تعيش واشنطن هذه الأيام حالة ترقب وحبس أنفاس أقرب ما تكون إلى الكوابيس. أسابيع، وربما أيام قليلة، تفصلها عن انفراجات كبيرة أو انفجارات أكبر. احتمالات الأولى حتى الآن أضعف من الثانية. أزمة أوكرانيا تنذر بحرب في أوروبا. مفاوضات فيينا بين بين. موجة "أوميكرون" تهدد بالمزيد من التداعيات.
وحتى لو تيسرت المخارج، فستكون على الأرجح مؤقتة لبعض هذه التحديات. وما يزيد من المخاطر أن إدارة بايدن صارت، عشية عامها الأول، مثقلة بالإخفاقات التي تراكمت نتيجة التعامل مع الملفات الضاغطة، المحلية والخارجية، بقرارات ومقاربات إما متسرعة أو متأخرة أو رخوة، وفي معظم الأحيان متخبطة.
ولعل ذلك يتساوى إلى حد بعيد في البيت الأبيض والحزب الديمقراطي في الكونغرس. إلا أن المفارقة تكمن في إمساك الحزب بالبيت الأبيض والكونغرس، لكنه متعثر في الحكم، إضافة إلى أن الرئيس على غير توافق مع بعض نواب حزبه، فيما يشتبك الحزب مع نفسه حول خطاب وجوهر سياسات الإدارة.
ورغم أن الحزب الديمقراطي يملك الأكثرية، ولو الضئيلة، في مجلسي الكونغرس، إلا أنه عاجز عن يساره (بالمقاييس الأميركية)، إذ يطرح في مجلس النواب سياسات متقدمة ومطلوبة، لكنها من النوع التحويلي في توجهات وأدوار الدولة، مثل تعزيز التقديمات والخدمات الاجتماعية والتربوية والصحية وغيرها.
وتكمن مشكلة الحزب الديمقراطي في أنه واجه معارضة شرسة حتى من الجناح الوسط في الحزب، وذلك من زاوية اعتبار توجهاته أنها خطوات "اشتراكية ". فيما لا يملك الرئيس الرأسمال السياسي الكافي للوقوف في وجه الهجمة. حيث باتت الطريق مسدودة أمامه لتحقيق إنجازاته الفارقة والموعودة. لا مشروع البنية التحتية الاجتماعية وملحقاتها المتعلقة بسخونة المناخ والطاقة النظيفة، ولا مشروع "حق التصويت" الرامي إلى قطع الطريق على تكرار أزمة انتخابات 2020، في ظل عدم سن تشريع يمنع حصولها في انتخابات الكونغرس 2022 والرئاسة في 2024 .
من المآخذ على الرئيس بايدن أنه يمارس الرئاسة بنفس القواعد التي اعتاد عليها في سنواته الطويلة في مجلس الشيوخ. ولا تصلح طرق التسويات التشريعية في البيت الأبيض وصلاحياته التنفيذية. بالنهاية، أسقط سناتوران من الحزب الديمقرطي أجندته بعد أن عجز عن كسب تأييدهما عن طريق التنازل والمراضاة بدلاً من الضغوط. أجرى معهما عدة لقاءات واتصالات وقام بزيارة الكونغرس ثلاث مرات لهذا الغرض، لكن من غير جدوى.
ثم إن بايدن تأخر في توظيف موقعه والنزول إلى الساحة لتأمين التصويت المطلوب في الكونغرس المتوفر بحكم أكثرية حزبه. حيث ساهمت في هذا الفشل قيادة حزبه في مجلسي الشيوخ والنواب، التي بدت غير قادرة على الإمساك بزمام الأمور وضبط وحدة الصف، على نقيض قيادة الجمهوريين التي ضمنت عدم خروج صوت واحد من صفها لدعم مشروعي بايدن.
وعقب ذلك، تفاقمت صعوباته، خاصة في الفترة الأخيرة إثر البلبلة والتخبط في توجيهات وإرشادات المرجعيات الصحية الرسمية في التعامل مع طفرة "أوميكرون"، وعدم القدرة حتى الآن على تخفيف عواقب الوباء المعيشية، إضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار، مع أن المشكلة على هذا الصعيد عالمية أكثر مما هي أميركية. لكن ساكن البيت الأبيض يدفع الثمن الذي انعكس في تدهور رصيده واهتزاز صورته وضمور حضوره حتى في صفوف حزبه .
في الواقع، كان هذا الضمور قد بدأ مع الانسحاب من أفغانستان. فضيحة الخروج زعزعت الانطباع السائد آنذاك بأنه محصن كفاية في الشؤون الخارجية، بحكم خبرته الطويلة سناتوراً ونائب رئيس. مشهدية مطار كابول نسفت هذا التصور وكانت مؤذية جداً له. من وقتها، انتكس رصيده. ثم جاءت مفاوضات فيينا التي جرت بطريقة بدا معها أن الإدارة لا تمسك بالمبادرة فيها بقدر ما أمسكت طهران، التي فرضت صيغة التفاوض غير المباشر ووضعته في الانتظار مدة خمسة أشهر.
كما نجحت إيران في تطويل المدة رغم كلام الإدارة الأميركية عن الضيق من المراوحة وتلويحها بسقف زمني "مدة أسابيع"، من دون تحديده بصورة قاطعة. الأمر الذي أشاع الاعتقاد بأنها عازمة على إنجاز صفقة ولو مع تدوير زواياها. ثم فجأة، برزت أزمة أوكرانيا واحتمال تعرضها لاجتياح روسي.
كان الاعتقاد أو الافتراض، بعد 3 قمم خلال 6 أشهر (واحدة مباشرة في جنيف وأخرى افتراضية وثالثة بالهاتف)، أن الأمور على الأقل وضعت على سكة التفاهم أو التواصل وليس الانفجار، فيما طرح التلويح بالخيار العسكري تساؤلات مثل: ما سبب قرار بوتين الآن التهديد بالحرب؟ وهل كانت اللقاءات فرصة له لاستشراف حدود الرد من قبل إدارة بايدن؟ وهل استشعر أن الكلفة مثل العقوبات، يمكن لروسيا تحملها؟ وهل نجح في حصر الأزمة بأوكرانيا وتمدد "الناتو"؟ كان على بايدن "توسيع دائرة قضايا الحوار والتفاوض بين الجانبين"، كما يقول مايكل ماكفول، السفير الأميركي السابق في موسكو.
المؤكد أن حركة بوتين أربكت الإدارة الأميركية وزادت من قائمة تحدياتها الخارجية والداخلية، التي بتضافرها جعلت نهاية العام الأول من رئاسة بايدن على نقيض بدايته، وربما امتدت آثارها إلى ما يتجاوز عامها الثاني، وبما يفرض على إدارته الانشغال بتقليل الخسائر التي نجمت عن تواطؤ الظروف الخارجة عن إرادتها وضعف أدائها.