بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحافي لإعلان النوايا

05 سبتمبر 2024
نتنياهو خلال مؤتمره الصحافي، 2 سبتمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

ظهر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مساء يوم الاثنين الماضي، في مؤتمر صحافي، بعد غياب طويل عن لقاء الإعلام الإسرائيلي. توقيت المؤتمر جاء بعد يوم حافل بالاحتجاجات والتظاهرات الكبيرة في إسرائيل، على إثر مقتل ستة أسرى إسرائيليين في غزة، وانضمام نقابة العمّال العامة (الهستدروت) للاحتجاجات وإعلان الإضراب العام في المرافق الاقتصادية، وبعد عدة ساعات من تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن، بأن نتنياهو لا يفعل بما فيه الكفاية للتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى مع حركة حماس. الرسالة الأساسية التي أراد إيصالها بنيامين نتنياهو خلال المؤتمر الصحافي، هي رفضه لمطلب انسحاب الجيش الإسرائيلي من محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، بغية تسهيل التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى مع حماس.

اجتهد بنيامين نتنياهو في شرح موقفه الرافض للانسحاب للمجتمع الإسرائيلي، وأهمية محور فيلادلفيا الاستراتيجية كما يراها. وهاجم كل من يطالب بقبول الانسحاب من المحور، حتى لو كان انسحاباً مؤقتاً يتيح له إعادة احتلاله بعد أسابيع عدة. نتنياهو استعمل، كعادته، أساليب الترهيب والتهويل والكذب وتزييف الوقائع والتاريخ، لتبرير الموقف الذي يمنع التقدم في المفاوضات. هذه كانت الرسالة المباشرة والأبرز في كلامه. إلا أنه يمكن القول إن المؤتمر الصحافي حمل رسائل إضافية لا تقل أهمية، مباشرة وغير مباشرة، توضح أهداف نتنياهو الاستراتيجية وتوضح نواياه من حرب الإبادة على غزة.


يمكن الاستنتاج من كلام نتنياهو استهتاره بالمؤسسة العسكرية والأمنية وتوصياتها

الرسائل المباشرة

شرح نتنياهو أمام الإعلام، بإسهاب، أسباب رفضه انسحاب الجيش الإسرائيلي من محور فيلادلفيا، وادعى أن هذا الموقف يجب ألا يمنع التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى والمحتجزين بين إسرائيل وحماس. الجمهور المستهدف من هذه الرسالة كان متعدداً، أولهم عامة الجمهور الإسرائيلي. أراد بنيامين نتنياهو إقناع المجتمع الإسرائيلي بضرورة البقاء في محور فيلادلفيا، بعد مقتل ستة محتجزين إسرائيليين بداية الأسبوع الماضي، كان مفروضاً أن يكون قسم منهم مشمولاً في صفقة التبادل، وتفنيد ادعاء عائلات الأسرى بأن تعطيل وتأخير الصفقة أدى إلى مقتلهم، أي اتهام نتنياهو بالمسؤولية عن مقتلهم. نتنياهو يعرف أنه لن يتمكن من إقناع عائلات الأسرى الذين ينظمون الاحتجاجات، ولا حتى قسم من المجتمع الإسرائيلي الذي يطالب بالتوصل إلى صفقة فورية لتبادل الأسرى، لكنه أراد أن يوفر الحجج والتبرير لداعميه ومؤيديه، وإبقاء النقاش العام منشغلاً في مكانة وأهمية البقاء في محور فيلادلفيا، ودوره الاستراتيجي في منع إعادة بناء قوة حماس في غزة.

نتنياهو أراد أيضاً إرسال رسالة إلى وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت وعبره للمؤسسة العسكرية، بأن موقفه لا يأتي للمناورة فقط، وأنه لن يتراجع عن هذا الموقف، وأنه مستعد لتحمّل نتائج هذا الموقف السياسي، ومستعد لاستمرار الخلاف مع المؤسسة العسكرية. نتنياهو قال بشكل واضح إن عدم معارضة المؤسسة العسكرية الانسحاب من محور فيلادلفيا، ولو بشكل مؤقت، بغية تسهيل التوصل إلى اتفاق تبادل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أسرى، غير مقبول، بل إنه موقف فيه مغامرة ومخاطرة وإن المؤسسة العسكرية تقوم بتقييم خاطئ كما فعلت قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كما يمكن الاستنتاج من كلام نتنياهو وانتقاداته المبطنة للمؤسسة العسكرية، والمباشرة لغالانت، استهتاره بالمؤسسة العسكرية والأمنية وتوصياتها، والتصدع الآخذ في الاتساع مع وزير الأمن ومع المؤسسة العسكرية والأمنية. نتنياهو يرى أن الاختلاف مع المؤسسة العسكرية يُحسّن من مكانته السياسية، خصوصاً لدى قواعد اليمين واليمين المتطرف، ويحاول إبراز ذلك بشكل دائم.

كما أراد بنيامين نتنياهو إرسال رسالة مباشرة إلى بايدن، بعد تصريح الأخير بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية لا يفعل ما يكفي للتوصل إلى اتفاق. نتنياهو يوضح، مرة أخرى، أنه لا يخشى الصدام والاختلاف العلني مع بايدن، حول قضايا يعتبرها استراتيجية وجوهرية، بل ربما يسعى إلى ذلك، ويرى أن ذلك يساهم في تحسين مكانته السياسية، خصوصاً لدى قواعد اليمين واليمين المتطرف. نتنياهو شدّد مرات عدة خلال المؤتمر الصحافي على أنه صمد أمام العديد من الضغوط التي مورست عليه خلال الحرب، من داخل المؤسسات الإسرائيلية ومن الأصدقاء في الخارج، وأنه لم يرضخ أمام هذه الضغوط.

نتنياهو أرسل أيضاً رسالة ردع وتهديد إلى وزراء حكومته وأعضاء حزبه (الليكود)، بأن مصير أي وزير أو عضو في الكنيست، يحاول انتقاد أو معارضة نتنياهو، سيكون مصيره شبيها بحالة غالانت، بحيث يُتهم بأنه يدعم مواقف حركة حماس ويعيق تحقيق أهداف الحرب وأنه ضعيف، ومكانه ليس في حزب الليكود، وأن مستقبله السياسي غير مضمون.

رسائل بنيامين نتنياهو غير المباشرة

وضّح نتنياهو في المؤتمر الصحافي أسلوب إدارته للحرب، وأنه هو صاحب القرار الأخير في إدارة الحرب والمفاوضات. وقال إنه يرى فيها حرباً وجودية لدولة إسرائيل، وإن إسرائيل تخوض الحرب مقابل كل "محور الشرّ"، كما أسماه، بقيادة إيران، وإن القضية أبعد وأوسع من القضاء على قدرات حماس العسكرية والمدنية. بل إن القضاء على قدرات حماس جزء من الهدف الأوسع، بصيغة التعامل مع قدرات إيران المحيطة بإسرائيل، وإن إسرائيل لن تؤجل هذا التعامل حتى لو كان الثمن باهظاً. ما يعني أن حرب الإبادة على غزة يمكن أن تكون جولة من ضمن جولات عدة في الحرب أمام هذا المحور، وأن أهداف الحرب أوسع مما أعلنته الحكومة الإسرائيلية بداية الحرب.

نتنياهو أراد أيضاً إرسال رسالة لحركة حماس، بأنه لن يقبل بأي حال الانسحاب من محور فيلادلفيا، وأنه سيستمر في الضغط العسكري وحرب الإبادة على غزة، في سعيه لتغيير مكانة إسرائيل الاستراتيجية، ولن يكتفي بتحقيق أهداف الحرب المعلنة. يُفهم من كلام نتنياهو أن إسرائيل تسعى إلى احتلال قطاع غزة بالكامل والسيطرة على كافة الحدود البرّية والبحرية للقطاع، وتكون مسؤولة عن الجانب الأمني بالكامل، وربما أيضاً عن الجانب المدني، كما يتضح من تسريب الإعلام الإسرائيلي، مساء أول من أمس الثلاثاء، بأن نتنياهو طلب من الجيش الإسرائيلي الاستعداد للقيام بمهام توزيع المعونات الإنسانية في قطاع غزة بدل المؤسسات الدولية.

الرسالة غير المباشرة الأبرز في كلام نتنياهو كانت أنه يرمي من حرب الإبادة على غزة، ومن العمليات العسكرية في الضفة الغربية، إلى خلق واقع سياسي واستراتيجي مختلف في غزة وفي الضفة الغربية بعد الحرب، وربما في المنطقة إذا سنحت له الظروف بذلك، بغض النظر عن الأثمان التي يمكن أن تكلّف دولة إسرائيل. نتنياهو يسعى إلى ترميم مكانة إسرائيل الاستراتيجية التي تضررت بشكل كبير بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، ويعتقد أن الثمن الحالي لتحقيق ذلك، سيكون أقل من أي ثمن يمكن أن تدفعه إسرائيل في المستقبل إذا لم تقم بذلك.

يعتقد نتنياهو أن الثمن الحالي لاستعادة قوة الردع الإسرائيلي، سيكون أقل من أي ثمن يمكن أن تدفعه إسرائيل في المستقبل إذا لم تقم بذلك اليوم

 

نتنياهو يرمي من خلال الحرب على غزة، وتوسيعها إلى الضفة الغربية، القضاء على ما تبقى من اتفاقية أوسلو، بحيث يعيد احتلال قطاع غزة بالكامل، وإلغاء اتفاقيات أوسلو على أرض الواقع في الضفة الغربية، من ضمن ذلك إلغاء الفروق بين منطقة "أ" و"ب" و"ج"، عبر الاقتحامات اليومية للمدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية. إسرائيل تقول إنها المسؤول الوحيد عن الجوانب الأمنية في كافة مناطق الضفة الغربية، وأنها لا تعير أي اعتبار لوجود السلطة الفلسطينية ولا للاتفاقات القائمة. تسعى إسرائيل إلى تحقيق تغيير جوهري في الضفة الغربية من حيث تعميق وتكثيف الاستيطان، والسيطرة على الأراضي، وتقليص إضافي في وظائف السلطة لتكون مسؤولة بالحد الأعلى عن الخدمات المدنية اليومية، مع استمرار الضغوط المالية والسياسية عليها.

في المؤتمر الصحافي، عرض بنيامين نتنياهو خريطة لدولة إسرائيل تشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة كجزء من دولة إسرائيل، وهي ليست المرة الأولى التي يقوم فيها بذلك، بل سبقها عرض لخريطة شبيهة في أحد خطاباته في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2023. هذه الخريطة تعكس قناعات وأهداف نتنياهو بعيدة المدى، وهي ضمّ كامل الضفة الغربية، مع أو من دون سكّانها، وأن تكون إسرائيل دولة يهودية تحافظ على التفوق اليهودي والأفضليات التي توفرها الدولة لليهود، على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين.

لم تنجح إسرائيل في تحقيق هذه الأهداف على مدار العقود السابقة، رغم كافة محاولاتها لتهجير الفلسطينيين، وسنّ القوانين وسياسات الفصل العنصري. وها هي تحاول الآن من خلال حرب الإبادة على غزة، وتوسيعها إلى الضفة الغربية، تحقيق ذلك. موقف نتنياهو المتشدد لبقاء الجيش الإسرائيلي في محور فيلادلفيا، هو حجة، قد تكون مقبولة لأقسام كبيرة من المجتمع الإسرائيلي، لمنع التقدم في المفاوضات وإلغاء احتمال التوصل إلى اتفاق يمكن أن يؤدي إلى وقف حرب الإبادة على غزة، لكي تستمر الحكومة الإسرائيلية في محاولاتها لتحقيق أهداف الحرب المعلنة، وغير المعلنة.