بعد يوم واحد من إعلان تركيا توجّه وفد تقني إلى الولايات المتحدة من أجل استكمال بحث موضوع شراء مقاتلات "إف 16" الأميركية، أعلنت روسيا عبر وكالة "تاس"، الثلاثاء الماضي، توقيع اتفاقية جديدة تتيح لأنقرة اقتناء منظومة ثانية من صواريخ "إس 400". ولم تتأخر أنقرة لنفي وجود اتفاقية جديدة مع موسكو، موضحة أن المنظومة الثانية تدخل ضمن الاتفاقية الأولى التي تشمل أساساً منظومتين، ونقل التكنولوجيا في المنظومة الثانية.
كذلك جاء الإعلان الروسي بعد أيام من قمة جمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي الروسية، في الخامس من أغسطس/آب الحالي، وكانت مواضيع الطاقة والتعاون العسكري حاضرة في اللقاءات.
روسيا تحرج تركيا بصواريخ "إس 400"
ويبدو أن الإعلان الروسي لصفقة ثانية من صواريخ "إس 400" أحرج الجانب التركي، الذي يحاول انتهاج سلوك متوازن في العلاقة مع موسكو وواشنطن، خصوصاً أن الحكومة في أنقرة تسعى لانتهاج سياسة التقارب والانفتاح على دول العالم، في محاولة لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، قبل الانتخابات المقررة العام المقبل، التي تشكّل اختباراً حقيقياً لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وللرئيس رجب طيب أردوغان.
أنقرة تؤخر حالياً موضوع الصفقة الثانية مع موسكو بسبب المحاذير الأميركية
وليس الإعلان الروسي الثلاثاء الماضي، الأول من نوعه بهذا الشكل، إذ سبق أن أعلنت موسكو عبر وسائل إعلامها أيضاً قبل نحو عامين، توقيع اتفاقية جديدة مع أنقرة لشراء منظومة ثانية، وهو ما فُسر في تلك الفترة على أنه تذكير للجانب التركي بأن موسكو لا تزال ترغب في تنفيذ الاتفاقيات بين الطرفين في ما يتعلق بتوريد تلك الصواريخ. لكن هذه المرة جاء الحديث الروسي مع وجود وفد تقني تركي في الولايات المتحدة لبحث شراء مقاتلات "إف 16"، في لقاء هو الخامس من نوعه بين البلدين، بهدف استكمال اللقاءات التقنية.
وتدرك روسيا أن تركيا تعرّضت لعقوبات أميركية جراء تسلّمها المنظومة الأولى من صواريخ "إس 400" عام 2019، لتفرض واشنطن عقوبات عليها بداية عام 2020، شملت طردها من برنامج إنتاج مقاتلات "إف 35" المتطورة، وحرمانها تسلّم المقاتلات التي كان برنامج تدريب الطيارين الأتراك قد بدأ قبلها بأشهر، وطردهم من البلاد، ما أدى إلى حجز مبلغ مليار و400 مليون دولار دفعتها تركيا ثمناً للمقاتلات، فضلاً عن عقوبات أخرى شملت رئاسة الصناعات الدفاعية.
ويبدو أن موسكو سعت عبر إعلانها، لدفع أنقرة إلى إتمام صفقة "إس 400" معها، ومحاولة التأثير بالقرار الأميركي في ما يتعلق ببيع المقاتلات لتركيا. أما أنقرة التي تعي أن الكونغرس هو صاحب القرار النهائي بموضوع "إف 16"، وقد يستغل أي خطأ لعرقلة أي صفقة عسكرية جديدة كما فعل بالسابق، فحاولت استيعاب الأمر بتأكيد عدم وجود اتفاقية جديدة مع موسكو.
قلق تركي من غضب أميركي
وقالت مصادر تركية مطلعة في الخارجية التركية لـ"العربي الجديد"، إن أنقرة تؤخر حالياً موضوع الصفقة الثانية مع موسكو بسبب المحاذير الأميركية التي ستكون مرتبطة بقضايا عديدة، منها العلاقات الثنائية والتعاون العسكري، والملف السوري، خصوصاً أن أنقرة لم تستفد من المنظومة الأولى ودفعت ثمنها ولم تُخرج الصواريخ من صناديقها. وأضافت المصادر أن السلطات التركية ليست مستعدة في الوقت الحالي لدفع أموال على أسلحة تخشى استخدامها بسبب الموقف الأميركي الغاضب، وقد تماطل حتى إتمام الانتخابات العام المقبل، التي ستكون المحدد لمواصلة المضي قدماً في العلاقات مع أميركا وإتمام الصفقة مع روسيا، وأي عقوبات اقتصادية ستنال أكثر من أصوات الحكومة وتؤثر فيها.
من جهته، قال الكاتب التركي المختص بالشؤون الدولية، غونغور ياووز أصلان، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن "موضوع التوافق على منظومتي إس 400 كان ضمن الاتفاق الأول بين تركيا وروسيا، وقد سُلِّمَت المنظومة الأولى. أما الثانية، فما زالت قيد البحث، لأنها تتضمن أموراً تقنية، منها نقل التقنيات الخاصة بالمنظومة للجانب التركي، ولهذا فإن موضوع نقل التقنية يتطلب وقتاً".
ورأى أن "روسيا ترغب في إبقاء قضية الصواريخ ساخنة، خصوصاً أنها تشكل نقطة خلاف بين تركيا وأميركا، وتوقيت الحديث عن صفقة ثانية يأتي في وقت يوجد فيه وفد تركي تقني في الولايات المتحدة من أجل شراء مقاتلات إف 16، وبالتالي هي خطوة دبلوماسية من قبل روسيا". واعتبر أنه "لا توجد خلافات بين أنقرة وموسكو في هذه المسألة، لأن الأولى ترى أن مسألة صواريخ إس 400 ذات أهمية استراتيجية لها، كذلك إن العلاقات التركية الروسية عميقة أكثر في مجالات عدة، وبالتالي الخلافات بين الطرفين تتعلق بموضوع التسليم والوقت ونقل التكنولوجيا".
كاتب تركي: أنقرة لا تريد إزعاج واشنطن ولا موسكو ولكن ترى أن من حقها شراء الصواريخ الروسية
وعن العلاقة مع واشنطن، لفت إلى أن "أنقرة سبق أن عانت من مشكلة عدم تسليمها مقاتلات إف 35 من الولايات المتحدة، وباتت تتوقع خطوات أميركية تجاهها، وهي ترغب في شراء المقاتلات إف 16 لأهميتها الاستراتيجية لقواتها الجوية". ولفت إلى أن تركيا "لا تريد إزعاج واشنطن ولا موسكو، وتعمل على محاولة التوازن في العلاقة مع الدولتين، وعلى الرغم من ذلك فهي كدولة في حلف شمال الأطلسي ترى نفسها محقة بشراء الصواريخ الروسية كما تفعل دول أخرى في الحلف".
من جهته، قال المحلل السياسي مالك آتيلا قره ديريك، لـ"العربي الجديد"، إن "تركيا تتلقى الرسائل الروسية وتفهمها جيداً، وتدرك تماماً أن توقيت الإعلان ليس مصادفة، لأن البلدين قادران على تناول هذه المسألة في ما بينهما، ولا يحتاج الأمر لإعلان من طرف واحد". واعتبر أن "الرسالة موجّهة أكثر للجانب الأميركي الذي يفاوض تركيا على موضوع المقاتلات الجديدة في الفترة الراهنة".
وأضاف أن "تركيا أوضحت حقيقة ما حصل بأن لا جديد حول إس 400، بل ما زالت تواصل مشاوراتها مع روسيا، لكن مجرد طرح الأخيرة هذا الأمر إعلامياً يعيد إحياء مسألة الصواريخ في الولايات المتحدة، وربما في مستقبل الأيام قد تتجه السلطات الأميركية لوضع شروط لمزيد من العرقلة لمسألة شراء المقاتلات الحديثة، منها عدم اقتناء أنقرة لمنظومة ثانية من هذه الصواريخ".
ورأى أن تركيا "تحاول موازنة العلاقة مع روسيا وأميركا، ولا تريد إزعاج أي منهما، ولكن من الواضح أن موسكو ليست لديها النيات نفسها، وتستعجل إتمام الصفقة الثانية والحصول على الأموال من أنقرة، وممارسة الضغط عليها دبلوماسياً من جهة ثانية، ولخلق مزيد من الاضطرابات مع أميركا، وبالتالي تعزيز الخلافات داخل حلف الأطلسي من جهة ثالثة".