في 6 يناير/كانون الثاني الماضي، اقتحم أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب مقرّ الكونغرس في واشنطن، لمنعه من المصادقة على فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة. تلك الحادثة، التي تحولت من تظاهرة سلمية مفترضة إلى اعتداء "عن سابق إصرار وتصميم"، بحسب مراجعات وتصريحات رسمية عدة، وراح ضحيتها قتلى ومصابون، تركت أثرها على المجتمع الأميركي، ومنه على الجيش، بعدما أعادت تسليط الضوء على اليمين المتطرف، ومدى تغلغله في السلكين الأمني والعسكري في البلاد. وكان وصول ترامب إلى البيت الأبيض ترافق مع "فورة" لليمين المتطرف حول العالم.
وليس صدفة أن يقوم البنتاغون اليوم بمراجعة معمّقة لمدى تغلغل اليمين المتطرف في صفوفه، بعد اكتشاف أن عناصر سابقة في الجيش شاركت في الهجوم، وبعد تصنيف خطر هذا التطرف، الأشد على الأمن القومي الأميركي، بحسب مجتمع الاستخبارات. هذا الواقع لا يحصل في الولايات المتحدة وحدها. فبعد تقرير رسمي يحذر من خطر اليمين المتطرف في الجيش الألماني، حذّر موقع "ميديا بارت" الأسبوع الماضي من "توجهات نازية" تشمل حوالي 50 عنصراً في الجيش الفرنسي، ما استدعى وزارة الدفاع الفرنسية لإبداء "القلق". وفي أميركا، تأتي مذكرة داخلية لوزارة الدفاع لتحذر أخيراً من هذا الخطر في صفوف الجيش، وهو خطر يخفت ويتصاعد، بحسب متابعين، على مرّ التاريخ الأميركي. أما الخطر الأشد، فهو أن يبقى "تطهير" البنتاغون دون المأمول وسط الانقسامات السياسية، ما يجعل الأمر مجرد إطار آخر للتصويب فقط على تبعات الترامبية.
قسّمت الوثيقة التطرف إلى "وطني" و"فوضوي" و"عنصري"
وإذا كان الجيش في أي بلد هو انعكاس لمجتمعه، فإن الولايات المتحدة، التي اختبرت مراحل كثيرة، وحروباً متوالية داخلياً وخارجياً، حتى أصبحت قوة عظمى والأكثر إنفاقاً في العالم على ميزانية الدفاع، تواجه في الوقت ذاته تحديات شديدة التعقيد للحفاظ على وحدة جيشها وقوتها العسكرية، نظراً ليس فقط إلى طبيعة مجتمعها المتنوع، أو تاريخها العنصري، بل إلى إسقاطات تأثيرات العولمة والاقتصاد الليبرالي، وكذلك الحروب الخارجية التي خاضتها، من فيتنام إلى أفغانستان والعراق، على واقع جيشها وقطاعها العسكري.
ويشير متابعون إلى أن عملية التجنيد داخل الجيش الأميركي، تتأثر بعوامل الاقتصاد والمنافسة ومتطلبات قطاع الصناعات العسكرية، تماماً كما تتأثر باختلاف الرؤساء الأميركيين وتدرج الأهداف، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من الحرب الباردة إلى محاربة الإرهاب. ومنذ أن ظهرت جماعة "كو كلوكس كلان" اليمينية المتطرفة، المؤمنة بتفوق العرق الأبيض، في عام 1865، على يد جنود سابقين من مرحلة الكونفيدرالية، في تينيسي، فإن الجيش الأميركي يُعتبر عنصراً جاذباً لهذه الجماعات، نظراً لما ترى فيه من طبيعتها "المحاربة" وجهوزيتها "التسلحية" للقتال.
وبحسب الكولونيل المتقاعد في الجيش الأميركي جيف ماكولاند، في حديث لموقع "دبليو بور"، فإنه "خلال المائتي عام الأخيرة، شهدنا تغيرات في حركة المجتمع الأميركي، انعكست على قوام الجيش، وعلى الأرجح اصطفافاً إلى اليمين، مع انتهاء الحرب الأهلية، وظهور الكو كلوكس كلان". وأوضح أنه "في تسعينيات القرن الماضي، عدنا لنشهد ظاهرة التطرف اليميني في الجيش، ما أوصل إلى أسوأ حادثة إرهاب داخلي، وهو تفجير أوكلاهوما سيتي عام 1995، الذي ذهب ضحيته أكتر من 165 قتيل، والمتورط فيه الجندي السابق في الجيش تيموتي ماكفي"، الذي كان عضواً في جماعة يمينية متطرفة من ميشيغن.
ويلاحظ ماكولاند أن هذه الموجة انخفضت مع بداية الألفية الثالثة، عندما جرى تسليط الضوء على محاربة الإرهاب، معيداً التذكير في الوقت ذاته بتقرير صدر عام 2009 لوزارة الأمن الداخلي، يحذر من أن انتخاب أول رئيس أميركي أسود والانكماش الاقتصادي وعودة جنود من أفغانستان والعراق، مع ما يشكل ذلك من صعوبة لهم لإعادة الاندماج في المجتمع، قد تكون كلها عوامل تشكل أرضاً خصبة لنمو اليمين المتطرف في الجيش.
وتبدو هذه المراجعة ضرورية لاستعادة الخلفية التي سبقت وصول ترامب إلى البيت الأبيض، والذي وجدت فيه جماعات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة سنداً لها. هذه الجماعات، يحذر البنتاغون، اليوم، من أنها لطالما سعت إلى تجنيد جنود سابقين في صفوفها، لكسب المزيد من المشروعية والخبرة القتالية. وقام وزير الدفاع الجديد لويد أوستن، في فبراير/شباط الماضي، بطلب جلسات مناقشة داخل الجيش والوزارة، تمتد لـ60 يوماً، ويفترض أن تنتهي في منتصف إبريل/نيسان المقبل، لبحث خطر الأفكار المتطرفة على عقيدة الجيش الأميركي. لكن ذلك يبقى بحسب متابعين دون المأمول لـ"تنظيف" الجيش، لا سيما أنه يحتاج أيضاً إلى "تشديد عملية التجنيد"، وما يستتبع ذلك من ميزانية أكبر.
وبالعودة إلى المذكرة الداخلية التي كشف عنها موقع "بوليتيكو" أمس الأحد، فإن عدداً كبيراً من الإشارات، من الأعلام التي ترفعها حركة "أنتيفا" اليسارية، إلى "الضفدع بيبي" وهو كاراكتير كرتوني يتداوله ناشطو اليمين المتطرف حول العالم على وسائل التواصل، إلى الرسومات والعبارات "الأيقونية" لجماعة "براود بويز" اليمينية المتطرفة، كلّها "إشارات تدل على أن المتطرفين قد يكونون في حالة تغلغل داخل الجيش". وذكرت الوثيقة، المؤلفة من 17 صفحة، وجمعها مركز إدارة وتحليل المخاطر التابع لوكالة الأمن ومحاربة الإرهاب في وزارة الدفاع، أن "هناك أعضاء من وزارة الدفاع ينتمون إلى مجموعات متطرفة، أو يشاركون بنشاط في جهود لتدعيم الأيديولوجيات المتطرفة"، محذرة من "شعارات اليمين واليسار المتطرفين، والإسلاميين، أو أيديولوجيات القضية الواحدة". كما نبهّت من أن العناصر المدنيين أو العسكريين في قطاع الدفاع، عليهم "واجب ومسؤولية" الإبلاغ عن أي نشاط أو تصرف متطرف (داخل صفوفهم).
تمّ توقيف عدد من "المحاربين القدامى" لدورهم في اقتحام الكابيتول
وتُعد المواد التي جمعتها الوثيقة جزءاً من جهود أكبر للبنتاغون، للتصدي وتطهير صفوفه من متطرفين محتملين، وذلك بعدما تمّ توقيف عدد من "المحاربين القدامى" والجنود السابقين، لدورهم في اقتحام الكابيتول. وبحسب "بوليتيكو"، فإن وجود المتطرفين في هذا القطاع، يبدو إلى الآن ضئيلاً. فعلى سبيل المثال، طردت البحرية الأميركية، والتي تضم 220 ألف عنصر، أخيراً، 4 عناصر فقط، لنشاطهم المتطرف. لكن البنتاغون يرى أن العدد الفعلي لهؤلاء ليس معروفاً. وإذا ما استند إلى حادثة الكونغرس، حيث أن 20 في المائة من المعتقلين، وعددهم المعلن هو بحدود 400 شخص، هم من العناصر القدامى في الجيش، فإن المسألة تبدو خطيرة. وقال أودري كورث كرونين، مدير مركز الأمن والتطوير والتكنولوجيا الجديدة في الجامعة الأميركية، في مناقشة أمام مجلس النواب خلال الأسبوع الحالي، إن "لا أحداً يعرف العدد الحقيقي" للمتطرفين في الجيش، وإن "لا خطة جدية يمكن بناؤها من دون تحديد مدى المشكلة".
وفيما تجرى مراجعة كبيرة داخل البنتاغون، يفترض أن تصدر نتائجها قريباً، قسّمت الوثيقة الجديدة الحركات المتطرفة إلى ثلاث فئات "واسعة": التطرف الوطني، التطرف الفوضوي، والتفوق الإثني/العرقي. ويرى التطرف "الوطني"، أن الحكومة الأميركية أصبحت فاسدة، وتخطت حدودها الدستورية، أو أنها لم تعد قادرة على حماية شعبها في وجه المخاطر الخارجية. ويرفض الممارسون لهذا النوع من التطرف سلطة الحكومة لفرض الضرائب والحكم، ويؤمنون بأنه لا يجب عليهم الالتزام بالقانون، وفي بعض الحالات تشكيل مليشيات، أو الدعوة لقلب الحكم بالقوة.
ومن هؤلاء، جماعات "حافظو القسم" والـ"بوغالو" و"براود بويز"، والتي شارك عناصر منها في هجوم الكابيتول. أما التطرف الفوضوي، فهو يعارض كل أشكال الحكم، بما فيها الرأسمالية والشركات. ومن الأمثلة عليه، حركة "أنتيفا"، و"احتلوا وول ستريت". وتدور الفئة الثالثة في فلك التفوق العرقي والإثني، والتي تلوم الحكومة على "فرض الاختلاط العرقي". وتشير المذكرة أيضاً إلى "طائفة واسعة" من الجماعات العنصرية، مثل الـ"أريان نايشنز"، وهي مجموعة نازية متطرفة في الولايات المتحدة، وكذلك إلى أفكار "داعش"، و"كيو أنون"، والحركات "الدينية"، كالمعادية للنساء.