بعد 3 أيام عزلة في منتجع كامب ديفيد الرئاسي القريب من واشنطن، خرج الرئيس الأميركي جو بايدن عن صمته بعد ظهر الاثنين، ليتحدث عن قراره الانسحاب من أفغانستان، وتداعياته المتواصلة فصوله. كانت كلمته دفاعية متأخرة واضطرارية. الضغوط تزايدت عليه في الـ48 ساعة الماضية، وفرضت عليه تقديم شرح ما للفوضى التي حوّلت الانسحاب إلى عملية هروب في مطار كابول، والتي أثارت موجة عارمة من الاستياء والخيبة في واشنطن.
ولمّا لم يكن لديه تعليل مقبول لهذه السقطة المهينة، اكتفى بتناول الموضوع من زاوية الحيثيات التي حملته أصلاً على اتخاذ قراره، مهمشاً فضائح اليومين الأخيرين.
هو يعرف أنّ الرأي العام يوافقه على أنّ الحرب كانت مكلفة: "مالياً تريليون دولار، وبشرياً أكثر من 2400 جندي". لذلك، سلّط الأضواء على هذه الناحية. ولجعلها محور دفاعه، أعاد التذكير بأنّ القوات الأفغانية "دُرِّبَت وجُهِّزَت بالمعدات الحديثة وسلاح الطيران، إلى جانب دفع رواتب أفرادها" من أموال دافعي الضرائب.
وفي هذا السياق، لفت إلى أنّ إدارته دعت القيادة الأفغانية إلى "محاربة الفساد، والاستعداد لحرب أهلية، فوعدوا لكنهم لم يفعلوا". ثم تساءل: إلى متى يمكن أن تواصل واشنطن دورها في هذه الحرب؟ مؤكداً أنه ليس على استعداد "لتكرار أخطاء الماضي في الغرق بالحروب الأهلية" في الخارج. وعلى هذا الأساس، كان اختياره "التزام الاتفاق حول الانسحاب الذي انتقل إليه من سلفه دونالد ترامب، بدلاً من الانغماس من جديد بحرب مسدودة. ولهذا فهو ما زال يقف "بقوة وراء" قراره.
بالأرقام والوقائع، كانت سرديته فعالة، ومن السهل تسويق حيثياتها لدى الشارع الواقف إلى جانبه في الانسحاب. مشكلته كانت ولا تزال مع نخب السياسة الخارجية، والدبلوماسية، والعسكريين، والإعلام، والكونغرس. سبب انزعاج هذه الأوساط أنّ قرار الرئيس محلي في أساسه، وقام على حسابات داخلية، فيما كان يجب أن يقوم على حسابات إقليمية ودولية، وإعطائها الأولوية، باعتبار أنه موضوع خارجي وتترتب عنه آثار استراتيجية بعيدة المدى.
ثم عندما وقع الانسحاب في فوضى الرحيل، كان اعتقاد هذه الجهات أن يبادر الرئيس إلى "الاعتراف بالخطأ"، كما تمنى عليه وزير الدفاع السابق ليون بانيتا، أحد أبرز وجوه الحزب "الديمقراطي". غيره من الرؤساء أخذ مثل هذه المبادرة بعد وقوعه في ورطة. جون كينيدي أقرّ بهزيمة الـ"سي آي إيه" في عملية خليج الخنازير في كوبا، وتحمّل مسؤوليتها. كذلك فعل الرئيس رونالد ريغان بعد انكشاف فضيحة "إيران غيت". كلاهما اعترف واعتذر. وبذلك، نال كلاهما ما يكفي من الأسباب التخفيفية لرئاستهما. لكن بايدن نأى عن مثل هذا الخيار الذي كان يمكن أن يزيح عنه تهمة التقصير، مع أنه سبق له أن تراجع، وأعلن ندمه لتأييده حرب العراق يوم كان في مجلس الشيوخ.
محاكمته السياسية الآن ليست على الانسحاب كمبدأ، بل على القصور في ترتيب انسحاب منظم، وهو أقل المطلوب، وكان مسألة ميسورة برأي المراقبين والعسكريين. الاتحاد السوفياتي تمكن من تنظيم انسحاب سلس في ربيع 1988 من أفغانستان، رغم انكساره في الميدان. ونجح في وضع ترتيبات ضمنت استمرار نظام محمد نجيب الله لمدة سنتين.
محاكمة بايدن السياسية الآن ليست على الانسحاب كمبدأ، بل على القصور في ترتيب انسحاب منظم
اليوم هناك انسحاب "كارثي" كما وصفه الجنرال السابق ديفيد بتريوس، الذي عمل في العراق وأفغانستان، لكن الرئيس بايدن تجاهله بشيء من التحدي.
تعاطيه بهذه الصورة مع غلطة بهذا الحجم، يخشى حزبه في الكونغرس أن ترتد عليه، خصوصاً إذا ما تفاقم الوضع الأفغاني بصورة أو بأخرى. الرئيس ليندون جونسون ارتدّت عليه غلطته التي نام عليها في زيادة التورط في فييتنام أواخر الستينيات. صحيح أنّ الفارق كبير بين الحالتين، لكن سوء التقدير في القضايا الكبيرة ولحظاتها الفاصلة تترتب عنه عادة تبعات كبيرة، خصوصاً إذا غاب التسليم بالخطأ والرجوع عنه. وفي الحالة الراهنة هناك شبه إجماع في واشنطن على تخطئة إدارة بايدن.