل المكون العسكري.
وحمّل خضر المسؤولية الكبرى عما يجري للمكون العسكري داخل السلطة الانتقالية الذي عيّن وزيري الدفاع والداخلية، كما حملها للجنة الأمنية في الولاية، مضيفاً أنه لا يمكن تجاوز التدخلات الإقليمية والأطماع الإماراتية على وجه التحديد في السيطرة على ميناء بورتسودان، على حد وصفه. وأكد أن الشق المدني في الحكومة يتحمل المسؤولية أيضاً لضعف أدائه وضعف تصديه لتمدد المكون العسكري. واعتبر أن الحل مرتبط تماماً بإعادة توحيد قوى الثورة في السودان وفي شرقي السودان على وجه التحديد، وتقوية المجتمع المدني، الذي يحد من النعرات القبلية، والتعامل بحكَمة مع قيادات الإدارة الأهلية ذوي النفوذ القوي، كما ينبغي الاستعانة بالطرق الصوفية لزيادة رتق النسيج الاجتماعي المتهتك.
يتهم ناشطون وأطراف في شرقي السودان الثورة المضادة بالعبث بأمن واستقرار المنطقة
أما الناشط خليفة محمد هيكش، فله موقف مختلف، إذ أعرب في حديث مع "العربي الجديد" عن اعتقاده أن نكسة الإقليم الأخيرة سببها الأساسي ما جاء به اتفاق السلام الأخير من بنود حول شرقي السودان، وهي بنود يقول إنها لا تلبي طموحات أهل الإقليم ولا تعبر عنهم. وبيّن هيكش أن ما حدث من إقصاء لكثير من المكونات السياسية والاجتماعية خلال فترة التفاوض، هو الذي تسبب في إزهاق الأرواح وما يعيشه الإقليم من اضطراب، مشدداً على أهمية تجميد تلك البنود وعقد مؤتمر جامع لكل أهل الشرق للنظر في كل الأزمات ووضع العلاج لها، خصوصاً في ما يتعلق بتقاسم السلطة والثروة.
واتهم هيكش أجهزة استخبارات إقليمية بالعمل على زعزعة الإقليم وتفتيت النسيج الاجتماعي، مشيراً إلى أن الحكومة الحالية هي المسؤولة عن كل ما يحدث من انفلات أمني ودخول الأسلحة النوعية للإقليم، والتي ظهرت من خلال تفجير النادي الرياضي السبت الماضي. وطالب بضرورة مراقبة كل مداخل ومخارج الإقليم للحد من انتشار السلاح، مستبعداً نظرية تورط النظام السابق في تحريك القبائل، والتي اعتبر أنها شماعة تعلق بها كل عناصر الفشل الحكومي.
واستطرد هيكش بقوله إن الحل المجتمعي يرتبط كذلك بترسيم الحدود بين القبائل ومراجعة كل أوراق الهوية لكل قاطني شرقي السودان، وذلك اعتقاداً منه بحصول مجموعات على تلك الأوراق في السنوات السابقة بطرق ملتوية. كما اقترح ملاحقة كل المتورطين في أعمال القتل على الهوية التي حدثت في الفترات السابقة، وتقديمهم للمحاكمة، وملاحقة مروجي خطاب الكراهية وإثارة النعرات القبلية في وسائط التواصل الاجتماعي، مع عقد مصالحات قبلية حقيقية تعيد إحكام ربط النسيج الاجتماعي في الإقليم.