تتضمن جريمة الإبادة الجماعية أشكالًا متنوعةً من الجرائم، منها جرائم تفضي في حصيلتها النهائية كلّيًا أو جزئيًا إلى قتل الجماعة (أي الفلسطينيين في حالتنا هنا)، أو قد تلحق أذىّ فادحًا بها، أو تسعى إلى تدميرها روحيًا، وهو ما ينطبق على جملةٍ من الممارسات المنهجية الإسرائيلية تجاه شعب فلسطين الأصلي، المستمرة منذ النكبة الفلسطينية إلى يومنا هذا.
الحصار والتجويع وتقويض سبل العيش في فلسطين
وفي هذا السياق، أفاد الباحث المختص في القانون الدولي، والمستشار القانوني في قانون اللجوء والهجرة في فرنسا بشار شيخ، لـ"العربي الجديد"، بموقف القانون الدولي من جرائم الحصار والتجويع وتقويض سيل العيش، قائلاً "حسب القانون الدولي الإنساني، وحسب المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتّحدة، فإنّ فرض الحصار، الذي من شأنه تهديد حياة المدنيين، عبر حرمانهم من السلع والخدمات الأساسية الضرورية لبقائهم على قيد الحياة، هو انتهاكٌ للقانون الدولي الإنساني، دون وجود ضرورةٍ عسكريةٍ تبرره".
وتابع "يصنف (فرض الحصار) كأحد مظاهر العقاب الجماعي الذي تجرّمه اتّفاقية جنيف للقانون الدولي، في البروتوكول الثالث في المادة 87، والبروتوكول الرابع في المادة 33 وملحقها في المادة 50، والقاعدة رقم 103 من القانون الدولي الإنساني العرفي، فرض قيودٍ على حركة الأفراد والبضائع الذي من شأنه تهديد حياة المدنيين هو انتهاكٌ للقانون الدولي".
ويخضع قطاع غزّة لحصارٍ لاإنسانيٍ على مدار 17 عامًا متواصلًا، الأمر الذي قوض سبل عيش الفلسطينيين داخل قطاع غزّة على أصعدةٍ عدّةٍ، من القطاع الصحي إلى الأمان البيئي، مرورًا بشح المواد الأساسية من الطعام والغذاء والماء الصالح للشرب، فضلاً عن دوره في تقويض/ تدمير القطاع الاقتصادي بشقيه الزراعي والصناعي، من خلال منع دخول المواد الأساسية الضرورية لهذه القطاعات الإنتاجية، فضلاً عن اقتطاع الاحتلال ما يقارب 35% من أراضي القطاع الصالحة للزراعة في المنطقة العازلة التي فرضها قسرًا.
لكن لا تنحصر جريمة الحصار المفروض من قبل الاحتلال على الفلسطينيين في قطاع غزّة فقط، بل تمتد إلى شتى المناطق الفلسطينية الأخرى، عبر وتيرةٍ دوريةٍ متقطعةٍ أحيانًا ومتواصلةٍ في أحيان أخرى، فمثلاً يفرض الاحتلال حصارًا غير مباشرٍ في مختلف مناطق الضفّة الغربية، ركائزه المستوطنات غير الشرعية، وحواجزه ونقاطه العسكرية، التي تقيد حركة البشر والسلع على حدٍّ سواء، ما يحد من قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى حاجاتهم الإنسانية الضرورية، فضلاً عن آثاره المدمرة على الاقتصاد الفلسطيني، وقطاعاته الإنتاجية المختلفة.
إلى جانب ذلك، يفرض الاحتلال دوريًا حصارًا خانقًا مؤقتًا على مناطق فلسطينية محددة، تحت ذرائع أمنيةٍ تتطلب ملاحقة الفلسطينيين المنخرطين في نشاطات مقاومة الاحتلال، لكنها تستهدف عمليًا مجمل الفلسطينيين، عبر استهدافهم مباشرةً برصاص قوات الاحتلال، أو عبر اعتقالهم وأسرهم لسنواتٍ عديدةٍ، وفق قوانين الاحتلال المجحفة، بحسب التقديرات الدولية والأممية.
في هذه الحالات، يمنع الاحتلال الفلسطينيين من التوجه إلى أماكن عملهم، كما يمنع دخول السلع الضرورية، فضلاً عن منعه الطواقم الطبية من أداء مهامها اليومية، بما يشمل المهام الضرورية، أو بعضها، كما يمنع/ يعيق توجه الفلسطينيين إلى المراكز الطبية، حتّى في حالات الضرورة القصوى، كالولادات، والعمليات العاجلة، والاستشفاء من الأمراض المستعصية.
في السياق ذاته، يمارس الاحتلال سياساتٍ ممنهجةً تقوض الاقتصاد الفلسطيني، وتدمر قطاعاته الإنتاجية، خصوصًا الزراعية والرعوية، منها مصادرة الأراضي الزراعية بأوامر عسكريةٍ مجحفةٍ، ومصادرتها عبر جحافل المستوطنين المحميين من قبل قوات الاحتلال العسكرية، إلى جانب تخريب المحاصيل الفلسطينية الزراعية عبر المستوطنين غالبًا، وأحيانًا عبر قوات الاحتلال العسكرية، فضلاً عن منع الفلسطينيين من حصد أراضيهم في الأوقات المناسبة، ويضاف إلى ذلك كلّه تسميم الآبار والمياه الجوفية، ودفن النفايات السامة في أراضي الفلسطينيين ومناطقهم.
كل تلك الممارسات تؤدي إلى نتائج مشابهةٍ وواضحةٍ تلحق ضررًا بالغًا ومديدًا بالفلسطينيين، كما تفرض على الفلسطينيين ظروفًا معيشيةً مدمرةً تتفاوت في شدتها من مرحلةٍ إلى أخرى، ومن مكانٍ إلى آخر، وهو ما يتطابق مع نمطين من أنماط الإبادة الجماعية، هما: "إلحاق أذىً جسديٍّ أو روحيٍّ خطيرٍ بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروفٍ معيشيةٍ يراد بها تدميرها المادي كلّيًا أو جزئيًا".
في هذا الصدد، قال بشار شيخ لـ"العربي الجديد": "يمكن وصف الحصار الاقتصادي والمالي والتجاري، المستمر والمعزز بأنّه إبادةٌ جماعيةٌ، إذ يتضمن ممارسات التدمير/الخضوع، التي قد تمتد أيضًا إلى إدارة الشعوب. إن الغزو، الذي ينفذ القتل والحصار والتجويع والتدمير، يتبعه استغلالٌ اقتصاديٌ للشعب المهزوم، ويلجأ مرّةً أخرى، إذا لزم الأمر، إلى نفي وإبادة بعض أعضائه أو كلهم".
تدمير الفلسطينيين معنوياً من الإبادة الجماعية
إن ممارسات الاحتلال اليومية بحقّ الفلسطينيين تمتد إلى أبعاد أخرى، نادرًا ما توضع تحت مجهر البحث والتدقيق، منها ممارساتٌ تستهدف تدمير الفلسطينيين معنويًا، مثل منع رفع العلم، ومنعهم من الاحتفال في مناسباتهم الوطنية، خصوصًا في المناطق المحتلة عام 1948 والقدس، ومنها على سبيل المثال إصرار الاحتلال في أعقاب صفقة تبادل الأسرى الأخيرة مع حركة حماس، التي أفضت إلى إطلاق سراح بعض الأسيرات الفلسطينيات والأطفال الأسرى، في نوفمبر/ تشرين الثاني، على منع أيّ مظهرٍ من مظاهر الاحتفال بتحرر الأسرى والأسيرات من سجون الاحتلال.
تمتد ممارسات الاحتلال اليومية بحقّ الفلسطينيين إلى أبعاد أخرى، نادراً ما توضع تحت مجهر البحث والتدقيق، منها ممارساتٌ تستهدف تدمير الفلسطينيين معنوياً، مثل منع رفع العلم، ومنعهم من الاحتفال في مناسباتهم الوطنية
كما يسعى الاحتلال إلى تدمير الرموز الفلسطينية الأخرى، مثل تدمير النصب التذكارية الوطنية، نصب الشهداء التذكارية في عددٍ من مدن الضّفة، ونصب "شهداء سفينة مرمرة" في مرفأ ميناء غزّة، و"أقواس العودة" في مخيّمي جنين وطولكرم، و"ميدان العودة" عند المدخل الغربي لمخيّم جنين، الذي تعلوه خريطة فلسطين التاريخية مكتوبة عليها أسماء جميع المدن والبلدات التي هجروا منها في نكبة 1948، والنصب التذكاري للصحافية الفلسطينية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، ونصبٍ تذكاريٍ للشهيد ياسر عرفات، وسواها من النصب التذكارية الوطنية الفلسطينية.
إلى جانب ذلك، يتعمد الاحتلال تدنيس وتخريب رموزٍ دينيةٍ ومعنويةٍ وثقافيةٍ وتاريخيةٍ عدّة، مثل منع ترميم كهف "طور بدّو"، ومقام "النبي صالح" الذي يحاول الاحتلال الاستيلاء عليه، وموقع "تل الرميدة" الأثري في الخليل، الذي يحتوي على آثارٍ تعود إلى العصور البرونزية والحديدية والرومانية والبيزنطية، إذ أقام الاحتلال عددًا من الوحدات الاستيطانية فيه.
في السياق ذاته، تفيد إحصاءات بتدمير الاحتلال الإسرائيلي 5 آلاف موقع من مواقع الضفة الأثرية، فضلاً عن ضم الاحتلال 15% من المواقع الأثرية الفلسطينية عبر جدار الفصل العنصري، وسيطرته على 53% من المواقع الأثرية في الضّفة الغربية كونها تقع في المناطق المصنفة (ج).
تدمير المواقع الأثرية والاستيلاء عليها، إلى جانب تدمير الرموز والنصب التذكارية الوطنية تكشف أنّ الاحتلال يسعى إلى إخفاء تاريخ الأرض الفلسطينية، ومحو ارتباطها بسكانها الأصليين وتدمير الفلسطينيين معنوياً
يوضح شيخ موقف القانون الدولي من الانتهاكات التي تستهدف رموز الجماعة/ الفلسطينيين الثقافية والأثرية والمعنوية، قائلاً: "تندرج الهجمات على الرموز الثقافية تحت أحكام اتّفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح (لاهاي 1954) وبروتوكولاتها، والاتّفاقية المتعلقة بالوسائل التي تستخدم لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرقٍ غير مشروعة (1970)، واتّفاقية (اليونيدروا)، واتّفاقية التراث العالمي المتعلقة بحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (1972)، واتّفاقيات جنيف (1949) وبروتوكوليها الإضافيين (1977)، وغيرها من الصكوك القانونية الدولية ذات الصلة بالإطار القانوني للجرائم الثقافية، إزاء استمرار فقدان جميع الأرواح البريئة، والدمار والأضرار التي لحقت بالتراث الثقافي في الأراضي الفلسطينية، ولا سيّما الأضرار المبلغ عنها، التي لحقت في أهمّ المعالم الأثرية والمواقع التاريخية على وجه الأرض".
ومن المواقع الأثرية الفلسطينية التي يسيطر الاحتلال عليها: الحرم القدسي الشريف، حائط البراق، الحرم الإبراهيمي الشريف، مسجد بلال، المتحف الفلسطيني، قلعة القدس، قلعة الفريديس.
كما نذكر من المواقع الأثرية الفلسطينية التي دمرها الاحتلال كلًّا من: حارة المغاربة، وخربة أم الجمال التي تعود إلى الفترة الرومانية، والنبي زكريا، وفندق شيبرد الذي كان مقرًا لمفتي فلسطين الراحل الحاج أمين الحسيني، ومسجد المحكمة، ومسجد الظفر دمري، ومقام خليل الرحمن، ومقام الخضر، والمسجد العمري، وموقع البلاخية الأثري/ ميناء الأنثيدون المؤسّس منذ العهد اليوناني، وبيت السقا، وتل المنطار، ومسجد السيد هاشم، وموقع تل السكن، وموقع الفخاري الأثري، عدا عن إشعال النار في الجناح الشرقي من المسجد الأقصى، عبر متطرف يهودي في 21 أغسطس/ آب 1969.
إنّ تدمير المواقع الأثرية والاستيلاء عليها، إلى جانب تدمير الرموز والنصب التذكارية الوطنية تكشف أنّ الاحتلال يسعى إلى إخفاء تاريخ الأرض الفلسطينية، ومحو ارتباطها بسكانها الأصليين من جهةٍ، كما يسعى من جهةٍ أخرى إلى تدمير الفلسطينيين معنويًا، وهو ما يتقاطع مع تعريف جريمة الإبادة الجماعية، على اعتباره "إلحاق أذىً جسديٍّ أو روحيٍّ خطيرٍ بأعضاء من الجماعة".
وأفاد شيخ لـ"العربي الجديد" بهذا الخصوص بأن "قواعد القانون الدولي الإنساني اهتمت بحماية الأعيان والممتلكات التي تمثّل حاجة المجتمع الروحية والمعنوية، والتي تمثّل التراث الثقافي للشعوب، فحياة الأشخاص المدنيين علاوة على أنّها ماديةٌ هي روحيةٌ أيضاً، لذا لا تستقيم أحوالهم إلا بحماية مقومات حياتهم المادية والروحية معاً".
وأضاف: "بالتالي تعتبر هذه الانتهاكات التي تطاولها جرائم حربٍ، ضمن سياسة ممنهجة للإبادة الجماعية المادية والثقافية التي تنتهجها إسرائيل بحق فلسطين كتراثٍ إنسانيٍ وثقافيٍ. أي تعتبر الجرائم الثقافية، والانتهاكات المرافقة لها جزءًا من سياسة الإبادة الجماعية، وجرائم مكملةً لجرائم القتل والتهجير والاستيطان، وبالتالي تمثل نمطاً من أنماط الابادة الجماعية لمجموعةٍ عرقيةٍ دينيةٍ سكانيةٍ، تقع على الأشخاص والممتلكات والأعيان المدنية والرموز المقدسة والدينية".