تُظهر الوقائع السياسية في الجزائر تراجعاً لافتاً لحضور وأداء الحركة الحقوقية في البلاد، إذ غابت عن الساحة الجزائرية منذ فترة الفعاليات الحقوقية والأنشطة المدنية المرتبطة بالدفاع عن مسائل الحريات وحقوق الإنسان.
وبات الجهد الحقوقي مقتصراً في الغالب على متابعة والدفاع في المحاكم عن الناشطين المعتقلين. وبنظر البعض فإن ذلك يؤشر إلى أن الحركة الحقوقية استسلمت للواقع السياسي، بينما يبرر البعض ذلك بالضغط الرهيب الذي فرضته السلطة ومارسته خلال الفترة الماضية على الناشطين الحقوقيين. لكن البعض يرجع الأسباب أيضاً إلى عدم وجود انسجام وتكتل قوي بين فعاليات الحركة الحقوقية، والانقسامات الكثيرة التي حدثت داخل روابط حقوق الإنسان.
في يناير/ كانون الثاني الماضي أعلنت السلطات الجزائرية الحل النهائي لـ"الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان"، بقرار من القضاء. برر القضاء القرار بعدم عقد الرابطة مؤتمرها وتجديد وثائقها في الآجال القانونية، وغياب مسؤوليها المقيمين في الخارج (الرئيس السابق صالح دبوز واللاحق سعيد صالحي ونائبه عيسى رحموني).
استغلت السلطات الانقسامات السابقة بين قيادات الرابطة والخلافات الكبيرة بين أطرافها، لحلها، وكان ذلك مؤشراً واضحاً على أن السلطات التي أقدمت على حل أم المؤسسات الحقوقية التي تأسست قبل أربعة عقود، تمضي بقوة باتجاه غلق مجال النشاط الحقوقي.
طارق مراح: محاصرة العمل الحقوقي هو السبب في خفوت الأصوات المنادية بمراجعة وضع الحقوق
رافق ذلك حملة للتشكيك في الأنشطة الحقوقية والنشطاء أيضاً، عبر توجيه اتهامات للحقوقيين بتلقي أموال من الخارج، والتنسيق مع جهات خارجية في قضايا تخص الجزائر، وهي مسألة بالغة الحساسية بالنسبة للسلطة، وللرأي العام.
واستُخدمت المادة 87 مكرر في قانون العقوبات ضد الناشطين بشكل واسع على هذا الأساس، كما نجحت السلطة الجزائرية في كبح المواقف السياسية الأجنبية إزاء الملف الحقوقي في الجزائر، خصوصاً بعد الرد الفعل الحاد من قبل الجانب الجزائري تجاه مواقف سابقة كانت صدرت من فرنسا والاتحاد الأوروبي.
ضغوط السلطة على الحركة الحقوقية
يقر الناشط الحقوقي عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي، طارق مراح، بوجود خفوت وتقلص لافت للعمل والنشاط الحقوقي في الجزائر، ويرجع ذلك إلى عوامل تتصل بضغوط السلطة.
ويقول مراح لـ"العربي الجديد": "في ما يتعلق بتراجع الأداء الحقوقي لمنظمات المجتمع المدني، لا ننسى أن الرابطة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان مثلاً قد تم حلها بحكم قضائي ومنع كل أشكال نشاطها بموجب ذلك الحكم، شأنها في ذلك شأن الكثير من الجمعيات الأهلية التي تنشط في ذات الحقل الحقوقي".
ويضيف: "محاصرة العمل الحقوقي ومحاولة وأده تارة بالتدابير الأمنية، وتارة بالأحكام القضائية، هو السبب الأول في نظري في خفوت الأصوات المنادية بمراجعة وضع الحقوق والحريات في الجزائر، سواء كان منظماً في شكل جمعيات أو حتى تلك الأصوات الحرة والمستقلة عن أي شكل أهلي أو مدني منظم".
ويشير إلى أن "هذا السبب يجتمع مع أسباب أخرى، منها تخوف بعض المناضلين من تعرضهم إلى الاعتقالات ومتابعتهم، والخوف على مصيرهم المهني بالنسبة إلى من يمتهنون في قطاعات أخرى، كالإعلام والبحث العلمي وغيرها".
انعكس هذا المناخ السياسي أيضاً على مواقف الأحزاب الجزائرية في المسائل المتعلقة بالحريات والحقوق المدنية، إذ بدا التعبير عن مواقف إزاء هذه القضايا أقل حضوراً في نشاط وبيانات الأحزاب السياسية، عدا عدد قليل من الأحزاب كجبهة القوى الاشتراكية، وحزب العمال، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وحركة مجتمع السلم.
كما اختفت أيضاً مواقف نقابة القضاة واتحادات المحامين ونقابات مهنية أخرى كان لها حضور لافت في فترة الحراك الشعبي حتى عام 2021، في القضايا الحريات والحقوق، إضافة إلى عامل آخر يتعلق بغياب ظهير شعبي للنشاط الحقوقي، خصوصاً بعد انتهاء الحراك الشعبي.
دفعت هذه الضغوط عدداً كبيراً من النشطاء الحقوقيين إلى الخضوع للأمر الواقع وتقليص مستوى النشاط، الذي بقي محصوراً بأنشطة هيئات الدفاع عن الناشطين وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتستمر هيئة افتراضية (لجنة الدفاع عن معتقلي الرأي في متابعة المحاكمات)، فيما تتواصل ملاحقة عدد من أعضاء الرابطة، بتهم تخص الأمن العام، بينهم قدور شويشة وجميلة لوكيل، وسعيد بودور وحسن بوراس وأحمد منصري وغيرهم.
أحمد منصري: القمع هو الذي أدى إلى الانقسامات في كل التنظيمات
اختار عدد من أعضاء رابطة حقوق الإنسان، مغادرة البلاد إلى الخارج، اثنان من رؤساء الرابطة، سعيد صالحي وصالح دبوز، غادرا البلد ويقيمان في فرنسا وبلجيكا، كما غادر نائب رئيس الرابطة عيسى رحموني إلى الخارج.
ولم يسلم هؤلاء من انتقادات من داخل الأسرة الحقوقية نفسها، إذ وُجهت لهم انتقادات بالسعي للاستفادة من رصيد حقوقي للحصول على اللجوء في الخارج، وعزز ذلك الانقسامات في الوسط والروابط الحقوقية وتقلص نشاطها.
انقسامات الحركة الحقوقية
لكن عضو "الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان" أحمد منصري، يرفض التفسيرات التي تبرر تقلص النشاط الحقوقي في الجزائر بالانقسامات التي حدثت داخل الحركة الحقوقية.
ويقول منصري لـ"العربي الجديد" إن "الانقسامات التي شهدتها رابطة حقوق الإنسان لمدة عقد من الزمن، هي شأن داخلي للرابطة وفي كل التنظيمات أو الهيئات غير الحكومية التي يقع فيها مثل ما وقع في الرابطة ويبقى علاجه داخل الهيكل ومن مسؤولي التنظيم ولا يأتي من أي جهة كانت".
ويشير إلى أن "التراجع الذي نشهده اليوم في الحركة الحقوقية أو النشاط الحقوقي هو بسبب ممارسات السلطة على مدار سنوات طويلة، فالنظام كان يعمل ليل النهار حتى يضع حداً للنشاط الحقوقي في الجزائر وخلق ذريعة لنفسه من أجل حل الرابطة والقضاء على العمل الحقوقي في الجزائر".
ويضيف: "خير دليل هو حل الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان عن طريق المحكمة الادارية من دون إبلاغ مسؤولين الرابطة، والغريب ظهور الحكم على شبكة التواصل الاجتماعي بعد مدة ثلاثة أشهر أو أربعة من تاريخ اصدار الحكم".
ويعتبر منصري أن "القمع الذي شاهدناه ونشهده اليوم هو ما جعل الانقسامات في كل التنظيمات وفرار رؤساء هذه التنظيمات إلى الخارج بسبب الملاحقات والتضييقات في حق هؤلاء الناشطين الحقوقيين، والمضايقات القضائية والأمنية"، ويضيف: "أنا نفسي ملاحق منذ 2012، وتحت رحمة الاعتقالات والمحاكمات بسبب نشاطي الحقوقي السلمي ضمن الرابطة الجزائرية للدفاع عن الإنسان".
ويقول إن "السلطة لا تترك أي مساحة للعمل الحقوقي في الجزائر، وعملت أيضاً على اختراقها، ولم يسمح حتى بفتح مكاتب جهوية للرابطة على مستوى الوطن".