أجرى عدد من السفارات الغربية بالقاهرة خلال الأيام القليلة الماضية اتصالات جديدة بوزارة الخارجية، لحث مصر على اتخاذ خطوات جادة لفتح المجال العام وحلحلة القضايا العالقة في ملف حقوق الإنسان. وأكدت أن هذه العقبات ستظل تعرقل التطور المرجو لأبعد مدى في العلاقات بين مصر والعواصم الغربية وواشنطن، على الرغم من التعاون الوثيق في العديد من الملفات والاعتماد المتزايد على الرئيس عبد الفتاح السيسي في المنطقة، وفقاً للرؤية الجديدة التي تحملها الإدارة الحالية للبيت الأبيض لمصر، كوسيط مهم في عملية السلام ولاعب أساسي في شؤون المنطقة. وقدّمت واشنطن القاهرة على بعض دول الخليج التي كانت تحاول انتزاع هذا الدور في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد" إن السبب الرئيس لعودة هذه الاتصالات هو صدور قرار جديد منذ أسبوع بتجديد حبس الناشط بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الطالب في جامعة بولونيا الإيطالية، الباحث باتريك جورج زكي، الذي ألقي القبض عليه لدى عودته إلى مصر مطلع فبراير/ شباط الماضي. ويواجه باتريك اتهامات باستخدام صفحته الشخصية على موقع "فيسبوك" في التحريض على قلب نظام الحكم والتظاهر وتكدير السلم العام، وغيرها من الاتهامات المطاطة التي باتت توجه للنشطاء والباحثين باستخدام صفحاتهم الشخصية أو حتى صفحات منسوبة لهم كذباً، بهدف ملاحقتهم وتخويف دوائرهم السياسية والبحثية. ولطالما طالبت الدول الأوروبية ومنظمات حقوقية محلية وعالمية بالإفراج عن باتريك، كما نظمت تظاهرات عدة في إيطاليا تضامناً معه، ودعا بعض النواب إلى منحه الجنسية الإيطالية، على خلفية تورط النظام المصري، الذي يحاكمه، أيضاً في قتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في فبراير عام 2016.
تنتظر القاهرة مسار السفير الإيطالي الجديد فيها المعروف بقربه من اليسار
وأضافت المصادر أن تجديد حبس باتريك بعد أسبوعين تقريباً من اتصال وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو بنظيره المصري سامح شكري، ودعوته إلى تكثيف الجهود للإفراج عنه وترحيله إلى إيطاليا، اعتُبر استفزازاً لروما. لكن من الجانب المصري يبدو الأمر وكأنه استعداد لاستقبال السفير الإيطالي الجديد بالقاهرة ميشيل كواروني، المتوقع في الأوساط المصرية أن يبذل نشاطاً أكبر من سلفه جيانباولو كانتيني في القضايا الحقوقية، نظراً لما يُعرف عنه من علاقة وثيقة بدوائر يسارية واجتماعية إيطالية عدة، ولسجله الحافل على مستوى المنظمة القارية في ملفات تعزيز حقوق الإنسان والتعاون مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا.
وذكرت المصادر أن مصر تتعامل مع باتريك كورقة مساومة في سياق علاقة الشد والجذب مع الإيطاليين، وترى أن الإفراج عنه في ظل دعوة قوى إيطالية عدة لقطع العلاقات الاقتصادية ووقف التعاون العسكري والاستعداد للمحاكمة الغيابية للمتهمين بقتل ريجيني، سيزيد الضغط على مصر، لا العكس، وسيُظهرها في صورة النظام الذي يستجيب للضغوط بسهولة.
أما الدافع الثاني لعودة هذه الاتصالات فهو غموض مصير قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني 173 لسنة 2011 التي شهدت الشهر الماضي مستجدات إيجابية عدة، منها استدعاء عدد من الحقوقيين الممنوعين من السفر ومن التصرف في أموالهم منذ نحو خمس سنوات إلى التحقيق وصرفهم دون كفالة أو حبس. وعلى الرغم من توجيه نفس الاتهامات القديمة لهم، كما ذكرتها التحريات الأمنية والاستخباراتية لدى فتح القضية في عام 2016، تتوجه التوقعات الحقوقية والقانونية إلى إصدار مجموعة جديدة من القرارات بألا وجه لإقامة الدعاوى الجنائية ضد هؤلاء الحقوقيين، أو على الأقل تخفيف التدابير الموقعة على بعضهم.
وبحسب المصادر، فإن السفارات كانت تتوقع إغلاق القضية نهائياً في الشهر الحالي، لكن ما حدث أنه تم استدعاء عدد من الحقوقيين الممنوعين من السفر وغير الممنوعين مرة أخرى إلى التحقيقات. وهو ما أثار تساؤلات حول نوايا السلطة في استمرار هذه الإجراءات التي تطرح احتمالات مختلفة، خصوصاً مع رغبة النظام في تحسين صورته ورغبة السيسي في زيارة واشنطن واحتمالية حضوره اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
مع العلم أن مصر تلقت تحذيرات في إبريل/ نيسان الماضي بعد إخراج عدد كبير من المنظمات غير الناشطة من القضية، وتمحور التحذير حول أن هذا التصرف يعبر عن محاولة مصرية للالتفاف على المطالبات الغربية وإسكاتها، بالإضافة إلى تصوّر محلي غير صائب مفاده بأن مثل هذه القرارات ستكون كافية لإعادة ضخ المساعدات الأوروبية إلى مجالات العمل الأهلي. وتتطلع القاهرة إلى إعادة الوضع كما كان عليه قبل عام 2011 عندما فُتحت القضية لدى المخابرات العامة بمساعدة الأمن الوطني، بهدف السيطرة على المنظمات الحقوقية في الفترة التالية لثورة 25 يناير/ كانون الثاني.
تهتمّ الدول الأوروبية بمصير قضية التمويل الأجنبي
وأصدرت مصر عدة قرارات صورية بإخراج منظمات ليس لها نشاط ولا تمارس العمل الحقوقي في الأساس من قائمة الاتهام في قضية التمويل الأجنبي، قبل وبعد الهجوم الذي شنته 31 دولة على السياسات المصرية في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في مارس/ آذار الماضي. وركز الهجوم بشكل تفصيلي على أوضاع المعتقلين، وتدوير المحبوسين، وتجاوز فترات الحبس الاحتياطي، والإفراط في استخدام قانون "الكيانات الإرهابية" للإدراج على قوائم الإرهاب، والمنع من السفر والتصرف في الأموال، والانتقادات الموجهة لقانون العمل الأهلي الجديد، الذي تلاه إصدار قرارات عفو شملت السجناء الجنائيين العاديين وليس السياسيين، واقتصار إخلاء السبيل بالنسبة للمعتقلين والمحبوسين احتياطياً على الصحافيين وعدد محدود من النشطاء الحقوقيين، وغيرها من صور الادعاء بوجود انفراجة من دون تأثير حقيقي.
وكان من بين الملاحظات التي سجلتها السفارات على قائمة المنظمات التي ثبت براءتها، بحسب بيان قاضي التحقيق، أن عدداً كبيراً منها لم يعد له وجود فعلي في مصر، وأن بعضها قد أنهى نشاطه خلال السنوات العشر الماضية. كما أن بعضها لم يسبق أن مارس نشاطاً حقوقياً في مصر، إلى جانب شمول القرارات جمعيات لها نشاط إنساني صرف مثل هيئة الإغاثة الكاثوليكية و"كاريتاس"، وجمعيات أخرى مرتبطة بقوى اجتماعية وسياسية تنسق مع النظام الحالي، كأنصار السنة المحمدية وجمعيات سلفية أخرى، وجمعية تابعة لعضو مجلس الشيوخ محمد أنور السادات، المعروف بأدائه حالياً دور الوسيط بين الدولة والمعارضة الحقوقية.
ولم تصدر مصر حتى الآن "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان"، التي كان من المقرر صدورها نهاية يونيو/حزيران الماضي، وتجاهل السيسي الإشارة إليها في جميع لقاءاته العلنية الأخيرة. في السياق، سبق أن كشف مصدر أمني لـ"العربي الجديد" أن السلطات لا تربط البتة بين تحسين أوضاع المعتقلين ووقف التلاعب بمصائرهم والإعلان المقرر عن استراتيجية حقوق الإنسان المصرية، منوهّاً إلى استمرار الخلاف حول موعد وظروف إعلان هذه الاستراتيجية، الذي أصبح يستأثر السيسي بتحديده، على أن يتمّ الأمر بناء على معايير معينة مرتبطة بظروف العلاقة بالولايات المتحدة والسياق الدولي والإقليمي.