مرة أخرى، يتبرع الرئيس الأميركي جو بايدن بتوريط نفسه، وإرباك إدارته التي سارعت إلى لفلفة هفوته في خطابه السبت في وارسو عن حرب أوكرانيا، عندما خرج عن النص ليقول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "لا يمكن أن يبقى في السلطة".
كلمته أثارت الاستغراب والانتقاد الواسعين في واشنطن، على الرغم من النقمة العارمة على بوتين. فهي خارجة عن قاموس التخاطب مع موسكو، حتى في عزّ الحرب الباردة. بالنهاية، روسيا ليست "جمهورية موز"، ثم إن الظرف الحالي لا يحتمل مثل هذه اللغة، حيث إن منسوب التوتر بين الجانبين غير مسبوق منذ أزمة الصواريخ الكوبية. وحتى سياسياً، هي عبارة مؤذية "وغلطة مؤسفة"، كما وصفها المدير بالنيابة لوكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي أيه" مايكل موريل، لأنها "تجعل من الصعب على أي طرف روسي" التصدي للرئيس بوتين. كما صدرت تعليقات من هذا النوع في الكونغرس، تقاطعت مع بعض الردود الخارجية، خصوصاً الفرنسية، لجهة الآثار السلبية المتوقع أن تحدثها "شطحة بايدن" على ما تبقى أو ما قد يستجد من محاولات دبلوماسية أوروبية أو دولية لطرح مخارج، أو لبذل جهود لضبط الحرب في أوكرانيا، إن لم يكن وقفها.
وفي هذا الصدد، يشار بشكل خاص إلى الصين، والدور المطلوب الذي يمكن أن تقوم به في هذا الاتجاه، والذي قد يزيد كلام بايدن من ترددها في النهوض به، وهي مترددة، إن لم تكن عازفة أصلاً.
تدوير زوايا العبارة الذي قام به وزير الخارجية أنتوني بلينكن، كان محاولة استدراك وهو تعبير مداور عن تراجع البيت الأبيض عمّا قاله بايدن. ثم شارك الرئيس هو الآخر في التراجع، عبر الجواب بالنفي، رداً على سؤال لدى مغادرته الكنيسة الأحد في واشنطن، عمّا إذا كان قصد "تغيير النظام في موسكو". لكن الاعتقاد أن الضرر وقع. في المدة الأخيرة وصف بوتين بـ"المجرم"، و"القاتل"، ثم "الجزار". وفي كل مرة كانت توصيفاته تقابل بشيء من الدهشة، كونها صادرة عن رئيس تعهد بجعل الدبلوماسية أحد أركان سياسته الخارجية، وأصرّ على اعتمادها وما زال، لحلّ الأزمة الأوكرانية.
وما يجعل من ممارسته هذه مشكلة أنها ليست زلة لسان، بقدر ما هي خصلة متأصلة ومعروفة عن بايدن، رافقته في محطات كثيرة من مسيرته السياسية. وفي كلّ هذه المحطات، كانت تكرر العادة ذاتها، حيث يتسرع في الموقف، أو في التدبير، أو التوصيف، ليعود ولو متأخراً، وبعد المكابرة، إلى الاعتراف بالخطأ، وأحياناً تقديم الاعتذار.
أهم هذه المحطات كانت موقفه الخاطئ عام 1994، في جلسة لجنة العدل في مجلس الشيوخ، والتي كان رئيسها آنذاك، للنظر في تعيين القاضي كلارنس توماس في المحكمة العليا، والتي رفض خلالها استدعاء الشهود في تهمة موجهة ضد القاضي. ندم لاحقاً واعتذر، لأن غلطته كانت فادحة. عاد وكرر نفس السيناريو مرة أخرى في التصويت مع الحرب على العراق، ليكتشف لاحقاً أنه كان ضحية تسرع تراجع عنه، لكن بعدما سبق السيف العذل.
وأحياناً، فعل الشيء وضده: وقف ضد العنصرية، لكنه في السبعينيات صوّت في الكونغرس ضد اختلاط الطلاب البيض مع السود في حافلات المدارس. وفي كل مرة يتسرع مجدداً، ثم يضطر إلى التراجع، تنفتح عليه دفاتر هذه السوابق وغيرها، والتي تنعكس سلباً على صورة إدارته في الخارج؛ خصوصاً الخارج الحليف، الذي اكتوى بتذبذب سلفه دونالد ترامب في التعامل معه. والتخوف من إعادة احياء هذه الصورة الخارجية كان أكثر ما نضحت به الردود على هذا التسرع، من معظم أطراف الطيف السياسي في واشنطن.