منذ فترة والحديث مطويّ تقريباً عن مصير القوات الأميركية في كلّ من العراق وسورية. يشار إليه أحياناً عَرَضاً في إطار الكلام عن اعتزام إدارة بايدن "الخروج العسكري" من الشرق الأوسط، والذي تعززت أرجحيته بعد قرارها بمغادرة أفغانستان. لكن في اليومين الأخيرين، انتعشت سيرته من جديد من خلال لقاءات وتلميحات رسمية بدت أقرب إلى تمهيد الأجواء لخطوة من نوع قرار الانسحاب من أفغانستان. الحلقة المفقودة في هذا التلميح كان توقيتها قد بدا أنه غير بعيد ولو أنه بقي مرهوناً باللحظة التي تراها الإدارة مناسبة لتحديده. واللافت أن الإشارات بشأن الانسحاب جاءت متزامنة وعلى الأرجح بالصدفة، بين شقيها العراقي والسوري.
في العراقي، جاءت التلميحات على لسان مارا كارلن، نائبة وزير الدفاع للشؤون الاستراتيجية، خلال ندوة الأربعاء، 6 أكتوبر/تشرين الأول، في مؤسسة "الشرق الأوسط" للدراسات والأبحاث بواشنطن. محور مطالعتها دار حول شرح خيار الإدارة الذي روّجت له أثناء الخروج من أفغانستان، والقائم على فكرة محاربة الإرهاب من "وراء الأفق". حيثيته الأساسية أنه لم تعد هناك حاجة لوجود ميداني يتمثل في "قواعد عسكرية" داخل بعض الساحات، كما كان في السابق. "فبدلاً من التعويل على الأدوات الاستخباراتية التي يوفرها الحضور العسكري في المكان؛ جرى التحول الآن باتجاه التركيز على التكنولوجيا والمراقبة"، حسب كارلن. ويكون ذلك بالتعاون مع "الدول الحليفة التي تقوم بدور في هذا المجال، "لتعقّب المجموعات الإرهابية".
ويذكر أن هذا الخيار أثار الجدل حول مدى صوابيته وفعاليته، خاصة بعد عملية التفجير المكلفة التي قام بها "داعش" الإٍرهابي عند مدخل مطار كابول أثناء عملية الإجلاء الجوي، التي كانت جارية، والتي كشفت عن "فجوة استخباراتية نتجت على الأرجح عن "الغياب الميداني عن الساحة، "حسب تحليلات عسكرية.
وأضافت كارلن أن الإدارة اعتمدت مقاربة في العراق تقوم "على عدم حصر التصويب على داعش، بحيث تؤدي في النهاية إلى المزيد من خفض القوات الأميركية هناك، وبما يقود إلى تمكيننا من تطبيع العلاقات الأمنية مع العراق، حسب ما ارتأى الرئيس بايدن في يوليو/ تموز الماضي، والذي حان أوانه"، كما قالت.
كلامها الأوضح حتى الآن في هذا الخصوص، يكشف عن أن موضوع الخفض في العراق مطروح ومتداول داخل الإدارة، وإن لم يكن قد جرى حسمه، ولو مع مرونة في توقيت نقله إلى حيز التنفيذ. فهي بحكم موقعها في دائرة التخطيط الاستراتيجي بالبنتاغون، لا بد وأنها على معرفة بوجهة الرياح بشأن وضع القوات الأميركية في العراق. وربما في المنطقة، ولو أنها لم تتطرق إلى مسألة الوجود العسكري الأميركي في غير العراق، وبالتحديد في سورية. فكل ما قالته من هذه الناحية يتمثل بأن التحالف يبقى بمثابة المفتاح في ما يتعلق بموضوع محاربة الإرهاب، ولو أنها تركت موضوع التحالف في سورية في المنطقة الرمادية التي تحتمل أكثر من تفسير.
في الوقت ذاته، صدف أن قامت إلهام أحمد، كبيرة المسؤولين في القيادة السياسية لـ"قوات سورية الديمقراطية" الكردية، بزيارة إلى واشنطن. ومن التسريبات التي مررها فريقها يتبيّن أن الحليف الكردي السوري لواشنطن ازدادت شكوكه في مدى جدية التحالف الأميركي معه وقوته، خصوصاً بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتخلّي إدارة بايدن عن علاقة عشرين سنة مع هذا البلد. ولو أن ظروف هذه العلاقة مختلفة تماماً عن العلاقة مع أكراد سورية. الواضح من كلامها أنها جاءت للحصول على المزيد من التطمين الأميركي. ونسب إليها قولها إنها "سمعت من مسؤولين في الإدارة ما يطمئن بأن القوات الأميركية باقية الآن شرقي سورية وفي جوار قاعدة التنف في الجنوب الشرقي السوري".
وأضافت بحسب الكلام المنسوب إليها أن "لا انسحاب في زمن الرئاسة الحالية"، كما فهمت من المسؤولين. لكن ذلك، أي الحضور العسكري الأميركي هناك، "مرتبط بمهمة مقاتلة داعش". وفي ذلك غموض لا بدّ أن يثير ارتياب الأكراد وغيرهم من الحلفاء، من باب أن الإدارة اختارت مقاتلة الإرهاب "عن بعد" كما قال الرئيس بايدن وكما أوضحت كارلن في محاضرتها. وبالتالي لن تكون هناك حاجة، في وقت لاحق، للحلفاء.
الأرجح أن المسؤولة الكردية لم تسمع في واشنطن ما يحملها على الاطمئنان لدرجة "حطّي يديك في ماء بارد". فانسحاب إدارة بايدن مسألة وقت. هي ملتزمة به كسياسة معلنة. ثم إن ترتيبات خريطتها الجديدة في المنطقة تقتضي ذلك. وبالذات فيما يتعلق بإيران التي بدأت واشنطن تبادلها خطوات التفاهم على الأرض، على الساحتين اللبنانية والسورية. فالمتحدث باسم الخارجية الأميركية لم ير الخميس في شحنات النفط الإيراني إلى لبنان أكثر من سد حاجة لبنانية، ولو أنه قال إن مثل هذه المعالجة لا تحل مشكلة لبنان، لكن من دون أن يأتي على سيرة العقوبات على إيران التي قال إنه "لا تغيير فيها".