باستقالته من منصبه رئيساً للوزراء في السودان، طوى عبد الله حمدوك صفحة استمرت أكثر من عامين قضاها في المنصب الأصعب، خلال الفترة الانتقالية، مع وجود تباين حول تقييم تلك الفترة.
وجاءت الاستقالة، حسب بيان له بثه التلفزيون الحكومي أمس الأحد، نتيجة الخلافات العميقة بين شركاء الفترة الانتقالية من عسكريين ومدنيين، أقعدته عن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة بعد توقيعه على اتفاق سياسي مع قائد الجيش، الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، وعجزه كذلك عن تحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة ووقف نزيف الدم.
وعُين حمدوك في منصب رئيس الوزراء في أغسطس/آب 2019 بترشيح من قوى إعلان الحرية والتغيير التي قادت الحراك الثوري حينئذ ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير، ووجد تعيينه ارتياحاً في الأوساط السياسية والأوساط الشعبية، بناء على خبرة اقتصادية اكتسبها خلال عمله مع وكالات الأمم المتحدة في أفريقيا لسنوات عديدة، بعد خروجه من السودان عقب فصله من وظيفة حكومية من قبل نظام البشير في تسعينيات القرن الماضي.
تحديات وعقبات
غير أن حكومته التي تشكلت رسمياً في سبتمبر/أيلول 2019، واجهت جملة من التحديات والعقبات، أبرزها هيمنة المكون العسكري على القرار، وتجاوزاً لصلاحياتهم الواردة في الوثيقة الدستورية، وتجلت تدخلات العسكر كأمثلة في السياسة الخارجية، إذ تبنى رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، خطة للتطبيع مع إسرائيل دشنها بلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في شتاء 2020 بمدينة عنتيبي الأوغندية.
واستمر البرهان في تطبيق خطة التطبيع دون اكتراث لوجود حكومة تنفيذية بلقاء مسؤولين سودانيين بإسرائيلين، كان آخرها زيارة نائب ثاني قوات الدعم السريع، الفريق عبد الرحيم دقلو، لإسرائيل قبل أسبوع واحد من انقلاب البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كما سيطر العسكر على الملفات الأمنية، وتمسكوا بإشرافهم على المؤسسات الأمنية كالشرطة وجهاز المخابرات، وأشرفوا أيضا على ملف التفاوض مع الحركات المتمردة، كما دفع العسكر مكونات سياسية واجتماعية للتمرد على حكومة حمدوك مثلما حدث في شرق السودان.
وبمنأى عن العسكر، واجهت حكومة حمدوك مخططات الدولة العميقة التي يسيطر عليها عناصر النظام القديم بغرض إفشاله، خصوصاً في المجال الاقتصادي لسحب بساط الدعم الشعبي منه، كما واجه حمدوك تحدي ضعف الحاضنة السياسية ممثلة في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، وخلافاتها الداخلية المعقدة.
ومع تلك التحديات والعقبات، نجح عبد الله في تحقيق اختراقات كبيرة، لاسيما على الصعيد الخارجي، بإخراج السودان من العزلة الدولية والبدء في دمج الاقتصاد مع الاقتصاد الدولي ورفع العقوبات، وشطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والحصول على تعهدات دولية دخلت حيز التنفيذ بشطب 60 مليار دولار من ديون على السودان من دول ومؤسسات دولية، علاوة على حصول البلاد على المليارات من القروض والمنح.
فشل حمدوك في إنهاء تدخلات الإمارات ومصر
بالمقابل، فشل عبد الله حمدوك، في إنهاء تدخلات الإمارات ومصر في الشأن السوداني، والتي عملت بشكل واضح على فرملة التحول الديمقراطي، لارتباط مصالحها أكثر بالمكون العسكري، كما أخفقت حكومته في الحد من التدهور المعيشي وغلاء الأسعار وتردي الخدمات الصحية والكهرباء، وإن بدت الأوضاع في التحسن التدريجي مطلع العام الماضي بتشكيل حكومة جديدة وبدء انسياب الدعم الدولي للسودان.
وبتصاعد الخلاف بين المكون العسكري والمكون المدني في سبتمبر/أيلول الماضي، سعى حمدوك إلى التوفيق بينهما بطرح مبادرة مع تعهدات منه بالوقوف لجانب التحول الديمقراطي على حساب التوجهات الانقلابية، ولم تجد المبادرة التوافق المطلوب حتى تنفيذ البرهان لانقلابه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وبعد نحو شهر من وضعه في الإقامة الجبرية، خرج حمدوك بتوقيعه على اتفاق مع البرهان وجد دعماً دوليا مقابل رفض شعبي واسع هو واحد من أسباب استقالته أمس الأحد.
ويقول الناطق الرسمي باسم تجمع المهنيين السودانيين، مهند مصطفى، إن حمدوك في فترة ما قبل الانقلاب نجح في بعض الملفات المهمة، وفشل في أخرى، لافتاً إلى أن "أهم ما يميز عهده الضعف والهوان والانقياد للمجلس العسكري...، حتى تم الاستحواذ على كل صلاحياته، خاصة في ملف السلام".
وأوضح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "حمدوك بتوقيعه على الاتفاق مع البرهان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تحول إلى جزء من انقلاب البرهان وإن لم يستقيل سيضعه الشارع مع الانقلابيين، وأن استقالته الآن لن تؤثر على مسار الثورة ووحدتها، بل ستكشف الغطاء عن العسكريين وتجعل المواجهة مباشرة بينهم وبين الشعب والمجتمع الدولي الذين كانوا يتسترون خلفه، مؤكداً أن الثورة ماضية للنهاية ومنتصرة وسيقدم قادة الانقلاب للمحاكمة".
أما رئيس تحرير صحيفة التغيير الإلكترونية، رشا عوض، فترى أن شخصية حمدوك التكنوقراطية ساهمت إلى حد كبير في عدم التعاطي الإيجابي والثوري مع كثير من ملفات الانتقال في السنوات الماضية، مشيرة إلى أن تلك الملفات كانت بحاجة فعلية لشخصية سياسية مغامرة ومصادمة وحاسمة، ولديها قدرة على خوض المعارك السياسية مع المكون العسكري من أجل انتزاع مطلوبات التحول الديمقراطي منهم.
وأوضحت أنه كان من الطبيعي نجاحه في الملفات الخارجية مقابل فشله داخلياً، مشيرة إلى أنه فشل في استفادة الدولة من إيرادات منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للمكون العسكري.
وبينت عوض لـ"العربي الجديد" أن الحاضنة السياسية كانت عقبة من العقبات في وجه حكومة حمدوك، بمشكلاتها الهيكلية، وانتهاجها نهج المساومة مع العسكر دون الضغط عليهم بواسطة الشارع المتحفز لذلك رغبة منه في تحقيق مدنية الدولة، مضيفة أنه "كان مطلوباً من الحاضنة السياسية تخصيص جداول أشبه ما تكون بجداول لجان المقاومة الحالية لموضوعات العدالة الانتقالية وإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية والعدلية وولاية وزارة المالية على المال العام".
الوضع أكثر تعقيداً بعد استقالة حمدوك
أما خالد الأعيسر، المحلل السياسي، فيشير في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "تجربة عبد الله حمدوك كان من الممكن أن تكون أفضل" مضيفاً أن حمدوك حقق نجاحاً نسبياً في فترة سابقة حينما سيطر التوافق على المشهد السياسي تحديداً في تنفيذ بعض القيم المرتبطة بالثورة، والانفتاح السياسي والاقتصادي المستفيد من المناخ العام للثورة، لافتاً إلى أن أفضل فرصة لنجاح حمدوك كانت تتمثل في تكوين حكومة كفاءات مستقلة.
من جهته، يقول الخبير القانوني، كمال محمد الأمين، إن "السودان فقد واحدا من أنبل الرجال ساهم في فترة وجيزة مع زملائه في مجلس الوزراء في تحقيق العديد من الإنجازات، ولعل أهمها ملف السلام ورفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإيفاء الديون وإنهاء الصفوف واستقرار سعر الصرف".
وأوضح أن "فترة حمدوك شهدت العديد من الإخفاقات والقصور الشديد خاصة فيما يتعلق بالملف العدلي والمحكمة الدستورية والمجلس التشريعي ومجلس القضاء العالي ومجلس النيابة الأعلي والمجلس التشريعي وعدم بناء جهاز أمن بمعايير عالمية لمساعدة الحكومة الانتقالية في معالجة كثير من القصور خاصة بعد حل هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن، مما جعل الحكومة الانتقالية كأنها عمياء وأصبحت كل المعلومات حصرا علي المكون العسكري".
وأشار إلى أن "استقالة حمدوك جاءت نتيجة لعدم قدرته على تسويق اتفاقه مع البرهان في 21 نوفمبر/تشرين الثاني ورفض الشارع الثوري لهذا الاتفاق، وعدم قدرة حمدوك على التواصل مع السياسيين السودانيين لعدم معرفته الجيدة بهم وكيف يفكرون. وكان في كل تلك الفترة ينتظر تكوين حاضنة بعد أن فقد حاضنته الأساسية، المجلس المركزي، ولم يقم بدعوتها إلا قبل الاستقالة بيوم واحد".
ويضيف الأمين أنه بعد استقالة حمدوك، فإن الوضع بأت أكثر تعقيدا، لافتاً إلى أن المخرج الوحيد هو بناء كتله مدنية قوامها لجان المقاومة والحرية والتغيير وقوي الثورة الأخرى والمؤيدين عدا المؤتمر الوطني.