تنصل إسرائيل من الاتفاقيات الدولية

26 يونيو 2022
الاحتلال يعتقل طفل فلسطيني من مدينة الخليل (حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -

القانون غير منفصل عن السياسة في نظام استعماري إحلالي، فهو أداة بيد المستعمر المحتل، ويختفي مفهوم العدل والعدالة من محتواه وتطبيقاته. حيث المُشرع من يسن القوانين، هو المحتل المستعمر المستوطن. ويكون دور المحاكم، سواء المدنية أو العسكرية ضمان تطبيق هذا القانون غير العادل، بل والظالم في أساسه تجاه الواقعين تحت الاحتلال، والمعني بتثبيت أساس دولته ونظامها. بالتالي فإن التوجه لهذه المحاكم للاحتكام إليها، لا يبعث الأمل لدى الواقعين تحت الاحتلال، بل في الكثير من الأحيان يحدث العكس، حيث يُثبت قرارات سيئة، تعتمدها المحاكم لاحقاً كسابقات قضائية.

لا يحتكم الفلسطيني للمحكمة الإسرائيلية لتنصفه، إذ يجد نفسه في غالبية الأحيان يُحاكم في هذه المحاكم. ويعمد بعض الفلسطينيين إلى مقاطعة محاكم الاحتلال، كما حدث مع العديد من المعتقلين الإداريين، الذين يعتقلون دون تهمة أو محاكمة، ويتم تمديد اعتقالهم بأمر الحاكم العسكري، ومنهم من قضى سنوات في المعتقل دون أي محاكمة، ودون أن يعرف متى سيتم الإفراج عنه. لا يعترف الفلسطيني بها (المحكمة الإسرائيلية)، وبصلاحيتها، ولا بعدالتها، ويرى حكمها معروفاً مسبقاً، خاصة ما يسمى "المحاكم العسكرية"، التي تدار من قبل العسكر، وتعتمد قوانين عسكرية.

سنت إسرائيل منذ قيامها، وما زالت، مجموعة من القوانين في مجالات مختلفة، تضمن سيادتها، ويهوديتها، وتجرد الفلسطيني من كل شيء، الأرض، حق العودة، فطردت ومنعت العودة، وهجرت وهدمت البيوت والقرى بكاملها، ووطنت فيها مستوطنين، وما زالت. وتطبق هذه القوانين والانتهاكات المستمرة في المناطق المحتلة عام 48، وتلك المحتلة عام 67. فالاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والتضييق مستمر. وما زالت الدولة تعتبر نفسها بحالة طوارئ منذ قيامها، وتتيح لنفسها استعمال أنظمة الطوارئ في الحالات التي تراها مناسبة.

سنت إسرائيل مجموعة من القوانين، تضمن سيادتها، ويهوديتها، وتجرد الفلسطيني من كل شيء

تندرج السجون ومراكز التحقيق ضمن هذه المنظومة، وليس خارجها، بل هي في صميمها وفي صميم تطبيقها، وتشكل أدوات إضافية للقمع والتعذيب والسيطرة والانتهاك، ويحظى المحققون بحماية قانونية، تحت تسميات مختلفة، تضمن لهم عدم تقديمهم للمحاكمة، ما يضمن استمرار هذه المنظومة.
القوانين الإسرائيلية أداة لحفظ الانتهاك والتعذيب لا لمحاربته.

لقد وضعت إسرائيل منظومة قوانين وأنظمة وتعليمات كاملة، لما تسميه "المعتقلين الأمنيين" (وترفض تسميتهم بالأسرى السياسيين، لتجرد نضالهم من الصبغة السياسية والمقاومة، التي يحظى بها الواقعون تحت الاحتلال، لتحولهم إلى مخلين بالنظام ومهددين لأمنها)، ولحماية "أمنها" ومحاربة ما تسميه "الإرهاب"، تطبقها بدءا من الاعتقال، ثم التحقيق في مراكز التحقيق الخاصة، والاعتقال في مراكز الاعتقال والسجون والأقسام الخاصة، ولا يستثنى الأطفال القاصرون من هذه الأنظمة، أو من سوء المعاملة والتحقيقات القاسية.  

ويحظى محققو المخابرات الإسرائيليون بمكانة خاصة، وحماية خاصة قانونية، كونهم "حراس البيت"، الذين يحمون دولتهم وأمنها. فيعطي القانون حماية لهم. على سبيل المثال، يعفي قانون الجنايات الإسرائيلي، للعام 1977 (في البند 34/ي.ب) مُحقِّقي الشاباك من المسؤولية القانونية، وبالتالي من تقديمهم للمحاكمة في حال استخدامهم "وسائل تحقيق خاصة" بحالات "الضرورة"، كذريعة "حماية الجمهور وسلامته وحماية أمن المنطقة"، ومن المعروف بناء على شهادات المعتقلين الفلسطينيين أن هذه "الوسائل الخاصة"، ما هي إلا "تحقيقات عسكرية" تصل إلى حد التعذيب، وتشمل وضعيات صعبة، كالشبح والقرفصاء بوضعية الضفدع، والانحناء القسري للخلف، عدا عن التحقيق لساعات طويلة تصل لـ48 ساعة متواصلة، دون نوم أو راحة، عدا عن ظروف الزنازين القاسية. حتى اليوم، لم يصل أي من محققي المخابرات إلى المحاكمة، ولم يتم تقديم أي لائحة اتهام ضد أي منهم بأي من الشكاوى التي قدمت ضدهم، ودائما تتم حمايتهم، سواء بقبول أقوالهم ورفض أقوال المعتقل، أو بالاعتراف نوعا ما بالقيام بـ"وسائل تحقيق خاصة" لكن بحجة "الضرورة"، الأمر الذي يتيح استمرار هذه الانتهاكات بشكل منهجي دون توقف.

ليس هذا الإعفاء الوحيد لمحققي المخابرات، بل هي منظومة كاملة، حيث يستثني القانون الإسرائيلي تحقيقات المخابرات من ضرورة توثيقها بالصوت والصورة، وبالتالي لا يتم توثيق الانتهاكات والتعذيب الحاصل في غرف التحقيق، وطبعا ينكر المحققون بشكل منهجي استعمالهم التعذيب، حتى في الحالات التي وصل فيها المعتقلون إلى المشافي وخضعوا للعلاج المكثف جراء تعذيبهم. 

في العام 2020، قدّمت الحكومة الإسرائيلية مسوّدة (تعليمات مؤقتة)، لتعديل قانون العقوبات (صلاحيات الاعتقال) لعام 1996، الذي ينطبق على مراكز الاعتقال والتحقيق التابع لجهاز المخابرات. يهدف التعديل إلى استثناء معتقلات المخابرات من مجمل المعتقلات التي ينطبق عليها قرار المحكمة العليا، المعروف بقضية رقم 1892 /14، القاضي بضرورة رفع الحدّ الأدنى لـ"حيّز المعيشة"، أي المساحة المتاحة لكل معتقل في تلك المعتقلات، من 3.5 م إلى 4.5 م للشخص الواحد، ويطالب التعديل بإعفاء الدولة من الالتزام بهذا التحديد.

ينص مقترح التعديل على أن يسري مفعول هذا الاستثناء مدة تصل إلى سبع سنوات، في المجمل (3 سنوات بناء على التعليمات المؤقتة، فضلاً عن فترتين إضافيتين، تكون مدة كل واحدة منهما سنتين). فعلاوة على التحقيقات الصعبة، والتعذيب في غرف التحقيق، يهدف مقترح القانون إلى إبقاء الزنازين أيضاً دون الحد الأدنى الذي يوفره القانون الحالي للمعتقلين. إن اقتراح التعديل الحكومي بمثابة مسعى قانوني يضمن استمرار التعذيب، ليس فقط في غرف التحقيق بل في الزنازين أيضاً.

تصف إفادات المعتقلين ظروف الزنازين اللاإنسانية والمهينة، كإبقاء النور مضاءً داخل الزنزانة ليلاً ونهاراً، أو زنازين دون إضاءة تشبه فيها الزنزانة القبر كما يقول المعتقلون، تشغيل التبريد بدرجات برودة عالية، غير محمولة، جدران الزنازين الرمادية، ذات النتوءات الحادة التي لا يتمكن المعتقل من الاتكاء عليها، المراحيض السيئة والروائح الكريهة المنبعثة منها، انعدام ماء الشرب أو تدني جودته، وجود الحشرات والجرذان، الضجة المفتعلة وصراخ السجانين، الذي يمنع أي إمكانية للراحة أو النوم، وما إلى ذلك. ورغم وجود الزنازين في مراكز التحقيق، ورغم مطالبة مقترح القانون باستثناء هذه الزنازين وإبقاء حجمها دون الحد الأدنى، يدعي جهاز المخابرات حين تتم الشكوى من الزنازين أنه غير مسؤول عنها، على اعتبارها مسؤولية مصلحة السجون. فإن لم تكن تحت مسؤوليته! لماذا يطلب مقترح القانون استثنائها من تطبيق مواءمة حجمها لشروط الحد الأدنى؟ إن لم يكن السبب استمرار التعذيب والتضييق على المعتقلين في الزنازين، كما يحدث في غرف التحقيق! الأمر الذي أكدته الدولة في ردها على المحكمة التي ألزمتها بتطبيق قرار الحد الأدنى الجديد ورفع مساحة الزنازين، من الوضع الحالي (3.5 م) إلى 4 أمتار، أو إلى (4.5 م بما يشمل مراحيض وحمام) في المرحلة الثانية من تنفيذ القرار، في قضية رقم 1892/14، حيث ادعت الدولة عدم قدرتها على تطبيق المعايير التي أقرتها المحكمة في المدة الزمنية المُعطاة، وأن هناك "حاجات خاصة" في هذه المعتقلات والتحقيقات تمنع تطبيق المعايير المطلوبة من المحكمة. وادعت الدولة في مسودة القانون المقترح أن التحقيق مع المتَهمين في القضايا الأمنية يختلف بماهيته عن التحقيقات الأُخرى. وعمليا يبغي مقترح التعديل استمرار انتهاك حقوق المعتقلين وتعذيبهم.

يتحدث مقترح التعديل القانوني إياه عن منح رئيس الحكومة صلاحية تحديد الأنظمة في ما يتعلق بمساحة المعيشة للمعتقلين الأمنيين في زنازين الشاباك، وذلك بمصادقة وزير القضاء، وإقرار اللجنة الوزارية الخاصة بقضايا الأمن العام، ويشمل تحديد تعليمات سرية في ما يتعلق بالأنظمة المذكورة، وتطبيق إجراءات السرية عليها، بل وتؤكد على تحديد تعليمات وأنظمة سرية في ما يتعلق بحجم مساحة المعيشة في الزنازين الأمنية، باعتبارها جزءاً من بُنية التحقيق، يُمنع نشرها في كتاب القوانين، أو في أي وسيلة، أو طريقة علنية أُخرى.

أين إسرائيل من الاتفاقيات الدولية ومن الالتزام بمناهضة التعذيب؟

وقعت إسرائيل على اتفاقيات جنيف، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية مناهضة التعذيب، لكنها تنتهك هذه الاتفاقيات، فالتعذيب فيها مستمر ضد المعتقلين الفلسطينيين، القاصرين منهم كما البالغين. ورغم توقيع إسرائيل على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيّة والسياسيّة للأمم المتحدة، الذي يمنع بشكل قاطع التعذيب، وأي شكل من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية والمهينة، إلا أنها تستمر في انتهاك هذا الأمر. ما أدى أخيرا إلى تبنّي "لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة"، المسؤولة عن متابعة تطبيق بنود هذا العهد، في خطوة غير مسبوقة، كامل التوصيات المقدّمة لها قبل عدة أشهر من قبل لجنة مناهضة التعذيب في إسرائيل، والتي شملت تفصيلاً لممارسات التعذيب التي يتّبعها مُحققو الشاباك مع المعتقلين الفلسطينيين. وأعربت عن قلقها إزاء استمرار استعمال إسرائيل ما يُسمى "استثناء الضرورة"، كما أوضحت، على الرغم من وجود رقابة على غرف تحقيق الشاباك، من خلال تلفزيون في دائرة مغلقة، إلا أنها قلقة من عدم حفظ أي توثيقات لتسجيلات الفيديو عن التحقيقات ذاتها، عدا عن تقرير ملخّص للغاية، ما يُبقي الضحايا دون أدلّة بالصوت والصورة، التي كان بإمكانهم استعمالها في المحكمة. وتحدثت عن أهمية المحاكمة العادلة والإجراء العادل والمنصف، وبعثت بتوصياتها لإسرائيل بهذا الأمر، بشأن تمكين الضحايا من الحصول على إجراءات منصفة ومحاكمات عادلة.

بدورها طالبت لجنة مناهضة التعذيب أخيراً، بالشراكة مع الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، محكمة الجنايات الدولية، بإضافة موضوع التعذيب للمواضيع التي تحقق فيها منذ العام 2021، وقدمت لها ملفاً قضائياً شاملاً وواسعاً، يتضمن معلومات حول استعمال التعذيب في إسرائيل، التي تشكل جرائم حرب، وذلك اعتمادا على ما تراكم لديها من خبرة ومعلومات على مدار ثلاثين عاماً، منذ تأسيس اللجنة في العام 1990. وتُطالب المحكمة بفتح تحقيق ضد كبار المسؤولين عن تنفيذ التعذيب. وأكدت اللجنة أنها قدمت منذ نشأتها أكثر من 1300 شكوى حول التعذيب، والمعاملة القاسية والمهينة للمعتقلين الفلسطينيين من قبل محققي المخابرات، ولم يتم تقديم أي منهم للمحاكمة، ولم تقدم أي لائحة اتهام ضد أي من المحققين. ما يدل على توجه منهجي ودعم مؤسساتي من قبل الدولة لممارسة التعذيب.
مبدئيا إسرائيل ترفض التعاون مع المحكمة، رغم توقيعها على معاهدة روما، التي تشكل المرجعية القانونية لمحكمة الجنايات الدولية، إلا أنها، أي إسرائيل، لم تقرها، ولم تحول مضامينها لقانون داخلي ملزم، وبالتالي، لم تعط إسرائيل لهذه المحكمة الصلاحية كي تحقق في جرائم تمت داخل حدود سيادتها. لكن تملك المحكمة الصلاحية جراء توقيع دولة فلسطين على المعاهدة عام 2015.

وبناء على معاهدة روما، فإن إسرائيل تنفذ ثلاثة أنواع من الجرائم، ذكرتها لجنة مناهضة التعذيب في توجهها للمحكمة الدولية، وهي:

- جرائم التعذيب، أو المعاملة القاسية واللاإنسانية، ذات طابع مشابه، مخالفة بناء على بنود: 8(2)_إ)_2)، و8(2)(أ)(3)، 8(2)(ب)(21)، من معاهدة روما.

- طرد أو نقل غير قانوني لسكان مناطق محتلة. مخالفة بناء على بنود: 8(2)(أ)(7)، 8(2)(ب)(8) معاهدة روما.
- منع المحاكمة العادلة، مخالفة وفق بنود: 8(2)(أ)(6) معاهدة روما.

كل هذه الجرائم تشكل جرائم حرب كونها تتم بحالة احتلال وضمنها.

يُذكر أن إسرائيل ورغم توقيعها على اتفاقية مناهضة التعذيب، إلا أنها تمتنع عن سن قانون واضح ومباشر يجرّم التعذيب، ولم تشمل حتى في قانون العقوبات بندا يجرم التعذيب، وفي هذا رسالة واضحة للمحققين، وتطبيق لسياسة ومنظومة متكاملة لا يمكن اختراقها، أو تغييرها، من خلال، ومن داخل المؤسسة القضائية الإسرائيلية، التي لم تعمل على إنصاف أي من الضحايا، ما يؤكد على أهمية التوجه للمحافل الدولية.


 

المساهمون