شجّع نجاح مظاهرات الحراك الشعبي، الاثنين الماضي، في 30 ولاية، وسماح السلطات بالتظاهر وتخفيف الإجراءات الأمنية نسبيا، الآلاف من الجزائريين على العودة مجددا إلى الشارع اليوم، في أول تظاهرات جمعة تتم منذ التعليق الطوعي للتظاهرات من قبل الحراك منتصف شهر مارس/آذار الماضي، إذ شهدت اليوم 36 ولاية مسيرات وتجمعات تجدد التمسك بالمطالب المركزية المعلنة منذ الانطلاقة الأولى للحراك في 22 فبراير/شباط 2019.
كل شيء في الشارع الجزائري يفيد بأن الحراك الشعبي بصدد الموجة الثانية، بعد العودة القوية للجزائريين إلى الشارع رفضا للخيارات التي تنتهجها السلطة منذ 2019. واليوم الجمعة، ضاقت شوارع العاصمة الجزائرية بالآلاف من المتظاهرين الذين احتلوا الساحات والشوارع الرئيسة. فبعد صباح هادئ واعتيادي لم يكن فيه كثير من مظاهر الاحتجاج السياسي، تدفقت جموع المتظاهرين إلى الشوارع، وكل الأنظار كانت مصوبة إلى مساجد وسط العاصمة الجزائرية بعد صلاة الجمعة، ترقبا لخروج المظاهرات منها بعد قرار السلطات السماح بفتح كل المساجد منذ أسبوعين. وبرغم نشر وحدات من قوات الشرطة قبالة هذه المساجد، فإن زخم المظاهرات كان أكبر من أن تسيطر عليه قوات الشرطة التي كان حضورها اليوم أقل كثافة مقارنة مع الأيام الماضية، إذ كان واضحا من طريقة تمركزات الشرطة عدم وجود نوايا جدية للتضييق على المتظاهرين.
في مسجد الرحمة، أكبر المساجد وسط العاصمة، وما إن أتم الإمام الصلاة، حتى سارعت الجموع الغفيرة للمصلين داخل وخارج المسجد إلى حالة تظاهر، وعلت الهتافات السياسية المطالبة بالديمقراطية والحريات، وإنهاء تحكم الجيش في القرار السياسي، ورفض الاعتراف بالسلطة السياسية. وحمل المئات من المتظاهرين لافتات كانت معدة سلفا، كتب على أغلبها "دولة مدنية وليست عسكرية"، وحاولت الشرطة في البداية محاصرة المصلين والمتظاهرين عند خروجهم من مسجد الرحمة، لمنع التحاقهم بمسيرة المتظاهرين الذين انطلقوا من أمام مقر التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية في شارع ديدوش مراد المحاذي للمسجد، لكن قوات الشرطة لم تبد إصرارا كبيرا على منعهم واضطرت إلى فتح الطريق أمامهم.
وفي نفس السياق، انتشرت وحدة من الشرطة قبالة مسجد الهدى في نفس المنطقة تحسبا لخروج المتظاهرين، وحاولت الشرطة اعتراض المسيرة التي انطلقت من ساحة أول مايو/أيار باتجاه البريد المركزي، وأقامت سدا في طريق المتظاهرين، لكنها أخفقت في اعتراضهم واضطرت إلى الانسحاب إلى الأطراف، فواصلت المسيرة طريقها إلى ساحة البريد، حيث كانت في الأثناء مسيرة أكبر قادمة من حي باب الواد الشعبي، وهو معقل الإسلاميين وأكثر الأحياء الشعبية تمردا على السلطة، إضافة إلى مسيرة كانت قادمة من منطقة المدنية في أعالي العاصمة الجزائرية، وصلت جميعها إلى ساحة البريد المركزي. على الرغم من تسجيل بعض الاعتقالات، فإن مظاهرات الجمعة لم تسجل صدامات بين الشرطة والمتظاهرين، إذ بات كل طرف يحترم قواعد الاشتباك التي تسمح بالحفاظ على سلمية المظاهرات.
وفحصت مصالح الأمن بشكل مدقق الهويات المهنية للصحافيين والمصورين، للثتبت من حصولهم على الاعتماد والترخيص القانوني، ووجد الصحافيون أنفسهم بين مطرقة السلطة وسندان الحراك، إذ هتف المتظاهرون ضد الصحافة والقنوات التلفزيونية "الصحافة شياتين (متملقين للسلطة)"، بسبب طريقة تغطية الحراك وخضوع القنوات لضغوط وإرادة السلطة. كما لجأت السلطات إلى خفض مستوى تدفق خدمة الإنترنت، لمنع نشر الصور والفيديوهات عن المسيرات، الأمر الذي يشجع في الغالب على التحاق مزيد من المتظاهرين، وكذا للحد من وصولها إلى قنوات تلفزيونية جزائرية تبث من الخارج، كقناة "المغاربية" و" أوراس" المناوئتين للسلطة. لكن الناشطين باتوا يستخدمون تطبيقات أخرى تزيد من تدفق الإنترنت، وتتجنب التشويش التقني الذي تتعمده السلطات.
وإضافة إلى عديد الشعارات الاعتيادية التي ترفع في مظاهرات الحراك، والمطالبة بالديمقراطية والحريات ورفض الاعتراف بالسلطة السياسية القائمة، واعتبار أن الرئيس عبد المجيد تبون جاء إلى السلطة بدعم من العسكر؛ كان أبرز شعار تردد في مظاهرات اليوم الجمعة: "ماكاين (لا يوجد) إسلامي ما كاين علماني، كاين(توجد) عصابة تسرق عيناني (بدون خجل)"، وقال الناشط في الحراك الشعبي رضوان منصوري، لـ"العربي الجديد"، إن "هذا شعار يؤكد فيه الحراك الشعبي عدم وجود تمايز على قاعدة الأيديولوجيا والتوجهات في صفوفه وبين مكوناته، وهو تعبير عن رفض محاولات تقسيم الحراك ووضع شقوق بين مكوناته، إضافة إلى أنه يتضمن التأكيد أن الهدف واحد، ويخص الإطاحة بالسلطة الحاكمة التي ما زالت تحاول سرقة مكتسبات الحراك والالتفاف على مطالبه"، مضيفا أنه "يعبر عن وعي سياسي شعبي بأن مسألة التقسيمات السياسية التي عاشت عليها واستفادت منها السلطة ليست واردة في الحراك، كما أنه شعار مضاد لدعاية سياسية وسلسلة تحذيرات تطلقها السلطات بوجود تحالف بين تيار إسلامي وعلماني متشدد يدير الحراك".
لكن أكثر الشعارات الطاغية في مظاهرات اليوم هي تلك التي تستهدف جنرالات الجيش "الجنرالات إلى المزبلة"، وبدرجة أكبر شعار "دولة مدنية وليس عسكرية"، والأخير بات يثير بعض الجدل والنقاش داخل المكونات السياسية والمدنية للحراك الشعبي، تخوفا من أن يؤدي إلى خلق حالة صدام مع الجيش بنفس الطريقة التي حدثت في ما بعد يوليو/تموز 2019. ويدفع طغيان هذا النوع من الشعارات كتلة من الجزائريين لعدم المشاركة في المظاهرات الجديدة، على الرغم من دعمهم لمطالب الحراك ورفضهم لخيارات السلطة.
وتجمع كل التحاليل التي تراقب تطور الحراك الشعبي، خاصة بعد مظاهرات الاثنين واليوم الجمعة، وزخمها الشعبي وتوزعها الجغرافي، أن الجزائر بصدد موجة ثانية من الحراك، تفرض على السلطة مراجعة حساباتها السياسية وخريطة الطريق التي تعرضها للمرحلة المقبلة. وقال الناشط السياسي والمحامي صالح دبوز، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك نفسا جديدا للحراك، وهذا عامل ضاغط على طرفين: على السلطة بشأن مشروع الانتخابات المسبقة، إذ يشوش عليها على الرغم من أن السلطة وصلت إلى نوع من التوازنات في صراعاتها الداخلية؛ وعلى أحزاب المعارضة أيضا، لأنه إذا استمر الحراك بطريقة جيدة، فإن الأحزاب المعارضة ستكون في موقف محرج إزاء المشاركة في الانتخابات ومسايرة مشروع السلطة". وإزاء هذا الوضع، يعتقد صالح دبوز أن "ذلك أجبر السلطة على تغيير خطتها السياسية، وإعادة ترتيب أمورها من الداخل وفتح المجال السياسي والإعلام قليلا لفترة، من أجل امتصاص الغضب الجماهيري، كما أنها قد تحاول تقاسم الحكم مع بعض القوى الاجتماعية عموما وتطعيم المشهد السياسي بأوجه حراكية معروفة، لتفادي التخلي عن السلطة بالكامل"، مع بعض المخاوف التي يبديها من أن يؤدي توقيت هذه الهبة الجديدة للحراك إلى زيادة المخاطر الصحية بسبب استمرار انتشار فيروس كورونا.