حوالى الواحدة بعد منتصف ليل الثلاثاء، أطلّ فجأة أحد كبار معاوني كامالا هاريس على جمع من مؤيديها احتشدوا أمام مقر حملتها في واشنطن، ليطلب منهم الانصراف على أن يسمعوا من كامالا غداً كلمة بشأن الانتخابات. بيانه المقتضب الذي جاء بحوالى سطرين وألقاه بوجه متجهم، كان بمثابة نعي ضمني لطموح هاريس الرئاسي الذي تأكد بعد حوالى ساعتين عندما بلغ دونالد ترامب تخوم العدد المطلوب، 266 من أصل 270 من أصوات المجمع الانتخابي المفتوح على المزيد من الأصوات بما يتجاوز الـ300.
المفاجئ في النتائج أنها جاءت مخالفة للتوقعات والاستطلاعات التي أجمعت تقريباً على أن الفوارق ولغاية عشية الانتخابات، لا تتعدى 1 أو 2% مع ترجيحها ضمناً لصالح هاريس، إذ إن الاعتبارات والحسابات التي تشكل عادة خيار الناخب، مؤاتية لمعركتها، وعلى رأسها هبوط التضخم وأسعار الطاقة والفائدة ومعدلات البطالة، فضلاً عن التأييد الواسع لها في صفوف النساء في قضية الإجهاض.
وبدا وضع هاريس، خصوصاً في الأسبوعين الأخيرين، واعداً مقارنة بتخبط خصمها وخطابه غير المتماسك الذي طغت عليه السلبية وتعبيراتها الشعبوية اللاذعة وخصوصاً الشخصية؛ بل كان هناك تخوف من نشوب أزمة لا بد أن يفجرها ترامب لو فازت هاريس بمثل هذا الهامش الضئيل. وبدا فريقها كذلك في مزاج أقرب إلى الاحتفال المبكر، خصوصاً بعد أن ضرب التصويت المسبق الذي انتهى أمس الأول الاثنين إلى حوالى 80 مليون ناخب، وتميّز "بدينامية لافتة أبداها مؤيدو هاريس الديمقراطيون وأنصارهم"، فكيف انقلبت هذه الحسابات إلى نقيضها؟
من التفسيرات الأولية أن هاريس لم تقوَ في مدة 3 أشهر على تقديم نفسها بصورة وافية للناخب، إذ إنها غير معروفة بما يكفي في أرجاء الساحة الأميركية، إضافة إلى عدم نجاحها في فصل وضعها وطروحاتها عن إرث بايدن الذي ما زال رصيده في حدود ما لا يزيد إلا بقليل على 30% وأحياناً أقل من ذلك، فهي لا تقوى على الخروج كلياً من مدار بايدن، وهي المدينة له بالترشيح للرئاسة. كذلك هناك عوامل أخرى ساهمت في تعثر تسويق ترشيحها، مثل عدم تجاوب الناخبين الملونين الشباب لـ"شعورهم بتجاهل الديمقراطيين لهم"، في توفير الفرص المطلوبة لتحسين أوضاعهم، علماً بأن مثل هذه الأسباب بدت مبالغاً فيها، فضلاً عن أن ترامب ليس البديل في هذه الحالة، كما تقول سوابقه.
من المؤكد أن يكون فشل هاريس مادة لنقاش طويل بحثاً عن مسبباته الحقيقية، وكذا قفز ترامب وبهذا الزخم الذي كان يفترض أن تنعم به هاريس حسب ما أوحت به الاستطلاعات والتقديرات التي تحدثت "بثقة" عن فوز ينتظرها ليلة الخامس من نوفمبر، لكنها كانت ثقة في غير محلها، أو أنها كانت محسوبة بطريقة مغلوطة.
والغلط على الأرجح، أنه غاب عن هذه التقديرات أن هناك امرأة تقف لأول مرة قاب قوسين من المكتب البيضاوي، وأن أميركا قد لا تكون على استعداد بعد لترؤس امرأة، إذ إن أميركا مجتمع ذكوري، بالنظر إلى عدة مؤشرات من بينها، تقاضي المرأة 70% فقط مما يتقاضاه الرجل للعمل نفسه أو الوظيفة في القطاع الخاص. والمعروف أن المرأة لم يسمح لها بالتصويت في الانتخابات إلا قبل حوالى مئة سنة (سنة 1920)، وذلك بعد قيام الجمهورية بحوالى 125 سنة. ويبدو أن هذه الثقافة ما زالت بقاياها قائمة وفاعلة وبما يفسر عودة ترامب الصاخبة إلى الرئاسة، برغم كل ما يحمله من أثقال سياسية وسلوكية وقانونية ومالية كان يفترض أن تكون موانع حاسمة في طريقه مرة أخرى إلى البيت الأبيض.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الرئيس بايدن يكون قد لعب الدور غير المباشر في تأمين هذه العودة، إذ إن انسحابه المتأخر فوّت الفرصة لإجراء الانتخابات الأولية التي بدأت في أوائل السنة والتي كان بإمكانها أن تأتي بمنافس ديمقراطي آخر لترامب ويحول بالتالي دون الدخول بمجازفة في ترشيح امرأة، كما تشير تجربة هيلاري كلينتون في 2016. لقد كانت مجازفة غير محسوبة، ليس لعلة في هيلاري أو في كامالا، بل لأن الواقع لم ينضج بعد لمثل هذه التجربة التي انتهت اليوم بنكسة قاسية للديمقراطيين، وما يزيد من وطأتها أنه واكبتها خسارة الديمقراطيين للأكثرية في مجلس الشيوخ، وربما أيضاً لمجلس النواب الذي لم تتضح أرقامه بعد في أثناء كتابة هذه السطور.
بهذه المجازفة، تحرّر ترامب من كل متاعب تركته الرئاسية الأولى، ودخل التاريخ كثاني رئيس أميركي يعود إلى المكتب البيضاوي بعد 4 سنوات من ولايته الأولى (سبقه في ذلك الرئيس غروفر كليفلاند في 1883 ثم في 1893). لقد أعطت عودة ترامب دفعة أوكسجين قوية للتيار الشعبوي في أميركا مع كل ما سيرافق هذا التجديد من تداعيات على مستوى السياسة الخارجية التي اتسمت بالتذبذب خلال رئاسته الأولى، والتي حذر المراقبون، ومنهم من عمل معه في المرة الأولى (مثل مستشاره جون بولتون والجنرال المتقاعد جون كيلي) من تكرارها بصورة "عَودٌ على بدء".