تحوّلات انتفاضة الكلّ الفلسطيني

28 مايو 2022
رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي أمام أنقاض برج الجلاء في غزة (تصوير مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -

يتّفق الجميع، على أنّ النظرة إلى الصراع في فلسطين المحتلّة شكّلت، ومنذ انتفاضة فلسطين التاريخيّة في ايّار/ مايو من العام الماضي ، تحوّلاً نوعيّاً قد نشهد أهميته على المدى الزمني المقبل، وهو ليس بتحوّل قليل على مستوى الرأي العام العالمي، وما نتفق عليه صحيح اعتماداً على الوقائع التي رآها العالم بعينيه، هذا العالم الذي بسبب تطوّر وسائل التواصل، لم يعد "مغمض العينين" بحسب تعبير عدد من الكتّاب الذين قاموا بتقييم المرحلة ومعطيات ما يجري على ساحة الصراع، بدءًا بالعنف الذي بدأته سلطة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين إن في أحياء القدس أو في أماكن العبادة إنقاذاً لنفسها، أو إنقاذاً لنتنياهو نفسه قبيل الانتخابات الإسرائيلية. لكن سرعان ما ذهبت العنجهيّة الصهيونية و بسبب ثقتها بحليفها الأقوى أي اليمين الأميركي إلى الأقصى في عدوانها ضدّ المواطنين الفلسطينيين لتحصد مئات القتلى والجرحى، حتى قصف برج الجلاء الذي ضمّ مكاتب وسائل إعلام عربية وأجنبيّة، وهو المشهد الذي أسهم في قلب الموازين وذكّر كثيرين بأحداث الحادي عشر من أيلول في أميركا، فلا شكّ أن الوسائل الإعلامية الأجنبية التي كانت ترى الصراع بعين واحدة إسرائيلية، ومنها وكالة الأسوشييتد برس الأميركيّة، والتي أصيبت بالحرج أو أصيبت بصحوة، ففي كلا الحالين أدّى ذلك لنتيجة واحدة، عدم استطاعة هذه الوسائل وأبرزها أسوشييتد برس على أن تتعاطى، بدءًا من تلك اللحظة، مع الساحة الفلسطينية بغير شفافية إعلامية، وهو أمر انطبق على عدد من الصحف مثل هآرتس، التي تستمرّ حتى يومنا في الإفراج عن تاريخ من جرائم التطهير العرقي بحق سكان البلاد الأصليين منذ النكبة عام 1948ولم يكن آخر تلك التحقيقات ما نشرته هآرتس قبل أيام  حول قرية "سلامة" الفلسطينيّة التي دمرتها آلة الاحتلال الصهيوني وقتلت وشرّدت أهلها، كذلك  نيويورك تايمز التي نشرت في خضمّ هبّة الكلّ الفلسطيني في مايو الفائت، مقالاً للسيناتور الديمقراطي بيلي ساندرز يهاجم فيه نتنياهو ويختم مقالته بالقول "حياة الفلسطينيين مهمّة" بما في ذلك من ربط مع حركة "حياة السود مهمّة" التي انطلقت على إثر مقتل المواطن الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد على يد شرطي أميركي أبيض.

ووسط هذا الضخّ الإعلامي المضاد للتمييز العرقي والعنصري، انفلتت محتويات وسائل التواصل الاجتماعي من قبضة الرقابة الاسرائيلية وهو الأمر الهام للغاية في عملية تبدّل النظرة نحو الصراع في فلسطين المحتلة، إذ لا يمكن غضّ النظر عن التطهير العرقي والفصل العنصري في فلسطين، في حين شهد المجتمع الأميركي تبدّلاً نوعيّاً من حيث قراءته لانحيازات الاقتصاد الأميركي والملفات السياسية الخارجيّة وقضايا حقوقية تتعلّق بالعنصرية والهجرة وسواها من قضايا استشرت مع اليمين المتطرّف المتمثّل بحكم دونالد ترامب، ولا شكّ أنّ ذلك التطرّف الذي طاول الاميركيين السود والأميركيين العرب والمسلمين، ومنهم المنخرطون في العمل السياسي في أميركا، أسهم في ازدياد الأصوات الليبرالية وتنامي التيار الديمقراطي التقدمي الأميركي الذي يرأسه السيناتور الديمقراطي بيلي ساندرز، وهو المتنازل عن ترشّحه للرئاسة لصالح جو بايدن، الأمر الذي برأي كثيرين، يفسّر "وسطيّة" موقف بايدن من الفلسطينيين هذه المرّة بعد العدوان الشرس على غزة ضمن مشروعه المقدم لمجلس الشيوخ، الذي يحثّ على الوقف الفوري لإطلاق النار وإلى حماية حقوق الإنسان الإسرائيلي والفلسطيني. 

كان هذا التصريح لبايدن بمثابة مساواة للضحيّة والجلّاد في آن معاً، ما يشير فعليّاً إلى اقتصار التوجّه الأميركي نحو فلسطين والفلسطينيين على المعالجة الإنسانية وليس لدى هذا التوجّه أيّة مقاربة للصراع التاريخي ولقضيّة وطنية في مواجهة الاحتلال. مع ذلك شعر كل عربي وفلسطيني بانتصار منقوص، هذا بما أن أميركا التي رأت "بعين واحدة" في انحيازها لإسرائيل طوال عقود، بدأت عينها الأخرى ترى مظلوميّة الفلسطينيين بما يتماهى مع الوسوم والمحتويات المنتشرة ذات العناوين المناهضة للعنصريّة كـ"العدالة العرقيّة" دون الدخول إلى جذور الصراع واستلاب فلسطين وإبادة أهل البلاد وتشريدهم كلاجئين إلى أصقاع العالم، وبين المواطنة وحدها، والمواطنة مع الوطن، كان لا بدّ للكمّ الهائل من الأصوات الحرّة السياسية والثقافية والفنية والرياضيّة في أميركا وأوروبا التي خرجت لتسجيل مواقفها، أن تخرج بآراء وأفكار تحرّرية حول فلسطين وقضيتها التاريخيّة ( مثالاً الناشط والفنان الأميركي روجر ووترز) بمعزل عن محدّدات السياسة الرسمية للبلاد، أي السياسة الإنسانية التي رغم عدم كفايتها، هي إنجاز لتراكم تحرري لدى هذه المجتمعات. في حين ولعقود طويلة كانت بعض هذه الأصوات التي تتصدّر الضوء خجولة، تغرّد خارج سرب الانحياز المطلق لإسرائيل وتتعرّض لقمع الصوت وأحياناً التصفية الجسديّة (راشيل كوري) مثلا.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

وإذا كنّا أمام تحوّل نوعي للرأي العام أفسح الطريق أمام طرح قضيّة المواطنة تحت الاحتلال، بما يعني في النظرة الرسمية الأميركية تحسيناً لشروط استعباد المواطنين العرب تحت الاحتلال الصهيوني نفسه، فإنّ الأصوات الحرّة عبر العالم استطاعت وتستطيع مستقبلاً تطويع هذا التحوّل المنقوص، إذ إن المواطنة من دون قضية الوطن وإنهاء الاحتلال لن تكون مواطنة حقّة، ويبدو واضحاً ذلك الانتقاص الذي يتمثّل في معالجة موضعية لقضية المواطنة دون قضية الوطن بما تأتّى عن إغتصابه عام 1948من مسؤولية تاريخية ومصير أربعة أجيال شرّدوا منها قسراً وتحولوا لاجئين، دون أيّ ذكر لأحقيتهم في العودة إلى وطنهم، وهو كما يبدو واضحاً توجّه دولي يستثني اللجوء الذي هو من صلب القضية الفلسطينية و الشاهد التاريخي على النكبة والاحتلال. قبيل انتفاضة الكل الفلسطيني، ذكر الصحافي اللبناني سركيس نعوم في سياق أحد الحوارات المتلفزة أنّ الحلّ في فلسطين سيكون بتحوّل المواطن الفلسطيني مواطناً إسرائيليّاً، مبدياً أسفه لذلك، ومفاد القول هنا أنّ لبنان كدولة شكلت واحة حريات وسط هذا العالم العربي المُكبّل لا تستطيع اليوم، باهتراء قواه، التعامل مع متأتيات تحرّرية يسير العالم نحوها، وعلى العكس فلا ذكر للاجئين الفلسطينيين في لبنان الاّ كـ"خطر" ديمغرافي معزول عن محيطه اللبناني ومستخدم كعدد في أي بازار سياسي أو انتخابي، في حين نتكلم عن مواطنة الفلسطيني في "اسرائيل"، من المعروف أن الفلسطينيين في لبنان  يعيشون عزلاً عنصرياً وظروفاً شديدة الصعوبة وهم مقصيون عن الحياة العامة وعن كافة حقوقهم الإنسانية رغم أنهم  يشكلون اليوم التواجد الأكبر بعد أن تمّ محو مخيمات سورية وأكبرها مخيم اليرموك وسكانه عن الخارطة خلال الحرب، ليأتي السؤال الأكثر أهميّة عن كيف يمكن لدول الجوار العربي لفلسطين عموماً والساحة اللبنانية خصوصاً، أن تستقبل حداثة الاتجاهات التحرّرية العالمية بما فيها من شعارات مهمّة كالعدالة العرقية ونبذ التمييز العنصري بكافة أشكاله؟ في حين يواجه لبنان اهتراءً على مستوى الدولة والقوانين التي لا تلائم تطلعات الجيل وتطورات الزمن بما في ذلك تنفيذ صك شرعة حقوق الإنسان العالمية الذي كان لبنان من الدول التي صاغته ووقعت عليه. يجدر الاعتراف بشبه انعدام النخب العربية المثقفة التي يمكن استثمارها لمحاكاة هذه التحوّلات الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها العالم. وأمام هذا الخواء العام تستطيع أصوات مثقفة من لبنان والخليج والعالم العربي عموماً تشكيل حالة من بثّ الوعي سرعان ما بدأت تتحوّل فعاليات مؤثّرة حول قضية فلسطين وسلاح المقاطعة منذ بدأت اتفاقات التطبيع مع دول الخليج، وتأجّجت أكثر فأكثر أثناء انتفاضة كلّ فلسطين.

ولا شكّ أنّ هذه الانتفاضة المجيدة وما رافقها من تحوّل عالمي في قراءة فلسطين، سمحت لأصوات كثيرة أن تخرج من قمقم حصارها الإعلامي، حيث بدأت تطرح الرواية الفلسطينية المعاكسة للرواية الصهيونية التي سيطرت على العقل الغربي لسبعة عقود مضت، فطرحت صحيفة" موندو وايز" على قرائها شعار، "هناك على الأقلّ وجهتان لكلّ قصّة"، وتطلب منهم المساهمة لاستمرار رفع الصوت الداعم للشعب الفلسطيني، ليكتب في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه جوناثان أوفير عن اللاجئين وحق العودة مشدّداً على أهمية مواجهة العالم بالحقيقة في مقابل الإنكار الذي حملته الحركة الصهيونية مع احتلالها الكولونيالي للبلاد والذي بدأ مع إنكار وجود شعب على هذه الأرض، ثمّ إنكار حقّهم بالعودة بعد جرائم التطهير العرقي التي ارتكبها الصهاينة بحقّهم. ويتابع جوناثان فير مشبّهاً الإنكار كمفهوم راسخ عند الحركة الصهيونية بالمائتين والثلاثين شخصا الذين قتلتهم عام 1948 في قرية الطنطورة ودفنتهم تحت التراب. وكتب ريتشارد سيلفرستاين عن أفق إسرائيل المسدود ورأى موت "حلّ الدولتين" واعتبره وهماً وأداة مفيدة ليتظاهر العالم بأن لديه خطّة. ويضيف سيلفرستاين أن الاعتراف بهذه الحقيقة من شأنه أن يجبر أي شخص جاد في قضايا السلام والعدالة على الاعتراف بالفشل أو ابتكار نهج جديد متمثّل بدولة واحدة علمانية، ويدعو إلى عزل إسرائيل وممارسة ضغط سياسي وأخلاقي واقتصادي كاف عليها أسوةً بما مورس على نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي، والذي اعترف بخط يده على الجدار بأن استمراره محكوم عليه بالفشل.
فإلى مزيد من الأصوات الحرّة المؤثرة وعسى أن تخرج بثقلها المطلوب عربياً، أيضاً. 

المساهمون