ولدت ماري إليزابيث تراس في أوكسفورد ونشأت في ليدز لأبوين يساريين من الطبقة الوسطى، يميلان إلى "حزب العمال" ويبغضان مارغريت تاتشر. كرهت اسمها الأول مبكّراً، فطلبت من الأساتذة مخاطبتها باسمها الثاني إليزابيث أو ليز. لم تكن وزيرة الخارجية شخصية فريدة ولا محطّ أنظار "حزب المحافظين" وعامة الناس حتى وقت قريب نسبياً، ومحرّكات البحث لا تخدم طموحاتها القيادية على الإطلاق. كثير من النقد لمسيرتها المهنية ولأهم محطّات حياتها حتى هذه اللحظة، وهي البالغة من العمر 47 عاماً. إلا أنها منذ مراهقتها تطلعّت لتسلّق السلّم الوظيفي بإيقاع لا تتناسب سرعته مع إيقاع وعيها السياسي والثقافي والاقتصادي.
تحبّ تراس القيادة والسيطرة والفوز ولا تحتمل الخسارة. ألعاب الطاولة الكلاسيكية كانت المفضلة لديها كلعبة "مونوبولي" وكان لافتاً استمتاعها بالقتال حتى الرمق الأخير وعدم استسلامها وطاقتها الهائلة على التنافس، بحسب ما صرّح به أخوها الأصغر فرنسيس لـ"بي بي سي" قبل سنوات. وليز اختارت لواحدة من ابنتيها اسم فرنسيس أيضاً بينما منحت ابنتها الأكبر إسم "ليبرتي"، وهي التي كانت في شبابها عضواً بارزاً في الحزب الديمقراطي الليبرالي وألقت خطاباً شهيراً في أحد مؤتمرات الحزب وكانت في الـ19 من عمرها داعية فيه إلى إلغاء المَلَكَية: "نحن الديمقراطيون الليبراليون نؤمن بأن الجميع يمتلك فرصة، وأن الناس لا يولدون ليحكموا".
كما أن تراس لا تمتلك مقوّمات استثنائية تفتح الشهية على النقاش والجدل. نشأت يسارية كالملايين من أبناء جيلها في بريطانيا وفي أنحاء العالم، مولعة بزراعة الأزهار والنباتات وتفتخر بحديقة بيتها، لا تتردّد بالإفصاح عن مدى عشقها للأجبان بأنواعها التي لا تعدّ ولا تحصى، تحب مسلسل "لعبة العروش" ولو قُدّر لها لعب أحد الأدوار فيه لاختارت شخصية آريا ستارك، القاتلة! أفلامها المفضّلة هي "نادي الإفطار" و"حريق سان إلمو" و"إجازة فيريس بيولر"، أفلام كوميدية خفيفة لا يصعب استيعابها ولا تتطلّب أي مهارات فكرية أو ذهنية أو تأمّلية. لديها أغنيتان مفضّلتان "آي تراي" لماسي غراي و"آي وانت تو دانس" لويتني هيوستن وتهوى الكاريوكي. كل تلك الهوايات عادية ومشتركة بالتأكيد مع الكثيرين، إلا أن مهمة البحث عن أكثر من ذلك ليست هيّنة في مسيرة تراس.
أكبر ما يؤخذ على تراس هو مواقفها المتقلّبة في أمور أساسية في الحياة الخاصة والعامة. يُجمع زملاؤها القدامى في الحزب الديمقراطي الليبرالي على أن العمل معها أمر شاقّ، إذ يصعب فهم ما تؤمن به حقاً من أفكار وقيم وسياسات. أما أحد أعضاء البرلمان عن حزب المحافظين فصرّح لـ"بي بي سي" ذات مرة بأنها شخص غريب "ليست شخصاً جيداً ولا سيئاً. فقط هي شخص غريب جداً". وكان التبدّل الأول في مسيرتها هو قلب الطاولة على ما نشأت عليه في بيت عائلتها وانضمامها في العام 1996 إلى "حزب المحافظين"، ما أثار رعب والدها أستاذ الرياضيات في جامعة ليدز ووالدتها الممرضة والمعلمة والعضو البارز في حملة نزع السلاح النووي من جانب واحد خلال الحرب الباردة. ثم تمرّدت على كراهية والديها لتاتشر فجعلتها أيقونة يحتذى بها، ولم تخف إعجابها بـ"المرأة الحديدية" ساعية للمشي في دربها. ثم عارضت أكل اللحوم وانضمّت إلى النباتيين لكنها لم تصمد طويلاً.
أثناء الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، طالبت تراس بالبقاء وعارضت "بريكست" بشدّة ووقعت على بيان متعدّد الأحزاب اتهم الداعين لمغادرة الاتحاد الأوروبي بالتطرّف، ثم تراجعت بعد الاستفتاء وأضحت من أشدّ المدافعين عن القرار ومن أكثر السياسيين إثارة للصخب الذي تصفه الصحافة بـ"الشعبوي". وفي حين يتطلّب المنصب الذي تسعى إليه اليوم تراس الكثير من الحنكة السياسية والدبلوماسية التي من المفترض أنها تتمتّع بها كوزيرة للخارجية، إلا أنها لم تتردّد ولا للحظة واحدة في مخاطبة دول الاتحاد الأوروبي بعدوانية قلّ نظيرها كأنها في مواجهة النازيين: "لقد تعلّمنا من التاريخ أن هناك شيئا واحدا يفهمه الاتحاد الأوروبي، وهو القوة"! وليست هذه جملتها "الشعبوية" الوحيدة، فإعجابها بتاتشر لم يسعفها في امتلاك مهاراتها السياسية وجاذبيتها الفكرية. في خطاب لها عن السياسة الخارجية لبريطانيا قبل عام، تحدّثت تراس مثلاً عن "إعادة بناء عضلة بريطانيا العالمية".
في المناظرة الأخيرة التي بثّتها "سكاي نيوز" قبل أسبوع ختمت المذيعة كاي بورلي لقاءها مع تراس بسؤال معقد ولا يخلو من السخرية: "كنتِ ضد (بريكست) ثم أصبحت معه، كنتِ مع توجّه البريطانيين إلى أوكرانيا لمحاربة الروس ثم تراجعتِ، شجّعتِ البناء على الأحزمة الخضراء ثم تخلّيت عن الفكرة، أردتِ القضاء على الملكية والعرش لكنك اليوم لا تريدين ذلك، أردتِ تسليح تايوان أما اليوم فلسنا متأكدين مما إذا كنتِ تحتفظين بهذه القناعة، أعلنتِ عن خطة لتخفيض رواتب موظّفي القطاع العام في المناطق الأشدّ فقراً ثم ألغيت الخطة. أين هي ليز تراس الحقيقية؟".
شغلت تراس ستة مناصب وزارية في ظل ثلاثة رؤساء وزراء مختلفين. في العام 2014 أصبحت وزيرة للبيئة، وفي 2016 وزيرة للعدل، وسكرتير أول للخزانة في 2017، ثم وزيرة للتجارة الدولية في 2019، ومنذ 2020 حتى الآن شغلت منصب وزيرة المرأة والمساواة إلى جانب كونها وزيرة للخارجية منذ العام 2021.
ولم تكن تلك السنوات صافية وعادية بالنسبة لتراس، إذ مرّت بمطبّات كثيرة وتعثّرت عند كل عتبة مهنية جديدة. في العام 2009 طالب المتشدّدون في "حزب المحافظين"، وأغلبهم يدعمها الآن في السباق ضدّ منافسها ريشي سوناك، بتعليق عضويتها في البرلمان بعدما كشفت إحدى الصحف عن علاقة سرّية لم تفصح عنها تراس جمعتها بالنائب المحافظ مارك فيلد لمدة 18 شهراً. وأدى الكشف عن تلك العلاقة إلى انفصال فيلد عن زوجته بعد 12 عاماً من ارتباطهما، بينما نجت علاقة تراس الزوجية. ثم وأثناء تولّيها وزارة البيئة، ألقت خطابًا محرجًا للغاية في المؤتمر العام للحزب، قالت ضاحكة: "تستورد بريطانيا ثلثي حاجتها من الأجبان. هذه قمة العار". وفي عهد تيريزا ماي واجهت الكثير من المشاكل في منصبها كوزيرة للعدل في حين كانت تشهد البلاد الكثير من التوترات بين الحكومة والقضاء بشأن تنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
رفضت حينها تراس الدفاع عن القضاة عندما لجأوا إليها على خلفية نشر "ديلي ميل" مقالاً تصفهم فيه بـ"أعداء الشعب" لأنهم حكموا بوجوب تصويت البرلمان على بدء عملية "بريكست". أصدرت تراس لاحقاً بياناً تؤيد فيه القضاة، إلا أنه اعتبر خطوة متأخرة جداً وغير لائقة على الإطلاق. خُفضت رتبتها بعد تلك الحادثة لتصبح سكرتيراً أول للخزانة. أما في منصبها المستمرّ حتى اللحظة كوزيرة للمرأة والمساواة، فتعرّضت تراس أيضاً لانتقادات كثيرة بحجة أن أوضاع المرأة تردّت في المجتمع البريطاني خلال الأعوام القليلة الماضية إضافة إلى حذف حق الإجهاض من اتفاقية دولية وقعت عليها بريطانيا قبل شهرين. كما أن أكثر من نصف النساء يعتقدن، وفقاً لمسح أجرته صحيفة "ذا غارديان"، أن المساواة معرّضة لخطر العودة إلى السبعينيات من القرن الماضي في العمل والمنزل والمجتمع.
عناوين كثيرة يمكن أن يطلقها المرء على السباق الذي تخوضه تراس إلى "داونينغ ستريت" وإلى زعامة "حزب المحافظين"، وربما لن يختلف العنوان كثيراً عن خطابها "الشعبوي". هنا بعض عناوين الصحافة البريطانية: "المرشّحة الأثيرة لرئيس الحكومة المستقيل بوريس جونسون"، "مرشّحة الاستمرارية"، "طموح أكبر من القدرات"، "صعود مراهقة ديمقراطية ليبرالية"، "مارغريت تاتشر الجديدة".