على وقع حرب مدمرة في السودان، تمرّ الذكرى الثانية للانقلاب الذي نفذه قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان. هذا الانقلاب أطاح حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وتحالف الحرية والتغيير، ليترك وراءه تداعيات دموية.
جرى الانقلاب في صبيحة الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 2021، حيث انتشرت وحدات من الجيش وقوات الدعم السريع في الشوارع الرئيسية بالعاصمة الخرطوم وسيطرت على المواقع الاستراتيجية. واعتقل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعدد آخر من أعضاء مجلس الوزراء ومجلس السيادة، بالإضافة إلى زعماء الأحزاب السياسية. ثم أذاع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بيانه الأول، أعلن فيه تجميد العمل بعدد من نصوص الوثيقة الدستورية وحلّ مجلسي السيادة والوزراء ولجنة إزالة نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
برر البرهان الانقلاب بما اعتبره فشلاً في إدارة الدولة وخشية من اندلاع حرب أهلية نتيجة سيطرة أربعة أحزاب من تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير على القرار وإقصاء بقية المجموعات السياسية. ووعد البرهان، الذي حظي بدعم نائبه في مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع الجنرال محمد حمدان دقلو الملقب بـ"حميدتي"، بتشكيل حكومة جديدة من الكفاءات المستقلة وتشكيل المفوضيات المستقلة، وإنشاء المحكمة الدستورية والبرلمان الانتقالي، وتعيين رئيس للقضاء ونائب عام خلال أسبوع واحد من الانقلاب.
الانقلاب وجد تأييداً من بعض أعضاء حزب المؤتمر الوطني، الحزب الذي كان يرأسه الرئيس المعزول عمر البشير، وبعض القوى السياسية الأخرى، بما في ذلك تحالف الحرية والتغيير والتوافق الوطني، الذي يتألف من أحزاب سياسية وحركات مسلحة وقد وقع اتفاقية سلام مع الحكومة الانتقالية. في المقابل، عارضته قوى الحرية والتغيير وبعض الأحزاب السياسية الأخرى، مثل الحزب الشيوعي وحزب المؤتمر الشعبي. خلال الأحداث التي تلت الانقلاب، قادت لجان المقاومة دينمو الحراك الثوري ونظمت احتجاجات واسعة ضد الانقلاب منذ ساعاته الأولى.
استمرت الاحتجاجات حتى قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع قبل 6 أشهر. وخلال هذه الفترة، قتل ما لا يقل عن 120 من المحتجين خلال التظاهرات السلمية المناوئة للانقلاب. وجدير بالذكر أن الاحتجاجات لم تكن الوسيلة الوحيدة للمعارضة للانقلاب، بل شملت أيضاً إضرابات في قطاعات مختلفة، وتظاهرات ووقفات احتجاجية، وأشكالاً مختلفة من المقاومة.
رفض دولي واسع
كذلك واجه الانقلاب في السودان رفضاً دولياً واسعاً، حيث اتخذت مؤسسات دولية وحكومات قرارات بوقف كل أشكال المساعدات المالية والاقتصادية التي كانت تُقدم إلى السودان بعد إطاحة نظام الرئيس المعزول عمر البشير في عام 2019. تلك الإجراءات الدولية جاءت مصحوبة بانتقادات دولية لانتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين.
هذه الضغوط والمصاعب دفعت قادة الانقلاب إلى التراجع والتباطؤ في تشكيل حكومة جديدة، واستمر هذا التأخير حتى اليوم. كذلك فشل الانقلاب في اتخاذ قرارات مصيرية أخرى، خصوصاً بعد المقاومة التي واجهها، وبسبب التدهور الاقتصادي والمعيشي الذي عانى منه السودانيون بعد الانقلاب. ونتيجة لهذا الموقف، ومن خلال وساطة الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والمملكة المتحدة، توصلت الأطراف إلى تسوية سياسية لحلّ الأزمة.
وفي 4 يوليو/تموز 2022، وافق عبد الفتاح البرهان على تسليم السلطة للمدنيين وعودة العسكر للثكنات، شرط أن يتفق المدنيون على تشكيل حكومة تدير البلاد حتى تنظيم انتخابات عامة. وقد أدى هذا الموقف إلى توقيع أكثر من 30 حزباً وجسماً مهنياً ومعهم الجيش وقوات الدعم السريع على اتفاق إطاري في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي، ينص على تشكيل حكومة مدنية وإزالة العسكر عن العمل السياسي، فضلاً عن إجراء إصلاحات أمنية وعسكرية ودمج الدعم السريع داخل الجيش بهدف تشكيل جيش وطني ومهني.
ومع ذلك، بدأت العلاقة بالتوتر بين الجيش والدعم السريع، الحلفاء السابقين، حول مسألة الاتفاق الإطاري والتسوية السياسية. حاولت الدعم السريع أن تظهر دعمها لعملية التسوية وتسليم السلطة للمدنيين، بينما رأى قادة الجيش ضرورة الحفاظ على وحدة القوات وإصلاح قوات الدعم السريع بعد دمجها. تصاعد التوتر بين الطرفين، واندلعت الصراعات المسلحة في 15 من إبريل/نيسان الماضي، ما أدى إلى مقتل 9 آلاف مدني وتشريد 5 ملايين آخرين، وتدمير البنية التحتية في السودان.
مع فشل محاولات الوساطة خلال الأشهر الماضية، يدخل الطرفان جولة جديدة من التفاوض في جدة بوساطة سعودية أميركية. يأمل معظم السودانيين أن تعيد هذه الجولة الأمن والاستقرار إلى بلادهم بعد فترة طويلة من الصراع والانقسام.
لوم الانقلاب
بعد مضي أكثر من عام على انقلاب 25 أكتوبر 2021 في السودان، يبدو أن كثيرين يلومون هذا الانقلاب على تدهور الوضع في البلاد وانقلابها عن مسار الإصلاح والديمقراطية الذي بدأته حكومة عبد الله حمدوك. في تلك الفترة، كانت هناك خطوات فعلية نحو التحول السياسي والانفتاح على المجتمع الدولي، وكان هناك أمل ببناء مستقبل أفضل. ومع ذلك، تغيّر كل شيء بعد الانقلاب.
محيي الدين جمعة، الناطق الرسمي باسم الكتلة الديمقراطية، واحدة من الكتل التي أيدت الانقلاب، يقول لـ"العربي الجديد"، إن "ما جرى في 25 أكتوبر 2021 كان انتصاراً لإرادة الثورة المجيدة التي نشأت لتحرير البلاد من سيطرة الهيمنة واستعادة القرار السياسي بعد عقود من الاستبداد". ويرى أن "هذا اليوم يعتبر مهماً لإنهاء سياسات الحرية والتغيير الخاطئة التي أدت إلى تدهور الوضع في البلاد".
جمعة يشير إلى "أهمية أن تكون البلاد مكاناً يتسع للجميع، وأن ثورة ديسمبر المجيدة كانت عظيمة بمشاركة الجميع دون تمييز". ويدعو "جميع الأفراد، بخاصة الشباب، للمشاركة في بناء مستقبلها دون تفرقة أو تمييز".
ويضيف أنّه "على الرغم من تلك الآمال والتطلعات، نعيش اليوم في واقع مؤلم بسبب الاشتباكات المستمرة بين القوات المسلحة ومليشيا قوات الدعم السريع". يعبّر جمعة عن أسفه لهذا الوضع الذي يعاني منه الشعب، ويعبّر عن أمله في "أن يتم العمل على وقف النزاع في أقرب وقت ممكن لاستعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني في البلاد".
ويجدد دعوته للحوار السوداني السوداني وإنهاء الحرب، بهدف تحقيق واقع سياسي جديد يلبي تطلعات وآمال الشعب السوداني.
قرصنة سياسية
في المقابل، يرى المستشار الصحافي السابق لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فائز السليك، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الانقلاب الذي وقع في 25 أكتوبر 2021 عملية قرصنة سياسية اختطفت مسار الانتقال السلمي في السودان"، معتبراً أن "هذا الانقلاب تم تنفيذه بدقة وتخطيط من قبل فلول نظام البشير بهدف إعادة المشهد السياسي إلى الوراء، إلى الفترة التي سبقت سقوط نظامهم في 11 إبريل 2019".
السليك يوضح أن "الانقلاب سقط منذ اليوم الأول وفشل في تحقيق أهدافه، مثل القضاء على تجربة الحكم المدني وعودة الإسلاميين بالكامل للحكم". ويشير إلى أن "قائد الانقلاب، الجنرال عبد الفتاح البرهان، فشل في إصدار قرارات تنظيمية مهمة مثل تشكيل حكومة تكنوقراط وتكويت المجلس التشريعي وإجراء الانتخابات".
ويستطرد بالقول إنّ "هناك أسباباً متعددة لفشل الانقلاب، منها رفض الجماهير السودانية لعودة الإسلاميين ورفضها للانقلابات. وأيضاً الضغوط الدولية التي تمثلت في تجميد المساعدات والتعاون الدولي، بما في ذلك من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية العالمية. فضلاً عن ذلك، تأثرت الدولة السودانية بقرارات الاتحاد الأفريقي بتجميد عضويتها، ومواقف المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة".
السليك يحذر "من التداول الذاتي الفاشل الذي نتج من وجود رؤساء متنافسين بقوة وقدرات متقاربة في السلطة، بالإضافة إلى طلوع الإسلاميين بسرعة إلى السلطة". ويشير إلى أن "أكبر خيبة أمل هي انفجار الحرب التي تهدف إلى إعادة رسم المشهد السياسي وربما حدود السودان بالدماء وجماجم البشر".
فشل الانقلاب
بدوره، يؤكد القيادي في الحزب الشيوعي السوداني، كمال كرار، في حديث بـ"العربي الجديد"، أن "الانقلاب واجه مقاومة قوية منذ اليوم الأول. هذه المقاومة تجلت في الحركة الجماهيرية في الشوارع، والمواكب، والاعتصامات. وهذا ما أفشل الانقلاب ومنعه من تحقيق نتائج إيجابية، بما في ذلك تنفيذ وعده بتشكيل حكومة جديدة وتنظيم انتخابات مبكرة".
كرار يشير إلى أن "هذا الفشل والمقاومة تم الاعتراف بهما حتى من قبل دهاقنة الانقلابيين، بمن فيهم حميدتي الشخص الثاني في الانقلاب. حميدتي أقر صراحة بفشل الانقلاب، الذي أدى إلى حالة عدم وجود دولة أو حكومة أو ميزانية أو تخطيط".
ويبين أن "النتيجة الكلية للانقلاب هي تدهور حالة السودان، حيث كان البرهان وحميدتي يتفقان على الانقلاب ولكن يختلفان بشأن السلطة والنفوذ. هذا تسبب في الضرر للشعب السوداني وللبنية التحتية وحدود السودان وسيادته".
وبالمقابل، يشير كمال كرار إلى أنّ "الانقلاب حفز قوى الثورة والتغيير الجذري لزيادة الضغط من أجل إخراج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية وتشكيل حكومة مدنية. كما يسعى هؤلاء إلى تحقيق هدف منع تكرار الانقلابات العسكرية وتقديم المتورطين في جرائم الحرب للعدالة". يشير أيضاً إلى "وجود تحركات سياسية وطنية لتحقيق هذه الأهداف دون تدخلات خارجية. يعتقد كرار أنّ "انقلاب البرهان وحميدتي سيكون الأخير في البلاد، وأن الحرب الأخيرة ستكون الأخيرة أيضاً".
خسائر خارجية مدمرة
من جهة ثانية، السفير الصادق المقلي يشير، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "الانقلاب الذي وقع في السودان أدى إلى خسائر دبلوماسية واقتصادية هائلة. بدايةً، تم تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي كأول خسارة دبلوماسية بعد الانقلاب. هناك أيضاً تجمد في العلاقات مع الدول الغربية التي أدانت الانقلاب وأعربت عن دعمها لاستعادة مسار التحول الديمقراطي من خلال تشكيل حكومة مدنية".
يلفت المقلي كذلك إلى أن "حقوق الإنسان في السودان تأثرت سلباً بعد الانقلاب، حيث تم استبعاد السودان من الإجراءات الخاصة في مجلس حقوق الإنسان. في السابق، جرى انتخاب السودان للمرة الثانية في مجلس حقوق الإنسان من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بفضل تقدمه في مجال حقوق الإنسان. هذه المكاسب قضى عليها الانقلاب".
وبحسب المقلي، فإنّ "الخسارة الأكبر بالنسبة إلى السودان بعد الانقلاب هي تعليق المساعدات الدولية التنموية من قبل المؤسسات المالية الدولية متعددة الأطراف، بما في ذلك البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية. هذا جاء بعد تحسين العلاقات مع هذه المؤسسات خلال فترة حكومة عبد الله حمدوك، التي أعلنت عودة السودان إلى مسار إعفاء الديون. ومع ذلك، قطع الانقلاب هذا المسار وألحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد السوداني".