استمع إلى الملخص
- تشكيل "تحالف جمهوري" يضم اليسار والوسط لمنع اليمين المتطرف من الحصول على الغالبية المطلقة، في محاولة للحفاظ على التوازن السياسي ومنع تغول اليمين.
- النتائج الأولية والتحركات السياسية تعكس مرحلة حرجة في السياسة الفرنسية، مع تحديات تواجه الرئيس ماكرون وتحديد مستقبل فرنسا السياسي في الدورة الثانية من الانتخابات.
في نهاية يوم عصيب للملايين من الفرنسيين المناهضين لليمين المتطرّف، جاءت نتائج الدورة الأولى للانتخابات التشريعية، أمس الأحد، مطابقة لما أظهرته استطلاعات الرأي وقبلها نتائج الانتخابات الأوروبية (9 يونيو/ حزيران الماضي)، عبر تقدّم اليمين المتطرّف في فرنسا ممثلاً بحزب التجمع الوطني اليميني بزعامة مارين لوبان وجوردان بارديلا، المرشح لترؤس حكومة ستكون، في حال نال معسكر اليمين المتطرّف غالبية مطلقة في الدورة الثانية الأحد المقبل؛ الأولى في تاريخ التعايش السياسي الذي يكون فيها طرفه يمينياً متطرّفاً.
لكن نظرياً، كل شيء يمكن أن يحصل في الدورة الثانية، مع ظهور بوادر ما يُسمى في فرنسا "تحالفاً جمهورياً" يضم أطراف معسكر اليسار، الجبهة الشعبية الجديدة، واليمين الوسطي ممثلاً بـ"معاً من أجل الجمهورية" الذي يقوده رئيس الحكومة المنتهية ولايته غابريال أتال، ومن خلفه الرئيس إيمانويل ماكرون، لقطع الطريق أمام تحقيق اليمين المتطرف في فرنسا غالبية مريحة تمكّنه من الحكم (300 مقعد من أصل 577) أو حتى غالبية غير مريحة (289 مقعداً).
"تحالف جمهوري" دعا إليه زعماء كل من الجبهة الشعبية و"معاً"، ويطلب انسحاب المرشحين المتأهلين في المركز الثالث إلى الدورة الثانية، لمصلحة المرشح الأوفر حظاً في إنزال الهزيمة بمرشح اليمين المتطرف. وبالفعل، بدأت الانسحابات تتوالى من قبل مرشحين من الجبهة اليسارية وجهة ماكرون منذ إعلان نتيجة الدورة الأولى مساء أمس الأحد، علماً أن الموعد الأخير لسحب الترشيحات يحل عند السادسة من عصر غد الثلاثاء بتوقيت باريس.
فوز 39 مرشحاً من اليمين المتطرف في فرنسا
وفاز 39 مرشحاً من اليمين المتطرف في فرنسا بمقاعد، في مقابل 31 من الجبهة الشعبية اليسارية، ومقعد واحد لجبهة "معاً"، وواحد لحزب الجمهوريين الديغولي الذي انقسم بين رئيسيه إريك سيوتي الذي تحالف مع اليمين المتطرف، بينما رفضت كل قيادة الحزب هذا الخيار، وثلاثة مرشحين آخرين من خارج التحالفات الكبرى.
أدلى حوالي 12 مليون ناخب فرنسي بأصواتهم لصالح "التجمع الوطني" العنصري والمعادي لمبادئ الجمهورية
وبموجب قانون الانتخابات الفرنسي، يفوز من الدورة الأولى كل من ينال أكثر من 50 في المائة من أصوات دائرته الفردية، في حين يتأهل إلى الدورة الثانية من يحقق 12 في المائة وأكثر من أصوات الناخبين المسجلين في تلك الدائرة. وبالتالي، فإنّ 75 مقعداً فقط حُسمت من الدورة الأولى، وتأجّل حسم 502 مقاعد إلى الدورة الثانية الأحد المقبل. لذلك، فإنّ التزام المرشحين بقرارات الانسحاب لصالح الأوفر حظاً بالفوز في وجه مرشح اليمين المتطرف في فرنسا، والتزام الناخبين بقرارات الأحزاب التصويت لذلك المرشح، سيحسمان إمكانية حكم اليمين المتطرف.
هزيمة شخصية ومباشرة لماكرون
ومثّلت نتائج الدورة الأولى هزيمة شخصية ومباشرة لماكرون، المهندس الأوحد لقرار حلّ البرلمان الفرنسي وتنظيم انتخابات مبكرة، غداة حلول "التجمع الوطني" في طليعة القوى السياسية الفرنسية في الانتخابات الأوروبية. وعزّزت هذه النتائج فرص حصول اليمين المتطرف في فرنسا على غالبية برلمانية تتيح له السيطرة على رئاسة الحكومة في الدورة الثانية يوم الأحد المقبل، ما لم تتدارك القوى الجمهورية وناخبوها الأمور، وتعمل على رصّ الصفوف لإفشال هذه الإمكانية.
وتفيد النتائج التي أعلنتها وزارة الداخلية الفرنسية بأن "التجمع الوطني" نال غالبية 33 في المائة من الأصوات، ما يعني أن حوالي 12 مليون ناخب فرنسي أدلوا بأصواتهم لصالح حزب عنصري ومعادٍ للمبادئ الجمهورية. كما أظهرت النتائج حصول الجبهة الشعبية الجديدة، أي تحالف القوى اليسارية، على 28 في المائة من الأصوات بما يشير إلى انتعاش واضح في شعبية قوى اليسار التي باتت في المرتبة الثانية على خريطة القوى السياسية. في المقابل، لم يتسنَّ للوسط، الموالي لماكرون والمنضوي في لوائح "معاً من أجل الجمهورية"، أن يتفادى انهيار شعبيته إلى أدنى مستوياتها، وحصوله على 20 في المائة من الأصوات وهي نسبة تضعه في موقع حزب الأقلية في الجمعية الوطنية الفرنسية، أي البرلمان.
وكان ماكرون قد راهن على صحوة شعبية تحدثها الانتخابات المبكرة. وقد حصلت هذه الصحوة بالفعل وعبّرت عنها نسبة الإقبال القياسية والأعلى منذ 40 عاماً، وبلغت 66 في المائة من الناخبين، لكنها لم تصب لصالح حزبه نظراً لإصرار الفرنسيين على معاقبته. وإذا تكررت هذه النسب في الدورة الانتخابية الثانية، فإن ذلك يعني وفقاً لتقديرات مراكز الاستطلاعات أن "التجمع الوطني" سيحظى بما يتراوح بين 255 و295 مقعداً في البرلمان الجديد، ما يجعله على وشك الفوز بغالبية برلمانية مطلقة تتطلب 289 مقعداً للقفز إلى رئاسة الحكومة، وهي غالبية تسمّى في فرنسا majorite non majoritaire، أي غالبية مطلقة ولكنها غير مريحة، وستكون مريحة جداً لو وصل عدد مقاعده إلى 300.
وأظهرت هذه التقديرات أنّ الجبهة اليسارية ستحظى بما يتراوح بين 125 و140 مقعداً نيابياً، تضعها في موقع القوة البرلمانية المعارضة الأولى، مقابل ما بين 90 و125 مقعداً للوسط الماكروني، بما يجعل كتلته محصورة بين قوتين كبيرتين ومعاديتين له يميناً ويساراً. والأخطر في الأمر أن هذه النتائج ستؤدي إلى قلب صفحة في تاريخ الجمهورية الخامسة، وفي سيرة ماكرون الشخصية، إذ إنّها تجعله الرئيس الذي أوصل اليمين المتطرف في فرنسا إلى السلطة، بعد أن كان زعم مراراً أنه سيكون سداً منيعاً في وجهه.
اعتبرت مارين لوبان أن الفرنسيين أكدوا عزمهم على قلب سبع سنوات من حكم يزدريهم ويؤذيهم
وللمرة الثانية في غضون حوالي ثلاثة أسابيع، أكّد "التجمع الوطني" أنه القوة السياسية الرئيسية في فرنسا، وهو ما أسعد زعيمته مارين لوبان التي فازت بمقعدها النيابي في شمال غرب فرنسا من الدورة الأولى، وكانت أول من أطل على الفرنسيين، عقب صدور النتائج، لتؤكد أنه "من خلال هذا التصويت الواضح، أكد الفرنسيون عزمهم على قلب سبع سنوات من حكم يزدريهم ويؤذيهم". وتبعها في الكلام بارديلا الذي شدد على ضرورة الإبقاء على التعبئة حتى الدورة الثانية، التي قال إنها "الأكثر أهمية في تاريخ الجمهورية". وتعهد بأن يكون رئيس حكومة "الحياة اليومية" ورئيس حكومة "الفرنسيين كافة" في حال أحرز حزبه غالبية نيابية مطلقة.
هذان التصريحان يلقيان الضوء على فترة قاتمة سيخبرها ماكرون إذا اضطر للتعايش مع حكومة يمينية متطرفة، ستكون أكثر حرصاً على معاكسته وتعقيد الأمور في وجهه حتى نهاية ولايته في 2027، ما جعله يبادر إلى الإقرار بهزيمته والدعوة بصيغة ملتبسة إلى "تحالف ديمقراطي وجمهوري واسع".
والواضح أنه بدا من الصعب على ماكرون، الذي لم يوفر أي فرصة خلال الحملة الانتخابية للتحامل على الجبهة اليسارية ومساواتها باليمين المتطرف واتهامها بالعداء للسامية، أن يدعو بوضوح إلى تجيير أصوات ناخبي حزبه لصالحها في الدوائر الانتخابية التي تقتضي ذلك. وسرّب مساعدوه أن الانسحاب لمصلحة مرشحي اليسار، والطلب من الناخبين إعطاءهم أصواتهم، سيحصل "حالة بحالة"، في إشارة إلى حرمان مرشحي حزب فرنسا الأبية من الأصوات وحصرها بمرشحي الحزب الاشتراكي والبيئيين والشيوعيين. وتوجّب انتظار رئيس الحكومة غابريال أتال، الذي قاد الحملة الانتخابية لحزبه الرئاسي، ليؤكد أن اليمين المتطرف في فرنسا "بات على أبواب الحكم" وأنه ينبغي العمل على حجب أي صوت إضافي عنه في الدورة الانتخابية الثانية.
وكان زعيم "فرنسا الأبية"، المنضوي في إطار الجبهة اليسارية، جان لوك ميلانشون، أول من بادر إلى دعوة ناخبي الجبهة لحجب أصواتهم عن اليمين المتطرف في فرنسا، مؤكداً أن مرشحي الجبهة سينسحبون من السباق الانتخابي من الدوائر التي تشهد منافسة ثلاثية في الدورة الثانية، حين يكونون ثالثين طبعاً. ومعنى هذا الموقف الذي يلتقي مع ما عبّر عنه أتال أن يعمل مرشحو الجبهة اليسارية والوسط على سحب ترشيحهم في الدوائر التي حلّوا فيها في المرتبة الثالثة لقطع طريق الفوز أمام مرشح اليمين المتطرف.
وينطوي هذا التوجيه، إذا ما اعتُمد بصدق، على إمكانية تعديل الصورة خلال الدورة الانتخابية الثانية نظراً للارتفاع القياسي للمواجهات الثلاثية التي تشمل أكثر من 300 دائرة انتخابية، لكنه ينطوي في الوقت نفسه على احتمال إيصال البلاد إلى مأزق سياسي في حال تعذر على أي من القوى إحراز غالبية برلمانية مطلقة، وهو ما يُسمى في فرنسا جعل البلد "غير قابل للحكم".