بدا أن لقاء بلينكن - لافروف، الجمعة في جنيف، قد اقتصر على طرح عروض ومقترحات للبحث في صيغ ومخارج لأزمة أوكرانيا، واتفاق الجانبين على تبادل الردود الأسبوع القادم، بالإضافة إلى قصر مدة الاجتماع، حيث دام 90 دقيقة، مقارنة بجولات الأسبوع الماضي التي امتدت لعدة ساعات، ما يؤشر على أن الجلسة كانت للتبلّغ والتبليغ.
كان لافتاً في هذا الخصوص أن الطرف الروسي طلب أن يكون الرد خطياً، وأن واشنطن وافقت. وقد حاول البيت الأبيض تجريد هذه الصيغة من أي مدلول سوى أنها "جزء من العملية الدبلوماسية"، كما قالت اليوم الناطقة الرسمية في البيت الأبيض، جين ساكي، خلال لقائها الصحافي. وفي الواقع هي غير اعتيادية.
ربما كانت موافقة الإدارة هذه بمثابة إشارة أو رسالة بأنه ليس لديها حساسية مفرطة ضد الصيغة الخطية في بعض جوانب التفاوض إذا اقتضى الأمر، ولو أنه سبق لها أن رفضت "كلياً" تقديم ضمانات خطية لموسكو بعدم ضمّ أوكرانيا إلى حلف "الناتو". فهل هذا مؤشر أوليّ على أنّ دبلوماسية الحل دخلت في طريق الضمانات المكتوبة وطرق البحث عن إخراجها؟
الوزير لافروف تعمّد الإشارة، في افتتاح الجلسة، إلى نقطتين: الأولى أن الاجتماع حصل بناءً على طلب بلينكن، والثانية أنه جاء ليعرف ما إذا كان لدى نظيره الأميركي أي جواب على طلبات موسكو، أو ما إذا كان في جعبته "مقترحات معاكسة" لها. انتهاء الجلسة بتوافق على "مواصلة" المحادثات، يؤشر على أن الطرف الروسي سمع شيئاً مما كان يتوقعه، وبالتالي ما يستدعي عرضه على سيد القرار في الكرملين. من جهته، سيبحث الرئيس بايدن مع فريقه للأمن القومي نتائج زيارة الوزير بلينكن، وصياغة الرد، في أثناء خلوة في منتجع كامب ديفيد، خلال عطلة نهاية الأسبوع.
لقد كانت أول إشارة إلى هذا التوجّه "المرن"، وربما الاضطراري، للإدارة، قد ظهرت الأربعاء، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس بايدن بمناسبة مرور سنة على رئاسته، حيث قال في رده على سؤال، إن "روسيا ستُحاسَب إذا قامت بغزو أوكرانيا، لكن ذلك يتوقف على ما ستفعله. فإذا قامت بتوغل بسيط، عندئذ سيكون هناك خلاف بيننا وبين حلفائنا، حول ما ينبغي أن نفعله أو لا نفعله". كلامه هذا أثار ضجّة كبيرة ما زال صداها يتردد حتى اللحظة، لناحية أنه انطوى على تراجع، كذلك فإنه كشف عن وجود خلافات بين واشنطن والحلفاء الأوروبيين بشأن حجم الرد ومداه، على أي توغل روسي في أوكرانيا. وعلى الفور، سارع البيت الأبيض إلى التصحيح، من زاوية أنّ الرئيس لم يقصد ذلك، مع التشديد على اعتبار أنّ أي دخول إلى الأراضي الأوكرانية هو بمثابة اجتياح. كما كرر الرئيس بايدن التأكيد نفسه، وكأن المسألة كانت زلة لسان. علماً بأن الرئيس تحدث في المؤتمر قرابة ساعتين من دون الوقوع في خطأ، ولو بسيطاً، ما جعل من المستغرب أن يقع في غلطة في موضوع حساس كهذا!
بيد أن فتح بازار الأخذ والرد اليوم في جنيف، يرجّح كفة الاعتقاد بأن المسألة لم تكن هفوة بقدر ما كانت إشارة، ولو باطنية، إلى أن البيت الأبيض منفتح على ليونة وحلحلة في الموقف بخصوص الأزمة، واستطراداً بشأن مطالب بوتين. فهو يدرك أن الوسائل المتاحة لا تشكل أدوات مانعة لو قررت موسكو التوغل في أوكرانيا. كذلك لا بد أنه يعرف أن العقوبات لا توازن الهزة الجيوسياسية للمعادلة الأوروبية، التي يحدثها تطور من هذا العيار. ومن هنا يظهر الخلاف مع الأوروبيين، الذي أشار إليه الرئيس، وترددهم بل رفضهم لرفع درجة الضغوط على موسكو والذهاب بعيداً ضدها.
ما لا جدال فيه، أنّ الأزمة وصلت إلى نقطة مفصلية. وحسب ما انتهت إليه الاتصالات والتحركات، بات الأمر "بحاجة إلى قمة بين الرئيسين بايدن وبوتين"، حسب قائد قوات حلف "الناتو" سابقاً، الأدميرال جيمس ستافريدس. وهو احتمال أبدى البيت الأبيض انفتاحه عليه "لو كان هذا هو المطلوب"، كما قالت جين ساكي اليوم. كما ألمح إليه بلينكن في مؤتمره الصحفي في جنيف. ولقاء على هذا المستوى لو حصل عند هذا المفصل لا يحتمل الفشل. وعليه، لا بد أن يتطرق إلى الخطوات الناجعة لبلوغ المخرج المنشود، التي ينبغي أن تكون متبادلة "على سبيل المعاملة بالمثل"، كما قال اليوم الوزير بلينكن. فهل هو يتحدث عن سلة ضمانات يجري عبرها تمرير الضمانات الخطية التي لم تتزحزح عنها موسكو حتى الآن؟
تتعامل إدارة بايدن مع أزمة أوكرانيا كما تتعامل تقريباً مع مفاوضات النووي الإيراني؛ من جهة تحذر الطرف الآخر من العواقب المكلفة لو بقي على موقفه، ومن جهة ثانية تراهن على تسوية مع ما تقتضيه من تنازلات.