تتشابك التحديات التي تواجهها إيران، في السياستين الداخلية والخارجية، هذه الأيام، والتي تتزامن مع الذكرى الـ42 للثورة، التي تحتفل بها اليوم (حسب التقويم الإيراني). وتفاقمت المشاكل التي واجهتها طهران خلال العامين الماضيين على نحو غير مسبوق، على خلفية دخول الصراع مع واشنطن عهداً لم يمر من قبل. فالعقوبات القاسية المفروضة على طهران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في العام 2018، تعود بالأساس إلى تحدي الصراع القديم ــ الحديث مع الغرب، وتحديداً مع أميركا.
لكن هذه العقوبات نفسها لها مفاعيل داخلية قوية، ما يعقّد التحديات الداخلية المركبة، منها ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي. والعكس صحيح أيضاً، حيث إن "سوء الإدارة" أو "سوء الأداء" للحكومات الإيرانية المتعاقبة، فاقم تداعيات هذا الصراع ومفاعيله الداخلية. والنتيجة أن البلاد تواجه اليوم أزمة اقتصادية، تشكل العنوان الأبرز بين التحديات الداخلية.
لا أفق لتوصل أقطاب السياسة في إيران لحلول مشتركة لوجود رؤيتين متباعدتين في السياسة، داخلياً وخارجياً
وفجرت الأزمة احتجاجات عدة، خلال العامين الماضيين، كانت لأسباب اقتصادية بالأساس، رغم رفعها أحياناً شعارات سياسية أيضاً، فكان أکبرها خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. وتستهدف الأزمات الاقتصادية المتراكمة أساساً الشرائح الفقيرة والمتوسطة في المجتمع الإيراني، التي شكلت الحاضنة الشعبية للثورة الإسلامية قبل وأثناء انطلاقها، ما يعني أن استمرار هذه الأزمات وتداعياتها المجتمعية يكون على حساب رصيدها الشعبي. وقد دفع هذا الأمر رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، إلى إطلاق تحذيرات من هذا الأمر، في أول خطاب له بعد توليه المنصب خلال مايو/ أيار 2020. واعتبر، في حديثه عن التهديدات، أن "التهديد الأول هو تراجع الرصيد الاجتماعي للنظام"، عازياً ذلك إلى "الفشل المتراكم في الإدارة وابتعاد المسؤولين عن مبادئ الثورة".
يُضاف إلى ذلك تحدي جيل جديد صاعد في إيران، أو "جيل سوشال ميديا" إن صح التعبير، الذي لم يعايش الثورة، وهو لديه تطلعات وطموحات وقناعات قد تختلف في طبيعتها عما يدور في أذهان الآباء، فيعبر عنها على شبكات التواصل الاجتماعي. ويشكل هذا الجيل التيار الثالث، مفضلاً هذا الفضاء للتعبير عن آرائه على العناوين السياسية. ويستدعي هذا التحدي إيجاد حلول سريعة لمشاكل هذا الجيل، الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وغيرهما. لكن يبقى السؤال عما إذا كانت هذه الحلول متوفرة راهناً، بالنظر إلى الصعوبات الكبيرة التي تواجهها البلاد، ما يفرض عليها أولويات أخرى، ويؤثر على قدراتها في مواجهة مثل هذا التحدي، الذي إن استمر على حاله من دون معالجة جذرية، فمن شأنه أن يزيد من فرص عودة الاحتجاجات المطلبية والسياسية.
إلى ذلك أيضاً، فالتحدي الآخر في السياسة الداخلية، هو احتدام التجاذبات السياسية بين القوى، وعدم وجود إجماع بينها على سبل موحدة لمعالجة المشاكل، وإدارة هذه المرحلة المتأزمة في ظل تصاعد التهديدات الخارجية. ولا أفق لتوصلّ أقطاب السياسة في إيران لحلول مشتركة، لوجود رؤيتين متباعدتين في السياسة، داخلياً وخارجياً. فبينما يرى التيار الإصلاحي، ومعه التيار "الاعتدالي"، أن التنمية الاقتصادية لن تتحقق إلا بعد تحقيق التنمية السياسية و"التعامل البنّاء" مع الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، يعتقد التيار المحافظ، صاحب النصيب الأكبر في السلطة، أن هذا الحل يعيد البلاد إلى ما قبل الثورة، وإخضاعها لسيطرة أميركية.
التصريحات التي خرجت من دهاليز الإدارة الأميركية الجديدة لا تشي بوجود إرادة لتجاوز التركة الثقيلة التي خلفها ترامب
وعلى الضفة الأخرى، تواجه إيران في السياسة الخارجية تحديات كبرى، منها ارتفاع منسوب التوتر إلى مستويات قياسية مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، على خلفية سياسة الضغوط القصوى التي مارسها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي. يضاف إلى هذا استمرار التوترات في العلاقات مع البيئة المحيطة، وتحديداً مع دول خليجية، والتي أصبحت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتوتر الأكبر مع واشنطن، فمن دون انفراجة في التوتر مع الأخيرة، لا يتوقع اختراق ما في التوترات مع المحيط. يضاف إلى ذلك، دخول المتغير الإسرائيلي على الخط، خلال الشهور الأخيرة، بعد تطبيع العلاقات بين دول جارة لإيران في الخليج وبين الكيان الإسرائيلي، ما سيؤسس لتحدٍ أمني خطير على الحدود الإيرانية الجنوبية، الأكثر أهمية بالنسبة لها، ليعقّد أكثر التوترات في المنطقة، والعلاقات المتوترة بين طهران وعواصم خليجية أخرى. يحصل ذلك في ظل تشكل تحالف إقليمي، خليجي ــ إسرائيلي، للعمل ضد إيران على المدى البعيد، ولمنع عودة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المقاربة الدبلوماسية لمعالجة الخلافات معها على المدى المتوسط، بعدما قاد فوزه إلى توقعات باحتمال حدوث انفراجة في الأزمة مع إيران.
غير أن التصريحات التي خرجت من دهاليز الإدارة الأميركية الجديدة حتى الآن، لا تشي بوجود إرادة لتجاوز التركة الثقيلة التي خلفها ترامب وراءه في ما يرتبط بإيران، لتكرر الإدارة، ولو بلهجة دبلوماسية ناعمة، مطالب الإدارة السابقة نفسها في ما يتعلق بـ"الخطوط الحمراء" لطهران، أي برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية. مع ذلك، فإن عهد بايدن، المضغوط بأولويات قصوى غير الملف الإيراني، قد يمنح طهران فسحة للملمة أوراقها ومواجهة التحديات، وخاصة أن ثمة أنباء تتحدث عن اعتزام الإدارة الأميركية تخفيف الضغوط الاقتصادية، وليس رفع العقوبات الرئيسية، ما يبعث رسالة طمأنة لطهران، رغم أنها لن ترضيها. كما أن زيارات المبعوثين الأمميين إلى العراق واليمن لطهران، خلال الأيام الماضية، قد تحمل رسائل طمأنة أخرى أن بايدن على عكس سلفه لا يسعى إلى إنهاء الدور الإيراني في المنطقة.