باريس والرباط... عودة الدفء من بوابة الصحراء

01 نوفمبر 2024
ملك المغرب وماكرون في القصر الملكي بالرباط، 28 أكتوبر الماضي (فرانس برس)
+ الخط -

لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب لثلاثة أيام بين الاثنين والأربعاء الماضيين، متوقعة بسبب حالة الجفاء بين باريس والرباط والذي احتاج تجاوزه إلى حوالي عام من العمل الدبلوماسي الدؤوب من جانب باريس، والذي لعب فيه رجال الأعمال دوراً أساسياً، من خلال الضغط على الإليزيه لوضع أساس شراكة اقتصادية استثنائية بعيدة المدى ومتعددة الجوانب مع الرباط. وما كان لذلك أن يحصل، ويلقى ماكرون حفاوة كبيرة، رسمية وشعبية، لو لم تقم فرنسا بخطوة سياسية كبيرة على مستوى قضية الصحراء.

أزمة باريس والرباط

قبل عام مضى لم يكن من الممكن تصور أن ترجع العلاقات بين باريس والرباط إلى سابق عهدها، وشكّل الزلزال الذي ضرب بعض مناطق وسط المغرب في سبتمبر/أيلول من العام الماضي مؤشراً صريحاً إلى ما بلغته الأزمة بين البلدين، والتي بدا أنها في تصاعد مستمر، وأوحت بعض التفاصيل المهمة أنه لم تعد هناك أي إمكانية لتطويقها أو التخفيف من حدتها، وتراءى للمراقبين أن الفراق بين باريس والرباط صار نهائياً.

استمر الجفاء في العلاقات الثنائية قرابة ستة أعوام، وقد تراجعت في العامين الأخيرين إلى مستوى متدنٍ، وسط تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن التدهور، وجرى على مدى السنوات الماضية تداول معلومات عن تباينات سياسية واقتصادية. وحفلت الصحافة بتسريبات عديدة تتحدث عن حالة من القطيعة بين الرئيس الفرنسي والملك محمد السادس، زادت في تأزيم الموقف، إلى حد توقف الاتصالات بينهما، على الرغم من أن العاهل المغربي يتردد في زيارات خاصة إلى فرنسا. وتحدثت الصحافة الفرنسية عن أن الملك رفض الرد على مكالمة هاتفية من ماكرون لإبداء التضامن وتقديم مساعدات لمنكوبي الزلزال، واكتفى برسالة نصية، ولم تمنح الرباط الأولوية للعرض الفرنسي بالمساعدة، كما حصل مع عروض كل من بريطانيا، قطر، إسبانيا، والإمارات. وهذا أمر لم يتم نزعه من سياق الأزمة التي كانت تمرّ بها علاقات البلدين، التي كان يبدو أنها لن تعود إلى سابق عهدها بمجرّد إجراء مصالحة، وحتى في حال جرى تجاوز الوضع الصعب، لن يبدي المغرب عزماً على فتح صفحة جديدة مع فرنسا، إلا على أسس وشروط مختلفة.

لم يسبق للعلاقات بين باريس والرباط أن عرفت أزمة كالتي عاشتها خلال الأعوام الأخيرة

لم يسبق للعلاقات بين باريس والرباط أن عرفت أزمة كالتي عاشتها خلال الأعوام الأخيرة، على الرغم من أنها مرت بتوترات كثيرة. وقد كانت تجد دائماً الطريق إلى الحل مهما بلغته من تعقيد، وذلك بسبب الخصوصية التي يمثلها المغرب بالنسبة إلى فرنسا منذ زمن طويل، وقد عكس ذلك نفسه في السياسة والاقتصاد والثقافة. من هذه الزاوية تعرّض ماكرون إلى ضغوط متعددة الأطراف، خصوصاً من قبل الشركات الفرنسية الكبرى ورجال الأعمال، الذين يساهمون في رسم السياسات العامة للبلد، وهذا ما دفعه كي يبادر ويتخذ خطوة ذات مفعول كبير، تعيد وصل ما انقطع خلال الأعوام الأخيرة، وقد التقط الرسالة، وباشر بإرسال إشارات إلى الرباط تعبّر عن فتح صفحة جديدة وإجراء مصالحة. وكان المدخل إلى ذلك من بوابة اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء، الأمر الذي شكّل تحولاً دبلوماسياً لافتاً في علاقات البلدين. وجاء قرار الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء في رسالة وجهها ماكرون إلى الملك محمد السادس، نهاية يوليو/تموز الماضي، وفق ما أعلنه الديوان الملكي، الذي قال في بيان، إن الرئيس الفرنسي أعلن، في الرسالة، رسمياً، أنه يعتبر أن حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية.

وكشفت صحيفة لوموند الفرنسية في حينه، أن تغيير فرنسا موقفها من قضية الصحراء، تم الإعداد له منذ قرابة عام، لكن الصورة اتضحت أكثر خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه إلى الرباط، في فبراير/شباط الماضي، وأن زيارات أعضاء من الحكومة الفرنسية المتعددة إلى المملكة، حددت الخطوط العريضة لـ"المصالحة المقبلة". وقالت إن الضوء الأخضر الذي أعطته باريس للوكالة الفرنسية للتنمية للعمل في الصحراء، والذي أصبح رسمياً في إبريل/نيسان الماضي من قبل وزارة التجارة الخارجية، جاء بموازاة عرض الحكومة المغربية والضغوط التي تمارسها دوائر الأعمال الفرنسية. وأكدت أن رسالة الاعتراف بمغربية الصحراء، اطلعت عليها كبريات المجموعات الاقتصادية الفرنسية المتواجدة في المغرب، مثل إدف، انجي، سانت كوبان، سافران، وتوتال إنرجي. وأوضحت أن إيمانويل بون، المستشار الدبلوماسي لماكرون، استقبل، في الأيام التي سبقت قرار الاعتراف، مدراء هذه المجموعات الاقتصادية الكبرى في قصر الإليزيه، وناقش معهم الأمر بالإضافة إلى ترتيبات زيارة الدولة التي كان يتم تحضيرها للرئيس.

في هذا الوقت حظيت شركتان كبيرتان أخريان، باهتمام ودور في ترتيب العلاقة الجديدة، هما "ألستوم" المتخصصة بالنقل وسكك الحديد، ذلك أن المغرب يشهد نهضة كبيرة في هذا الميدان تتمثل بربط محافظاته بشبكة نقل حديثة، وتعمل هذه الشركة على إنتاج وتسليم 168 قطارا إلى المكتب الوطني للسكك الحديدية المغربي، والثانية هي "إيرباص" للطيران المهتمة جداً بالمغرب الذي تحول إلى مركز عالمي لصناعة طائرات النقل في العقد الأخير. وحسب وسائل الإعلام الفرنسية فإن أكثر من 120 شخصية فرنسية اقتصادية وثقافية رافقت ماكرون في أول زيارة دولة له إلى المغرب، بالإضافة إلى تسعة وزراء، بينهم وزراء الاقتصاد والشؤون الخارجية والداخلية والقوات المسلحة والتعليم العالي.

الصحراء مدخل لترتيب العلاقات بين باريس والرباط

وبرز من الخطاب الذي ألقاه ماكرون أمام البرلمان في زيارته أن مسألة الصحراء هي مربط الفرس في النسخة الجديدة من العلاقات الثنائية. واللافت أنه حين تطرق لهذه القضية وقف أعضاء البرلمان المغربي وصفقوا له طويلاً، وهو رد الفعل الذي لم يحصل حيال الفقرات الأخرى من الخطاب الذي أراده أن يكون طموحاً جداً، ليشكّل ما يشبه برنامج عمل للمرحلة المقبلة. وملخص رؤية الرئيس الفرنسي أن يصبح المغرب قاعدة تعاون فرنسي مغربي يمتد على المستويين المتوسطي والأفريقي في مجالات الطاقة وخصوصاً مشروع "ورزازات"، الذي يراهن عليه المغرب على نحو واسع منذ عدة أعوام. كما يسعى الطرفان إلى تطوير الاستثمار في مجالات التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والمياه.

حين تطرق ماكرون لقضية الصحراء وقف أعضاء البرلمان المغربي وصفقوا له طويلاً

ويشكّل المغرب محطة طموح اقتصادي مهمة للشركات الفرنسية، التي وقّعت عدداً من الاتفاقات والشراكات، خصوصاً في مجال الطاقة. جرى توقيع 22 اتفاقية بين البلدين في عدة مجالات استراتيجية، ومن أحد أهمها مذكرة تفاهم ثنائية في مجال الطاقة. وتولى جيرار ميستراليه، المبعوث الخاص للرئيس لمشروع ممر التكامل اللوجستي بين أوروبا وآسيا، مهمة إعداد المشروع. وفي المفاوضات التي ستستغرق أشهرا، يتعين على شركة "إنجي" للطاقة أيضاً أن تبرم رسمياً مع مجموعة مغربية كبيرة اتفاقاً بقيمة مليارات اليورو يتعلق بالطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر وتحلية المياه.

على هامش زيارة ماكرون يمكن التوقف عند نقطة مهمة جداً وهي أن الدولة الفرنسية العميقة تلقّت درساً قاسياً من تجربة السنوات الأخيرة في أفريقيا، بعد الانقلابات العسكرية التي استبدلت فرنسا بروسيا في عدة بلدان كانت باريس تعدها حليفة، وتحافظ فيها على قواعد عسكرية وقوات واستثمارات اقتصادية مهمة، خصوصاً مالي والنيجر. وكانت هناك العديد من الأصوات التي أخذت على ماكرون مسؤولية التعامل الفوقي مع هذه البلدان، ومنها المغرب، وألقت على سياساته الانتقائية أسباب الفشل وتراجع حضور فرنسا في أفريقيا. وتكشف الاتفاقات بين باريس والرباط بشأن مد التعاون الثنائي إلى أفريقيا، اعترافاً من باريس بالحضور المغربي الكبير في القارة السمراء خلال العقد الأخير، ومن ذلك مشروعان مهمان، الأول هو مبادرة الأطلسي التي اعتمدها المغرب مع 23 دولة أفريقية تشكل 55% من الناتج الخام المحلي في القارة، من أجل فتح الباب أمام شراكات متعددة، تُوفر أرضية للتكامل الاقتصادي الأفريقي، عبر فك عزلة دول الساحل والصحراء (بوركينا فاسو والنيجر وتشاد ومالي)، من خلال تمكينها من منفذ بحري. والثاني هو مشروع خط الغاز النيجيري إلى أوروبا، وهو أطول أنبوب غاز بري وبحري في العالم، حيث يصل طوله إلى أكثر من 5600 كيلومتر، والذي ستستفيد منه منطقة غرب أفريقيا كلها، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 440 مليون نسمة، وسيعبر 13 دولة أفريقية قبل أن يصل إلى إسبانيا وعبرها إلى بقية الأسواق الأوروبية.

المساهمون