تركيا واليونان... تصعيد على حافة المواجهة

23 سبتمبر 2022
أردوغان وميتسوتاكيس في إسطنبول في مارس الماضي (مصطفى كاماتشي/الأناضول)
+ الخط -

لم تتوقف تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عالية النبرة تجاه اليونان، منذ يونيو/حزيران الماضي، ولكنها بدأت تأخذ طابعاً تصعيدياً بعدما لاحقت المقاتلات اليونانية الطائرات التركية مرات عدة خلال أغسطس/آب الماضي فوق بحر إيجة. 

ففي 24 من ذلك الشهر، رصدت رادارات أنظمة الدفاع الجوي "أس- 300" اليونانية، المتمركزة في جزيرة كريت، المقاتلات التركية المحلقة. وعملية الرصد أو الإغلاق الراداري، هي الخطوة الأخيرة قبل إطلاق النار من أنظمة الدفاع الجوي.

أردوغان يصعد تهديداته لليونان

رد أردوغان على الحوادث المتكررة ضد المقاتلات التركية، وذهب نحو مستوى بعيد في التصعيد، عندما حذر اليونان من أنها ستدفع "ثمناً باهظاً"، في حال واصلت انتهاك المجال الجوي التركي و"مضايقة" الطائرات التركية فوق بحر إيجة.


يرتفع منسوب التوتر من خلال تسيير الدولتين لعدد كبير من الدوريات الجوية

وقال: "لدينا كلمة واحدة لليونان: لا تنسوا إزمير"، في إشارة إلى المدينة المطلة على بحر إيجة، والتي يسمّيها اليونانيون سميرنا. فقد احتلتها اليونان بعدما نُسبت إليها بموجب معاهدة في نهاية الحرب العالمية الأولى، لم تعترف بها تركيا إطلاقاً. وقد استعادها الأتراك عام 1922.

ورفع الرئيس التركي سقف التهديدات، عندما قال إن "احتلالكم لجزر بحر إيجة القريبة من تركيا لا يلزمنا. حين تأتي اللحظة، سنفعل ما يلزم. قد نصل فجأة خلال الليل". وتندد أنقرة بوجود قوات عسكرية على هذه الجزر، وتعتبر ذلك مخالفاً لمعاهدات السلام الموقعة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وعلى ذلك، ردت اليونان باتهام الطائرات العسكرية التركية بالتحليق فوق جزر يونانية قريبة من الحدود التركية. ويرتفع منسوب التوتر من خلال تسيير الدولتين لعدد كبير من الدوريات الجوية.

تهديدات أردوغان فتحت أبواب التوتر في المنطقة، ومع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ويكتسب توقيتها أهمية خاصة في وقت تشتد فيه أزمة الطاقة والغذاء بسبب حرب روسيا على أوكرانيا، ومع تعاظم الدور التركي، في ما يخص الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، وبين روسيا والغرب في مسألة توريد الحبوب من أوكرانيا، أو في ما يخص إمداد أوروبا بالغاز الأذربيجاني والروسي.

القضية القبرصية والصراعات في بحر إيجة والهجرة السرية، عناوين أزّمت العلاقات بين أنقرة وأثينا منذ عقود عدة، وكادت أن تؤدي إلى مواجهات مسلحة.

ومن هنا، تأتي تصريحات أردوغان في هذه الظروف الاستثنائية، لكي توقظ النزاعات المجمدة، بعد أن لاحت في مطلع العام الحالي فرصة فتح صفحة جديدة، بعد زيارة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى إسطنبول في مارس/آذار الماضي، والتي كانت في إطار محاولة البلدين تبريد الأجواء بعد التوتر الشديد في عام 2020 بسبب محاولات أنقرة التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.

عقدة القضية القبرصية

المسألة القبرصية هي العقدة الكبيرة بين البلدين، ومع مرور الزمن تبدو أنها باتت مستعصية على الحل. وبعد انضمام الشطر اليوناني من قبرص للاتحاد الأوروبي عام 2005، صارت اليونان تعتبر أن القضية أصبحت دولية أو أوروبية ولا تعنيها وحدها، وطرحت حلاً يقوم على الفيدرالية.

وجرت في عام 2010 مفاوضات برعاية الأمم المتحدة لتوحيد الجزيرة. ووافق رئيس جمهورية شمال قبرص في حينه، القومي درويش أوغلو، على مبدأ دولة فدرالية موحدة، ولكن المسألة لم تتحرك، وجرى رمي المسؤولية على ظهر تركيا.

المسألة القبرصية هي العقدة الكبيرة بين البلدين، ويبدو أنها باتت مستعصية على الحل

وفي حين بقيت تركيا تفصل المشكلة القبرصية عن مفاوضات الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي، فإن العلاقة بين إيجاد حل في قبرص وترشيح تركيا للاتحاد الأوروبي لا تزال قائمة إلى اليوم.

وقد صرح أكثر من مسؤول يوناني، بأن أنقرة لا يمكنها دخول أوروبا من دون حل القضية القبرصية، وفي حال تعذر ذلك، فإن عليها أن تنتظر إلى ما شاء الله، خارج الاتحاد الأوروبي، الذي وضع أمامها جملة من الشروط، تصب في صالح الطرف اليوناني.

النزاع بين تركيا واليونان حول بحر إيجة

أما المشكلة الراهنة، والتي تتعلّق بالنزاع حول بحر إيجة، فقد حدثت بصددها نزاعات كثيرة في العقود الأخيرة من القرن الماضي. وفي عامي 1987 و1996، كان البلدان قريبين من المواجهة العسكرية بينهما.

وكان الصراع في كل مرة يخص مسألة السيادة وتحديد المياه الإقليمية لكل بلد، وأيضاً الفضاءات الجوية الوطنية، ثم المناطق الاقتصادية الحصرية وغيرها.

كثيراً ما عبّر المسؤولون الأتراك عن أملهم في رؤية بحر إيجة فضاء لقاء لا يفرق بين البلدين الجارين، بينما تشكو اليونان منذ زمن طويل من تدفق المهاجرين السريين على الشواطئ اليونانية، ما زاد في تأزم العلاقات المتأزمة أصلاً.

وتتهم اليونان جارتها تركيا بغض الطرف عن هذه "التجارة" التي تنطلق من شواطئها. وعبرت عدة مرات عن رغبة في إنشاء مشروع مشترك للعمل ضد الهجرة السرية، يقوم على التعاون، إن على مستوى البلدين أو على المستوى الأوروبي.

وحتى عام 2012، تعامل الطرفان وفق صيغ من بينها موافقة تركيا على جهاز المراقبة الحدودي "فرونتيكس"، والبروتوكول اليوناني التركي لإعادة تسليم المهاجرين السريين، إلا أن الوضع خرج عن السيطرة بعد تدفق موجات كبيرة من الهجرة من سورية والعراق وأفغانستان في عام 2015، ولا تزال مستمرة إلى الآن، وتجاوزت الاتفاقات الثنائية إلى اتفاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

والجديد في الأمر هو مسألة الجزر التي تقع تحت السيادة اليونانية. ففي يونيو الماضي، صرّح وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أن أنقرة ستتحدّى سيادة اليونان على هذه الجزر إذا واصلت إرسال قوات إليها. ورد عليه رئيس وزراء اليونان بقوله "يجب أن يشعر اليونانيون بالأمان التام" في مواجهة التصعيد مع تركيا.

وكتب على تويتر: "لا تمتلك بلادنا قدرة ردع قوية فقط، والتي أعتقد أننا حرصنا على تعزيزها خلال هذه السنوات الثلاث، ولكن لديها أيضاً حلفاء أقوياء".

واستدعى ذلك تدخل أردوغان، الذي قال في خطاب أمام نواب حزبه في 15 يونيو الماضي "نحن على دراية باللعبة التاريخية التي تقوم فيها دوائر معينة بإفساد اليونان وتشجيعها وتوجيهها ضد تركيا".

تحاول اليونان جمع المزيد من أوراق القوة للوصول إلى التفوق الاستراتيجي العسكري والسياسي على تركيا

سبق ذلك بوقت قصير، أن باريس، التي تعد أحد أقوى حلفاء أثينا في شرق البحر الأبيض المتوسط، سلمت الجيل الرابع من مقاتلات "رافال" الجوية إلى اليونان، مما عزز القوات الجوية للدولة.

وبالمثل، قبل أيام قليلة من زيارة ميتسوتاكيس رفيعة المستوى لواشنطن في مايو/أيار الماضي، وافق البرلمان اليوناني على تجديد وتعديل اتفاقية التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة. ووسعت التعديلات التي أدخلت على الاتفاقية عام 2021، التعاون من خلال السماح بوجود القوات الأميركية في أربع مناطق عسكرية أخرى، بما في ذلك معسكران للجيش في وسط وشمال اليونان وقاعدة بحرية في جزيرة كريت.

انتقدت تركيا كلتا الاتفاقيتين، ولكن أكثر ما أثار انزعاجها هو الحملة التي قام بها رئيس الوزراء اليوناني ضدها في واشنطن، والطلب في خطاب له أمام الكونغرس الأميركي، بعدم الموافقة على بيع مقاتلات "أف 16" إلى تركيا. وقد استشهد بـ"التهديدات التركية وانتهاكات المجال الجوي اليوناني".

وفي خطوة مماثلة، طلبت اليونان من ألمانيا أيضاً عدم بيع غواصات إلى تركيا. وعلّق أردوغان بأن ما فعله رئيس الوزراء اليوناني يتعارض مع ما اتفقا عليه (المصالحة والتعاون) في اجتماعهما في إسطنبول. وتابع قائلاً، إن "ثقته قد اهتزت وغُدر بها"، ولم يعد مستعداً للتعامل مع ميتسوتاكيس.

ثلاث مسائل تحكم التصعيد اليوناني التركي

تحاول اليونان جمع المزيد من أوراق القوة للوصول إلى التفوق الاستراتيجي العسكري والسياسي على تركيا، وتحقيق مكاسب في بحر إيجة وشرق المتوسط، وهي تعمل على تمتين علاقاتها العسكرية مع كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل.

وفي كافة الأحوال، لا يمكن فصل التصعيد الراهن عن ثلاث مسائل مهمة؛ موقف تركيا في الحرب على أوكرانيا، التقارب التركي الروسي، والانتخابات في البلدين المقررة في العام المقبل.

وفي ما يخص المسألتين الأولى والثانية، فإن هناك عدم رضى أميركي تجاه خطوات أنقرة، فواشنطن لا تخفي انزعاجها من عدم التزام تركيا بالعقوبات الغربية على روسيا، وترى في التقارب التركي الروسي خطراً استراتيجياً بعيد المدى، يهدد المصالح الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وبعض دول أفريقيا.

إلى ذلك، يقدر خبراء من اليونان وتركيا، أن حرارة النزاع سترتفع بين الدولتين كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تركيا في يونيو المقبل، والانتخابات التشريعية في اليونان في يوليو/تموز المقبل.

ويوظف كلا الطرفين النزاعات على الحدود والمصالح على نحو انتخابي، لما لذلك من رصيد عاطفي لدى الرأي العام في البلدين، والذي لا يزال مستنفراً ولم يتجاوز آثار المواجهات السابقة.

يوظف كلا الطرفين النزاعات على الحدود والمصالح على نحو انتخابي
 

إذاً، هناك نزاع داخل الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهذا أمر يضعف الحلف في الوقت الذي يخوض فيه حرباً ضد روسيا في أوكرانيا، وتبدو المفارقة قوية حين تطلب اليونان، وهي عضو في "الناتو"، من عضو آخر في الحلف، أي الولايات المتحدة، عدم الموافقة على مبيعات الأسلحة إلى عضو ثالث، وهو تركيا.