عكست طبيعة الأسماء والشخصيات المائة التي اختيرَت لتعيينها في مجلس الشيوخ المصري، وصدر قرار جمهوري باعتمادها أمس السبت، مؤشرات متوقعة من النظام المصري. فالحصة التي تمثل ثلث عدد أعضاء المجلس، والممنوحة للرئيس عبد الفتاح السيسي، جاءت لتؤكد أن عضوية المجلس مجرد مكافأة ومجاملة لأكبر قدر من الأشخاص الذين يقدمون خدمات للنظام. وهدف التعيين إلى السيطرة عليهم وعلى الجهات التي يديرونها أو ينتمون إليها، من وسائل إعلام ونقابات وجامعات ومعاهد ومؤسسات عامة، في محاولة لإعادة إنتاج تجربة مجلس الشورى في عهد نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. وإلى جانب هذه الدلالة التي كانت متوقعة منذ اقتراح إنشاء المجلس بموجب التعديلات الدستورية التي أدخلها النظام في إبريل/ نيسان 2019، جاءت قائمة التعيينات وكيفية اختيار الشخصيات، لتكشف مستجدات الحراك وإدارة المشهد السياسي داخل النظام ذاته، وتفضيلاته. وحملت العديد من الظواهر الجديرة بالرصد، والمعبّرة عن استمرار سيطرة مدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل، ومدير مكتبه الضابط النافذ أحمد شعبان، صديق ضابط المخابرات محمود السيسي، وهو نجل الرئيس المصري، على آلية صنع القرار في دائرة الرئيس.
محاولة لإعادة استنساخ تجربة مجلس الشورى أيام مبارك
مع العلم أن الثلاثي يتعرّض للمزاحمة من القوة الصاعدة منذ العام الماضي، المتمثلة بمدير مكتب السيسي اللواء محسن عبد النبي، الذي كان كامل قد اختاره لخلافته، قبل أن يبدأ الأول بتأسيس دائرته الخاصة داخل مؤسسة الرئاسة. ومن بين مائة شخصية، اختار شعبان المفوض من عباس كامل ومحمود السيسي، بشكل مباشر 15 اسماً من المعينين، إلى جانب تصديقه في النهاية على جميع الأسماء المرشحة من جهات أخرى، بما فيها الجيش والشرطة والأحزاب الضعيفة، التي يريد النظام إيجاد دور صوري أكبر لها في المجلس المفتقر إلى أي صلاحيات. ومن بين المعينين المائة، رشحت تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، التي أسسها ويديرها شعبان خمسة أسماء، ورشحت الأكاديمية الوطنية للتدريب التي أسسها ويديرها أيضاً سبعة أسماء، بينما رشحت المخابرات العامة ثلاثة أسماء (هدى جمال عبد الناصر والوكيل بالمعاش جمال عبد الحليم والوكيل بالمعاش أبو الفتوح عبد السميع) بإجمالي 15 معيناً. في المقابل، رُشِّحَت أربع شخصيات فقط من رئاسة الجمهورية. مع العلم أن الشخصيات المختارة من دائرة عباس كامل، ستنضم إلى خمسة أعضاء آخرين في تنسيقية شباب الأحزاب نجحوا في انتخابات مجلس الشيوخ، لانخراطهم في القائمة الموحدة. بالتالي، يصبح نصيب هذه الدائرة في مجلس الشيوخ 20 عضواً بشكل مباشر، إلى جانب عشرات الشخصيات القريبة منها والساعية لإرضائها، سواء كانوا ممن نجحوا في الانتخابات بعضويتهم للأحزاب الموالية للمخابرات، أو كمستقلين أو كمعينين مرشحين عن جهات تتحكم المخابرات فيها بدرجات متفاوتة.
ويذكر في هذا الإطار أن تنسيقية شباب الأحزاب تحديداً، تضمن أيضاً 26 مقعداً على الأقل في مجلس النواب الجديد، عن دوائر القوائم المغلقة المطلقة الأربع. وهي مرتبطة بمجموعة الأنشطة الرئيسية للنظام الحاكم، ولا يمكن فصلها عن بعضها أو التعامل مع أحدها كمستقلة عن غيرها. والأنشطة هي: مؤتمرات الشباب، والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، والأكاديمية الوطنية للتدريب، والبرنامج الوطني للتأهيل. وهي أنشطة ممثلة في جميع التشكيلات الحكومية رفيعة المستوى، من دون ظهور أي عمل أو نشاط لها على الأرض. وسبق أن كشف مصدر مطلع لـ"العربي الجديد" في يوليو/ تموز الماضي، أن جميع المنخرطين في التنسيقية، التي بدأت تضم أعضاءً من أحزاب يسارية قبلت التعاون مع النظام أخيراً، سيكون لهم مناصب مرموقة بحلول عام 2024. وحتى ذلك الحين سيجري توسيع الاعتماد على التنسيقية، ودمغها بأوصاف تعزز مكانتها في المشهد لتصبح المرجعية السياسية الأولى للنظام، وجهة التنسيق الرئيسية بين الأحزاب المختلفة، بمعنى أن تصبح الذراع السياسية الأولى للسيسي. أما الظاهرة الثانية المرتبطة بالتعيينات، فتتمثل بالغلبة المطلقة للعسكريين ورجال الشرطة، إذ عمدت دائرة السيسي إلى مجاملة وزير الدفاع محمد زكي بمنحه حصة قوامها 12 اسماً، وبمنح وزير الداخلية خمسة أسماء. لكن الاختيارات العسكرية والشرطية لم تقتصر على الوزيرين، وتعمّدت بعض الأحزاب ترشيح شخصيات من هذا النوع أيضاً، ليس فقط على سبيل التقرب من المؤسسة العسكرية والنظام، ولكن أيضاً لأن تلك الأحزاب مكونة بالأساس من العسكريين، مثل حزب "حماة الوطن" بقيادة النائب اللواء السابق جلال هريدي (91 عاماً) الذي سيتولى رئاسة الجلسة الأولى لمجلس الشيوخ الجديد. وأدت هذه العوامل إلى اختيار 19 شخصية عسكرية وخمس قيادات شرطية سابقة ضمن قرار التعيين، لتصبح هذه الفئة من المرشحين هي الأعلى، بل يمكن اعتبارها الأكثرية الحقيقية داخل الغرفة البرلمانية الثانية، في ظل فوز عدد لا يقلّ عن 15 شخصية عسكرية وشرطية أخرى من الأعضاء المائتين المنتخبين، وعدم تمتع أي حزب بأكثرية رسمية. وتعبّر الظاهرة الثالثة عن الجفاء بين دائرة السيسي ومؤسسة الأزهر، وكان نصيب شيخ الأزهر أحمد الطيب وهيئة كبار العلماء من الترشيحات ثلاثة أسماء فقط، أي أقل من حزبي "الوفد" و"حماة الوطن" والمجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام ووزارة العدل، وأكثر فقط من النقابات وبعض الوزارات. في المقابل، مُنحَت الكنيسة القبطية حصة من ست شخصيات جرى تعيينها. أما الظاهرة الرابعة في التعيينات، فيمكن وصفها بالتهدئة والاستمالة، بمحاولة تعويض نقص تمثيل بعض العائلات الكبرى في الصعيد تحديداً، باختيار عدد من أبنائها ذوي المناصب التنفيذية والعسكرية والسياسية كأعضاء بالمجلس. وكذلك استهدفت التعيينات معالجة ضعف تمثيل الأكاديميين والإعلاميين في قوائم ترشيح حزب "مستقبل وطن" والأحزاب المتحالفة معه بالشيوخ والنواب على حد سواء. وبالنسبة إلى الظاهرة الخامسة، فقد جاءت لتؤكد ما نشرته صحيفة "العربي الجديد" في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي ثم في يناير/ كانون الثاني الماضي، قبيل إحياء الذكرى التاسعة لثورة 25 يناير 2011، عن استغلال المجلس الجديد كساحة صورية وتجريبية، لفكرة خلق معارضة مستأنسة، من داخل عباءة النظام. لكن مصادر سياسية مطلعة كشفت أنه بسبب رفض بعض الشخصيات اليسارية المعارضة للنظام قبول الترشيح، خلال اجتماعات تنسيقية سبق أن عقدها الأمن الوطني منذ بضعة أسابيع، توسع النظام في ضمّ ممثلين لأحزاب صغيرة غير مؤثرة ولا تختلف في توجهاتها عن حزب الأغلبية البرلمانية التابع للمخابرات "مستقبل وطن"، وضمّ أحزاب "حماة الوطن" و"الشعب الجمهوري" و"مصر الحديثة" و"إرادة جيل" و"السادات الديمقراطي". وعلى هذا الأساس أيضاً، زادت حصة حزب "الوفد" لتصبح ستة مقاعد، ليؤدي دور الفصيل المعارض الأساسي. وذكرت المصادر أن المشاكل التي أدت إلى اعتذار بعض الشخصيات اليسارية والحقوقية عن الترشح، تمثلت برفض مطالباتهم بضرورة الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وغلق بعض القضايا المفتوحة لقيادات الأحزاب من أصدقائهم وزملائهم. وأيضاً في إتاحة الفرصة أمامهم للمنافسة المفتوحة في مجلس النواب والانتخابات المحلية، وتمرير بعض الأفكار والمشروعات التشريعية التقدمية، والسماح لوسائل الإعلام المحلية باستضافتهم لعرض أفكارهم. وتبعاً لارتفاع نسبة تمثيل "الوفد"، يحاول رئيسه بهاء أبو شقة التأثير في صنّاع القرار، لانتزاع منصب رئيس المجلس. لكن المصادر تؤكد أنه سيتولى رئاسة لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية كما كان في مجلس النواب الماضي، وأن خطة السيسي لتولي رئيس المحكمة الدستورية السابق عبد الوهاب عبد الرازق (72 عاماً) رئاسة المجلس، لن تتغير.
تنسيقية شباب الأحزاب المرجعية السياسية الأولى للنظام
وعبد الرازق عُيّن في مارس/ آذار الماضي رئيساً لحزب "مستقبل وطن" على نحو مفاجئ من دون انتخاب، ومن دون أي خبرة سياسية، تمهيداً لتوليه رئاسة الغرفة الثانية للبرلمان. ولعبد الرازق مسيرة كبيرة في خدمة النظام من موقعه القضائي، فخلال رئاسته المحكمة الدستورية بين عامي 2016 و2018، عطّل تنفيذ حكم المحكمة الإدارية العليا، ببطلان التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، سامحاً بمناقشة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية في مجلس النواب. ثم ألغى الحكم نهائياً ليحصّن الاتفاقية ولتدخل حيّز التنفيذ وتنتقل الجزيرتان رسمياً إلى السعودية. كذلك أمر بتعطيل نظر العديد من الطعون على نصوص قانونية غير دستورية صدرت في عهد السيسي وسلفه عدلي منصور، كان أبرزها الطعن على تحصين عقود الدولة مع المستثمرين، والطعن على التحفظ على أموال جماعة الإخوان المسلمين ومصادرتها. ولا يدل على تهميش صلاحيات المجلس الجديد أبلغ مما نصت عليه المادة الـ 249، من أن يؤخذ رأيه في "مشاريع القوانين ومشاريع القوانين المكمّلة للدستور، التي تحال عليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب، وما يحيله رئيس الجمهورية على المجلس من مواضيع تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها في الشؤون العربية أو الخارجية". ويوضح أن صلاحياته ستكون أقلّ من مجلس الشورى في عهد مبارك، لأن دستور 1971، المعدل في عام 1980، كان يجعل عرض القوانين المكملة للدستور على مجلس الشورى إلزامياً، لكن الدستور الحالي يجعل هذا العرض اختيارياً. ولن تقلّ ميزانية المجلس الجديد عن 600 مليون جنيه (نحو 36 مليون دولار) سنوياً، بحسب مصدر حكومي مطلع، بالنظر للميزانية الحالية لمجلس النواب 1.4 مليار جنيه (89.9 مليون دولار)، وعدد أعضائه الذي لن يقلّ عن 180 بموجب الدستور.