تشهد باكستان هذه الأيام، واحدة من أشرس موجات أعمال العنف، والتي تطاول قوات الجيش والأمن وزعماء قبليين موالين للحكومة والأقلية المسيحية. ويرخي ذلك بثقله على العلاقات بين كابول وإسلام أباد، حيث يحمل المسؤولون في الحكومة الباكستانية مطالب إلى حركة "كابول"، لكبح تحركات المسلحين الباكستانيين على أراضيها، ومنهم الحركات الانفصالية، وسط اتهامات باكستانية للحركة بتسهيل الهجمات أو التغاضي عنها.
وأعلن الجيش الباكستاني، صباح السادس من شهر فبراير/شباط الحالي، تمكّنه من إنهاء هجوم شنّه مسلحون على قاعدتين للجيش في 2 فبراير، هو الأعنف والأطول الذي نفذه مسلحون في باكستان خلال الفترة الماضية الأخيرة.
وأكد الجيش الباكستاني أنه تمكن بعد 72 ساعة من الهجوم، أي في 5 فبراير، من القضاء على المهاجمين الذين استهدفوا القاعدتين العسكريتين، الواقعتين في إقليم بلوشستان جنوب غربي البلاد.
حالة من الارتباك تسود صفوف السياسيين والعسكريين في باكستان إزاء الموجة الجديدة من العنف
وقال مكتب العلاقات العامة في الجيش، الأحد الماضي، في بيان، إن عملية التطهير في قاعدتي بنجكور ونوشكي قد انتهت بعد 72 ساعة من بدئها، بمقتل 20 من المهاجمين وتسعة من عناصر الجيش، بينهم ضابطان.
وكانت الحكومة المحلية في إقليم بلوشستان، قد أعلنت في اليوم الأول من الهجوم، عن مقتل 13 عنصراً من الجيش جرّاء الهجوم، متحدثة عن تحصن المسلحين داخل إحدى القاعدتين، ومواجهتهم للجيش "بشراسة".
وأثار الهجوم المسلح في بلوشستان ضجّة كبيرة في الساحتين السياسية والأمنية المحلية، وازداد الأمر سوءاً بسبب تباين الآراء حول المسألة، وتضارب الأنباء بشأن الخسائر. ودلّ ذلك على عدم وجود تنسيق كامل بين المؤسسة العسكرية والإدارات السياسية.
وقال بيان الجيش إن الهجوم أدى إلى مقتل 9 من عناصر الجيش وإصابة 6 آخرين، في حين أعلن مستشار رئاسة الوزراء في الحكومة المحلية في بلوشستان، ضياء لنكو، الأحد، أن العملية انتهت بمقتل 12 من عناصر الجيش، وإصابة 26 آخرين. وكانت وزارة الداخلية في الحكومة المحلية قد أعلنت من جهتها، في اليوم الأول من الهجوم، مقتل 13 عنصراً من الجيش.
وولّدت هذه البيانات المتضاربة شعوراً بأن حالة من الارتباك تسود في صفوف السياسيين والعسكريين إزاء الموجة الجديدة من أعمال العنف، وتحديداً في ما خصّ الهجوم الضخم في بلوشستان، الذي كان تزامن مع زيارة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان للصين.
ويسعى صنّاع القرار في إسلام أباد إلى توطيد العلاقات بين باكستان والصين، خصوصاً في المجال الاقتصادي، وفي مجال المشاريع التنموية التي ينفّذ معظمها في إقليم بلوشستان، وأبرزها الممر الصيني - الباكستاني، الذي يربط منطقة شينجيانغ في أقصى غرب الصين، بميناء جوادر الاستراتيجي في بلوشستان.
واعتبر مسؤول أمني باكستاني، في تصريح لوكالة "فرانس برس" يوم الجمعة الماضي، أن الهجوم على القاعدتين "محاولة لعرقلة" زيارة خان للصين.
وبالإضافة إلى الهجوم المسلح على القاعدتين، أعلن الجيش الباكستاني، الأحد الماضي، في بيان أيضاً، تمكّن قواته من قتل انتحاري في منطقة تانك المجاورة لوزيرستان، في شمال غربي البلاد، والمحاذية لأفغانستان.
كما أعلن الجيش، الأحد الماضي، مقتل خمسة جنود باكستانيين على الأقل بنيران أطلقت من أفغانستان، في هجوم تبنته حركة "طالبان" الباكستانية، في منطقة كورمه في إقليم خبر بختونخوا.
تحدثت الداخلية الباكستانية عن توافق بين "طالبان" باكستان والحركات الانفصالية البلوشية
كما قتل جندي من القوات الخاصة في هجوم مسلح في مدينة بكهر بإقليم البنجاب، المحاذي للهند، ما يدّل على أن إقليم بلوشستان ليس وحده الذي يعاني من تصاعد أعمال العنف، والتي تطاول أيضاً مناطق الشمال الغربي، خصوصاً القبلية منها، وذلك علاوة على امتدادها إلى مناطق في إقليم البنجاب.
باكستان تتهم السلطات الأفغانية
وفي خضم كل ذلك، وجهت إسلام أباد الاتهامات إلى كابول بدور لها في ما يحصل. وركزت الاتهامات الباكستانية على نقطتين: الأولى هي وصول أسلحة تركها حلف شمال الأطلسي في أفغانستان إلى أيدي المسلحين في باكستان، خصوصاً من حركة طالبان الباكستانية، والثانية هي استخدام المسلحين الأراضي الأفغانية لاستهداف المصالح الباكستانية.
وقال وزير الداخلية الباكستاني، شيخ رشيد، في إيجاز للبرلمان، وفي حوار مع قناة "جيو" المحلية، عقب هجوم بلوشستان، إن الأسلحة التي تركتها قوات "الناتو" لحركة "طالبان" في أفغانستان، وصلت إلى أيدي المسلحين المعارضين لباكستان، وهم يستخدمونها في هجماتهم الأخيرة، مضيفاً أن المسلحين يدخلون أيضاً من الأراضي الأفغانية إلى باكستان، وينفّذون الهجمات، ثم يهربون إلى أفغانستان مجدداً.
وأشار رشيد إلى نقطة أخرى، تعتبر خطيرة وجديدة، ألا وهي التوافق بين "طالبان" الباكستانية وبين الحركات الانفصالية البلوشية. وأكد أن منفذي هجوم بلوشستان الأخير كانت لديهم روابط مع مخططين في الهند وفي أفغانستان.
من جهتها، قالت القوات الخاصة الباكستانية، في بيان الأحد، إن مهاجمي القاعدتين العسكريتين في بلوشستان، كانت بحوزتهم أسلحة متطورة، وكانوا على اتصال دائم مع قيادتهم في أفغانستان، لافتة إلى أن هؤلاء المسلحين لم يتمكنوا من الوصول إلى هدفهم بسبب الإجراءات التي اتخذتها قوات الجيش لحماية القواعد العسكرية.
لكن حركة "طالبان" نفت اتهامات إسلام أباد، وقال نائب المتحدث باسم الحركة، بلال كريمي، في بيان صدر للرد على تصريحات وزير الداخلية الباكستاني، إن الأسلحة التي تركتها قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان هي في يد "طالبان"، ولن تخرج من أيديها إلى أي جهة.
وشدّد كريمي على أن معالم سياسة الحركة واضحة جداً، وهي أنها لن تترك الأراضي الأفغانية لتستخدم ضد أي جهة كانت، أو أي دولة، من قبل أي تنظيم مسلح.
زيارة أمنية إلى كابول
وكان مستشار الأمن القومي الباكستاني، معيد يوسف، قد أجرى زيارة إلى كابول في 29 يناير/كانون الثاني الماضي، ركّز خلالها في لقاءاته على قضية المسلحين الذين يدخلون من أفغانستان إلى أراضي بلاده.
إسماعيل وزيري: لا يمكن لكابول القيام بأي عمل عسكري ضد "طالبان" الباكستانية
وقبيل وصوله إلى كابول حينها، تحدث يوسف عن شبكة منسقة على الأراضي الأفغانية ناشطة ضد المصالح الباكستانية، مضيفاً أن الحكومة الباكستانية "لا تتوقع الكثير من حكومة طالبان"، من دون الاستفاضة حول خلفيات وأسباب تصريحه.
وهذه الزيارة شابها الكثير من الغموض، إذ لم تدلِ "طالبان" ولا الجانب الباكستاني بأي تصريح حولها، سوى ما قاله المسؤول في الخارجية الأفغانية شفيع أعظم، عن توافقات تجارية واقتصادية بين البلدين. لكن على ما يبدو، فإن الزيارة حملت أيضاً مطالب أمنية باكستانية.
وأكد المحلل الأمني إسماعيل وزيري، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن مطالب باكستان خلال زيارة معيد يوسف إلى كابول كانت واضحة، وهي أن تمنع الحكومة الأفغانية "طالبان" - باكستان من شنّ هجمات في باكستان، واستئناف المفاوضات مع إسلام أباد بشروط الحكومة الباكستانية، وليس بشروط الحركة التي وصفها وزير الداخلية الباكستانية شيخ رشيد بـ"التعجيزية".
وقال وزيري إنه في حال رفض "طالبان" لهذا المطلب، فإنه ينبغي على حكومتها أن تتحرك ضد "طالبان" - باكستان، داخل الأراضي الأفغانية.
واعتبر المحلل الأمني أنه بالنظر إلى طبيعة الحركتين الأفغانية والباكستانية، وبالنظر إلى التداخل القبلي في المنطقة، لا يمكن لكابول القيام بأي عمل عسكري ضد "طالبان" - باكستان، وهو ملف سيبقى يشكل عثرة مهمة وخطيرة أمام تقدم العلاقات بين كابول وإسلام أباد مستقبلاً.
"جيش تحرير بلوشستان"... نشاط متزايد
وإلى جانب القلق من "طالبان"، ازداد نشاط "جيش تحرير بلوشستان" أخيراً، خصوصاً في إقليم بلوشستان، ما تجلى خصوصاً في الهجوم على قاعدتي بنجكور ونوشكي.
و"جيش تحرير بلوشستان" تمّ إنشاؤه في عام 1970 من قبل بعض القادة البلوش، حين قام باستهداف الجيش ومنشآت باكستانية، لكن نشاطه توقف في عهد الرئيس العسكري الراحل الجنرال ضياء الحق، بحكم تفاوض الحكومة آنذاك مع الانفصاليين البلوش.
وعاد التنظيم إلى العمل المسلح بعد عام 2000 بسبب سياسات الرئيس العسكري السابق الجنرال برويز مشرف، واستخدامه القوة ضد البلوش. ومنذ ذلك الحين، يقوم هذا التنظيم باستهداف كل ما هو حكومي، وكل ما يرتبط بالجيش، بالإضافة إلى المشاريع الصينية - الباكستانية في إقليم بلوشستان.
وتبنّى "جيش تحرير بلوشستان" أول هجوم انتحاري في عام 2018، حين استهدف حافلة كانت تقلّ مهندسين صينيين. وتقول إسلام أباد إن للتنظيم مراكز تدريب وتمويل في أفغانستان، مدعومة من الاستخبارات الهندية.
وفي خضم هذا التصعيد، أفرجت حركة "طالبان" الأفغانية، يوم الأحد الماضي، عن 15 سجيناً من عناصر البلوش في كابول، وهم من الذين كانوا تركوا بلوشستان، ويعيشون منذ فترة في أفغانستان.
ونقلت شبكة "بي بي سي" البشتوية عن مصدر بلوشي قوله إن معظم السجناء المفرج عنهم هم من كبار السن، مطالباً الحركة بالإفراج عن باقي السجناء البلوش، الذين جاؤوا إلى أفغانستان بعد مغادرتهم إقليم بلوشستان الباكستاني "وفق قوانين أممية"، حيث لا بد أن تتعامل معهم "طالبان" كـ"لاجئين".