تحضر قضية الخلاف بين بروكسل ووارسو على طاولة قمة زعماء الاتحاد الأوروبيين، اليوم الخميس وغدا، بعدما وضعها رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، في ساعة متأخرة من مساء أمس، بندا على جدول الأعمال، الذي يعج بالأصل ببنود تتعلق بارتفاع أسعار الطاقة والسياسات التجارية وجائحة كورونا، وسياسات أوروبا المستقبلية، مع توتر في الأجواء مع موسكو ومينسك، وسياسات واشنطن حيال الصين.
وخلال الأسابيع الماضية، احتدم الجدل الأوروبي بخصوص تبني بولندا توجهات "سلطوية"، بوصف الأوروبيين، تتعارض مع "القيم والمبادئ" التي قام عليها المعسكر الأوروبي منذ عقود.
ويتخذ السجال الدائر طابعا يصل إلى حد التراشق، وتهديد بفرض عقوبات على وارسو، ما يدفع الأخيرة إلى مزيد من التصلب في ظل حكم يمين قومي متطرف.
وقضت المحكمة الدستورية البولندية، الأسبوع الماضي، بأن أجزاء من قانون الاتحاد الأوروبي لا تتوافق مع الدستور البولندي، ما يقوض الركيزة القانونية التي يقوم عليها الاتحاد، ويثير مخاوف من أن بولندا قد تغادره في نهاية المطاف.
يتخذ السجال الدائر طابعا يصل حد التراشق، وتهديد بفرض عقوبات على وارسو، ما يدفع الأخيرة إلى مزيد من التصلب في ظل حكم يمين قومي متطرف
فوارسو، في نظر الأوروبيين، تمضي نحو الابتعاد عن "حكم دولة القانون"، وبالأخص في نزع استقلالية سلطة القضاء، ما يجعل، بنظرهم، القضاة مجبرين على اتخاذ قرارات تتوافق وسياسات السلطة، وبما ينسف أحد أهم "أسس الاتحاد الأوروبي"، وتحديدا مبدأ الفصل بين السلطات.
وبرأي الأوروبيين، فإن "إصلاحات" وارسو للنظام القضائي باتت تتعارض مع مبادئ محكمة العدل الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
ومن بين الأمور التي تقلق أوروبا أن حكومة وارسو شددت قبضتها على تعيين القضاة وترقيتهم ومعاقبتهم.
وقالت رئيسة حكومة الدنمارك ميتا فريدركسن إن بولندا "تمزق معايير استقلال القضاء في الاتحاد الأوروبي ومجمل الأسس الديمقراطية لنشأته وتعاونه البيني"، وهو موقف معظم التيارات السياسية التقليدية في الاتحاد الأوروبي، الذين يرون أن بولندا "تنسف أسس قيام الاتحاد الأوروبي على مبدأ الفصل بين السلطات".
في المقابل، ظلت الحكومة البولندية، بزعامة حزب "القانون والعدالة"، الذي يتبنى أفكارا قومية محافظة، ترفض نداءات الأوروبيين التراجع عن خطواتها المتتالية، والمتوسعة لتشمل استهداف حرية الصحافة، إلى جانب استقلالية القضاء. وتتذرع وارسو لسنوات بأنها تواجه نظاما قضائيا موروثا من الحقبة الشيوعية، وأن إصلاحاتها تستهدف بطء النظام وبقاء قضاة من فترة النظام السابق.
ويوم الثلاثاء الماضي، خضع رئيس الوزراء البولندي، ماتيوز مورافيكي، لما يشبه جلسة استنطاق أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، حول استقلالية القضاة والنظام القضائي في بلده.
ومشكلة الأوروبيين أنهم حين ينتقدون وراسو، ومثلها بودابست، فهم يتلقون أجوبة شفهية عن "احترام سيادة القانون"، لكنهم في الوقت ذاته ينظرون إلى الممارسة بما يتعارض والتصريحات.
وذهب ساسة اليمين القومي في بولندا إلى مواجهة صاخبة خلال الأسبوعين الأخيرين، باعتبار أن "القوانين البولندية أعلى شأنا من قوانين الاتحاد الأوروبي، إذا تعارضت مع السيادة الوطنية"، ما عجل من تعمق أزمة أوروبا مع وارسو ووضعها على جدول أعمال اليوم وغد الجمعة في بروكسل.
وعادت وارسو الثلاثاء الماضي لتؤكد أنها "لن تخضع للابتزاز"، وأنها على استعداد لخوض "معركة قانونية" مع الأوروبيين، مؤكدة على مبدأ أن "البولنديين ليسوا ملزمين دائما باتباع أحكام محكمة العدل الأوروبية"، بحسب ما اتخذت المحكمة الدستورية الأسبوع الماضي بأغلبية أصوات القضاة.
ولمواجهة ذلك، يتسلح ساسة بروكسل، بما تأسس عليه اتحادهم من أن الدول الأعضاء ملزمة باتباع قوانينه وقراراته، باعتبار أن لها الأسبقية على القوانين الوطنية، وهو ما أعادت محكمة العدل الأوروبية تأكيده.
مشكلة الأوروبيين أنهم حين ينتقدون وراسو، ومثلها بودابست، فهم يتلقون أجوبة شفهية عن "احترام سيادة القانون"، لكنهم في الوقت ذاته ينظرون إلى الممارسة بما يتعارض والتصريحات
وبنظر الأوروبيين فإن المحكمة الدستورية البولندية فقدت استقلاليتها، وهو ما تتفق معه أحزاب وتيارات بولندية معارضة وناشطون محتجون في الشارع قلقون على غياب فصل السلطات.
ويسوق حزب "القانون والعدالة" الحاكم في بولندا، شأنه شأن "فيديز" المجري، تبريرات رفض التدخل الأوروبي باعتبار ما يجري "مؤامرة" تُرد إلى الملياردير اليهودي الأميركي المجري جورج سوروس، وهو أمر يقلق البرلمانيين الأوروبيين، الذين اتهم بعضهم رئيس حكومة وراسو، مورافيكي، بـ"إثارة الفتنة ونشر الأكاذيب".
وذهبت رئيسة المفوضية، أورسولا فون ديرلاين، إلى التحذير بنفسها من أن مستقبل الاتحاد الأوروبي مهدد من قبل المسار البولندي، الذي يخلط بين السلطات. وذكرت فون ديرلاين، أمس الأربعاء، أنها تشعر "بقلق شديد، لأن ذلك يشكك في أسس الاتحاد الأوروبي".
غياب استقلال القضاء في بولندا أو المجر، أو أية دول عضو في الاتحاد الأوروبي، يعني عمليا إمكانية تمييز وطني بالاعتماد على القوانين المحلية، ويشمل ذلك معظم المستويات، بما فيها التجارية، بما يتجاوز القوانين المشتركة الأوروبية التي تعامل الجميع على قدم المساواة. فغياب استقلالية القضاء، وتفضيل المحاكم الوطنية على الأوروبية، سيؤثر برأي الأوروبيين على حرية التجارة والتصدير إلى وارسو من قبل الشركات الأوروبية، وبالتالي إمكانية تفضيل شركاتها أمام أي نزاع قانوني، وباعتبار قرارات محاكمها أعلى من القرارات الأوروبية، وذلك يعني أيضا أن مواطني الاتحاد الأوروبي سيخضعون لقرارات وقوانين المحاكم البولندية، وبما يتوافق مع سياسات الحكومة، وهو ما ينسف أحد أسس "المواطنة الأوروبية".
وخلال الأشهر الأخيرة، ذهبت بولندا نحو تضييق على وسائل الإعلام، في مسعى لانتهاج سياسة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بادعاء أن المحطات تتلقى دعما خارجيا، وتوجه أصابع الاتهام بشكل متواصل إلى "مساعي جورج سوروس ومجموعته الليبرالية فرض رؤيتهم على المجتمعات".
ومنذ 2015، باتت بروكسل في حالة تصادم مع ساسة اليمين القومي المحافظ في بولندا والمجر وسلوفينيا والتشيك، ويخشى الأوروبيون من الاتجاه أكثر نحو سياسات "غير ليبرالية" في تلك الدول، في الوقت الذي يتزايد فيه خطاب تشدد قومي لدى أحزاب في غرب القارة.
وبين فترة وأخرى، تبرز قضايا تكشف عن افتراق سياسة التشدد القومي مع "قيم ومعايير" عضوية الاتحاد الأوروبي، كما يراها الأخير في قضايا التضييق على الإجهاض والمثلية ورفض سياسة أوروبا لتقاسم أعباء الهجرة، وغيرها من القضايا الشائكة في علاقة الطرفين.
وبالرغم من أن الاستطلاعات والتحركات في الشارع البولندي تؤيد بقاء بلدهم في الاتحاد الأوروبي، إلا أن سؤال الخروج منه، المعروف اختصارا "بوليكست"، تشبيها بـ"بريكست" البريطاني، بات يقلق السياسيين، ويثير أسئلة جدية عند المراقبين، رغم إعلان مورافيكي أن لا نية لبلده بالخروج من التكتل الأوروبي.
وإذا كان الأوروبيون في نقاشات اليوم لن يتخذوا قرارات حاسمة، فإن التلويح بعقوبات مالية، وحجب حق التصويت في المجلس الأوروبي، تدفع بمورافيكي إلى التصريح أنه لن يسمح بـ"الابتزاز" من قبل سياسيي الاتحاد الأوروبي.