لم تنل المناطق التي اضطرت فصائل المعارضة السورية فيها إلى إبرام اتفاقات "مصالحة" و"تسوية"، إلا المزيد من الفوضى الأمنية والتردي في الأحوال المعيشية والتضييق، ما يؤكد أن النظام ينفّذ مخططاً انتقامياً من سكان هذه المناطق التي خرجت عن سيطرته لعدة سنوات، تعرضت خلالها للحصار والقصف بكل أنواع الأسلحة.
وكان النظام قد استعاد السيطرة خلال عام 2018 وبدعم عسكري روسي وإيراني على أغلب المناطق التي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة في جنوب سورية (ريف دمشق، درعا، القنيطرة)، وفي ريف حمص الشمالي (وسط سورية)، وفق اتفاقات لم يلتزم بها، بل اتخذ منها مدخلاً لتنفيذ عمليات انتقامية واسعة النطاق.
غياب الأمن وانتشار الفوضى
ولم تنعم هذه المناطق بأمن أو انفراج معيشي، بل عمل النظام بقواته وأجهزته الأمنية على نشر الفوضى، ما جعل من هذه المناطق، تحديداً درعا، ساحة اغتيالات مفتوحة وتصفية حسابات وتجارة مخدرات، مع واقع معيشي يكاد يصل إلى حدود الكارثة.
وقد أحصى "تجمّع أحرار حوران"، وهو مؤسسة إعلامية مستقلة تنقل أحداث الجنوب السوري، 33 عملية ومحاولة اغتيال أسفرت عن مقتل 23 شخصاً وإصابة 12 آخرين، خلال شهر مارس/آذار الماضي.
ومن بين القتلى طبيب وقيادي سابق في فصائل المعارضة السورية ورئيس المجلس المحلي في بلدة جاسم، ورئيس المجلس المحلي في بلدة الصنمين، وناشط إعلامي سابق.
عمل النظام بقواته وأجهزته الأمنية على نشر الفوضى
وفي شهر إبريل/نيسان الحالي جرت عدة عمليات اغتيال، طاولت إحداها مستشاراً في محكمة الاستئناف المدني الواقعة في الصنمين، وأخرى طاولت أمين شعبة حزب "البعث" في مدينة نوى.
وأفاد التجمع في تقرير له، بأن النظام والمليشيات الإيرانية يعملان على تعزيز تجارة المخدرات في المحافظة، وتوسيع رقعة التعاطي بين الشبان من خلال سهولة الحصول عليها.
وبيّن الناشط الإعلامي يوسف معربة في حديث مع "العربي الجديد" أن النظام "لم يتوقف منذ عام 2018، عن عقليته الأمنية والهمجية ضد المدنيين والمعارضين في المنطقة، واستمر في عمليات الاعتقال والمداهمات والاخفاء القسري".
وأضاف: يشن النظام حرب تصفيات بحق المعارضين والعناصر السابقين في الجيش الحر، عن طريق سلسلة من عمليات الاغتيالات، التي تتم بإدارة فروعه الأمنية.
وأوضح معربة أن النظام "حوّل مع المليشيات الإيرانية الجنوب السوري إلى حقل تجارب للمخدرات ومركزاً لترويجها وتهريبها عبر الحدود إلى الأردن والخليج"، مضيفاً: هدف النظام هو ضرب فئة الشباب والسيطرة عليهم من خلال المواد المخدرة، وبالتالي ضمان عدم نهوض محافظة درعا مرة أخرى.
وذكر أن محافظة درعا شهدت خلال عام 2020 نحو 307 عمليات ومحاولة اغتيال، أسفرت عن 235 قتيلاً، مشيراً إلى أن النظام اعتقل خلال العام نفسه 368 شخصاً.
وأضاف أن عام 2021 شهد 291 عملية ومحاولة اغتيال أسفرت عن 226 قتيلاً، واعتقال 479 شخصاً. ولطالما كانت الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق عنواناً بارزاً للمجازر والكوارث التي قام بها النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون على مدى نحو 8 سنوات، واستمرت لاحقاً بأشكال مختلفة بعد السيطرة عليها.
وكانت آخر قافلة تهجير خرجت من الغوطة إلى شمال البلاد في منتصف إبريل 2018، بعد حملة عسكرية واسعة النطاق استخدم خلالها النظام غازات سامة.
وأوضح مدير شبكة مراسلين ريف دمشق، عبد الرحمن طفور، في حديث مع "العربي الجديد" أن النظام تعامل مع بلدات الغوطة بعد السيطرة عليها على مراحل، مشيراً إلى أن نحو 30 في المائة ممن خرجوا من "الممرات الآمنة" التي أعلن الروس عنها في عام 2018، إما مفقود أو معتقل لدى النظام، خصوصاً الشباب.
وأفاد بأن النظام "قسّم الغوطة إلى كانتونات في عام 2018". وأشار طفور إلى أن عدداً من شبان الغوطة "اختفوا في ذاك العام"، موضحاً أن "خمسة عمال فُقدوا ما بين بلدتي عربين وحمورية ولا يُعرف عنهم شيء منذ عام 2018".
ولفت إلى حصول عمليات تعفيش واسعة في الغوطة، موضحاً أن "دوريات الأجهزة الأمنية كانت تدخل البيوت بحضور سكانها وتنهبها، ومن يعترض يعرّض نفسه للاعتقال بتهمة الإرهاب أو حيازة أسلحة".
وكشف أن الجانب الروسي "كان يردع قوات النظام عن ارتكاب تجاوزات بحق السكان في عام 2018، أما اليوم فلم يعد هناك أي وجود للروس، وهو ما يسمح لقوات النظام وأجهزته الأمنية بارتكاب كل التجاوزات من دون رادع".
النظام يستخدم المدارس لزرع فكرة التقديس لرأس النظام بشار الأسد
وفي السياق، ذكر مصدر محلي فضّل عدم ذكر اسمه، في حديث مع "العربي الجديد" أن الأجهزة الأمنية التابعة للنظام "لم تعتقل أو تداهم المنازل في الأشهر الأولى"، مضيفاً: بعد ذلك بدأت الأوضاع تسوء في بلدات الغوطة، وجرى اعتقال الشباب أو إجبارهم على الالتحاق بقوات النظام.
ومارس النظام سياسة ممنهجة لتفريغ الغوطة من شبابها. ولفت المصدر إلى أن النظام "يتعمّد إرسال المجندين من شباب الغوطة الشرقية إلى الجبهات الساخنة، سواء مع تنظيم داعش في البادية السورية أو إلى الشمال الغربي من سورية، حيث الجبهة مع فصائل المعارضة السورية وهيئة تحرير الشام".
وأفاد بأن النظام "يستخدم المدارس لزرع فكرة التقديس لرأس النظام بشار الأسد، في عقول الأطفال والفتيان، وتشويه كل ما يتعلق بالثورة". وفي مطلع مايو/ أيار 2018 بدأت قوافل التهجير تخرج من مدن وبلدات ريف حمص الشمالي باتجاه الشمال السوري، عقب اتفاقات مصالحة جرت بوساطة روسية شبيهة باتفاقات الجنوب السوري.
أوضاع ريف حمص الشمالي
وما جرى في محافظة درعا والغوطة الشرقية حدث مثله في ريف حمص الشمالي، وفق الناشط الإعلامي أسامة عبد الهادي، الذي أشار في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن "الوضع المعيشي والأمني في ريف حمص الشمالي سيئ جداً".
وأوضح أن "منطقة الحولة خالية من الشباب"، مضيفاً: كل منشق عن قوات النظام يقل عمره عن الـ40 عاماً اعتُقل في سجن صيدنايا، وقُتل عدد منهم تحت التعذيب. وأشار إلى أن الأهالي في الحولة "يتعرضون للتضييق والابتزاز"، موضحا أن النظام "صادر أملاكاً في منطقة الرستن".
وقال إن "الوضع مختلف في منطقة تلبيسة، لأن فصيل جيش التوحيد بقي في المدينة"، مشيراً إلى أن عدداً من شباب المنطقة "هربوا إلى لبنان". وحول الأوضاع المعيشية في ريف حمص الشمالي بيّن عبد الهادي أن "حال هذا الريف كحال بقية مناطق النظام، فالرواتب تبلغ نحو 20 دولارا للموظفين في ظل ارتفاع جنوني للأسعار".