قبل أكثر من أسبوع، اضطر الفلسطيني فضل أبو عليا (54 عاماً) لنقل مواشيه (نحو 300 رأس من الغنم) من منطقة خربة جبعيت شرق قرية المغير، شمال شرق رام الله وسط الضفة الغربية، إلى سهل بلدة ترمسعيا المجاورة، بعد تقلص مساحات الرعي إثر سيطرة بؤرة استيطانية، عمرها ست سنوات، على مساحات شاسعة تمتد إلى الأغوار الفلسطينية شرقاً.
ويقول أبو عليا لـ"العربي الجديد" إنه منذ كان طفلاً "كان يرافق والده في الرعي، يسيرون إلى مسافة تقارب سبعة كيلومترات وصولاً إلى بلدة فصايل في الأغوار، وإنه لطالما قام بحراثة وزراعة أراضٍ تتبع قرى قريوت وتلفيت جنوب نابلس لاستخدامها في الرعي، لكن كل شيء تغير في العام 2017 بعد أن أقام مستوطنون بؤرة زراعية قرب معسكر لجيش الاحتلال".
ويؤكد أبو عليا أن المستوطنين حددوا من تلقاء أنفسهم الأماكن التي لا يسمحون للفلسطينيين بالوصول إليها، وهي تقارب عشرة آلاف دونم، ولم يتبق من مراع سوى على بعد مئتي متر من البيوت والخيام والبركسات.
المستوطنون أداة لتنفيذ الضم
وعلى مدار السنوات الست السابقة، تعرض الأهالي لمضايقات عديدة. ويؤكد أبو عليا أنه لن يترك المكان، لكنه اضطر لنقل المواشي لسهل ترمسعيا، الذي زرعه لإطعام الأغنام، فتربيتها دون رعي وشراء الطعام لها لم يعد مجدياً اقتصادياً، وهو أمر يهدد العديد من المزارعين في المكان وقرابة 700 رأس غنم آخر.
وفي يوليو/ تموز من العام الماضي، اضطرت كذلك حوالي 20 عائلة بدوية للرحيل من منطقة رأس التين المجاورة، شرق بلدة كفر مالك شرق رام الله، إثر اعتداءات المستوطنين التي طاولت مساكن البدو وإشعال النيران حولها، مع خشية حرقها.
وتكررت هذه الاعتداءات على مساحة واسعة شرقي رام الله بشكل خاص، والمرتفعات الجبلية المطلة على الأغوار الفلسطينية بشكل عام، أو ما تسمى بمناطق شفا الغور، والأداة الإسرائيلية الرئيسية لتهجير السكان هي المستوطنون الذين ينتشرون شيئاً فشيئاً على تلك المرتفعات في بؤر رعوية وزراعية صغيرة فيها أعداد قليلة من المستوطنين، لكنها تسيطر على مساحات واسعة وتقطع الامتداد الفلسطيني نحو الأغوار.
ويقول عضو المجلس القروي لقرية المغير، مرزوق أبو نعيم، لـ"العربي الجديد"، إن "نشر البؤر تكثف خلال السنوات الماضية، منها إقامة بؤرة على جبل القبون بين قرى كفر مالك وخربة أبو فلاح والمغير في 2017، واستطاع الأهالي إزالتها إثر تظاهرات شعبية بعد شهر، ونقلها المستوطنون لاحقاً في العام نفسه إلى منطقة خربة جبعيت قرب المعسكر التابع لجيش الاحتلال، لكن المستوطنين قبل شهر تقريباً أعادوا إقامة البؤرة على جبل القبون".
وشهد 2020 إقامة بؤرة أخرى في منطقة عين سامية على أراضي كفر مالك، وكذلك بؤرة على جبل الشرفة في بلدة دير جرير، وأخرى على أراضي بلدة الطيبة في العام نفسه، وأخيراً بؤرة على أراضي رمون في العام الحالي.
ويقول أبو نعيم إن الهدف من تلك البؤر والمستوطنات الكبيرة هو منع الرعاة والمزارعين من الوصول إلى الأراضي التي تمتد إلى الأغوار بشكل شبه كامل، وإيقاف الامتداد الطبيعي الذي اعتاده الفلسطينيون على مدار التاريخ نحو بلدات الغور كالعوجا وفصايل، ولم يتبق للفلسطينيين من امتداد يستطيعون فعلاً الوصول إليه سوى منطقة الدالية شرق قرية المغير، وهي منطقة صغيرة مقارنة بالمساحات الواسعة التي يحول المستوطنون دون وصول الفلسطينيين إليها.
بؤر العربدة الاستيطانية
والبؤر التي ذكرها أبو نعيم هي جزء من مشهد أكبر. ويقول الخبير في شؤون الاستيطان ومنسق الحملة الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان، جمال جمعة، لـ"العربي الجديد"، إنه مشهد يمتد على كل المنحدرات الشرقية للضفة الغربية باتجاه غور الأردن، وهو جزء من مخطط ضم الأغوار والمناطق المصنفة "ج" وفق اتفاق أوسلو.
ويقدر جمعة عدد البؤر المنتشرة في تلك المنحدرات المشرفة على الأغوار بـ32 بؤرة، ولا تخضع لأي قانون، بل فقط للقوة والعربدة، والهدف إغلاق كل المناطق الممتدة إلى الغور.
وتملأ تلك البؤر الفراغات بين المستوطنات الكبيرة. ويقول جمعة إنها منتشرة بين المستوطنات الرئيسية لتغلق حتى الممرات الضيقة التي بقيت، في محاولة لإغلاق كامل لتلك المناطق ودفع الناس باتجاه مناطق "أ" و"ب" فقط وفق تصنيف اتفاقية أوسلو.
تطبيق صفقة القرن
ويعتبر جمعة أن كل عمليات الإخلاء والتوسع الاستيطاني ونشر البؤر مرتبط بما يعرف بالوضع النهائي، المتمثل بضم مناطق "ج"، وتحويلها إلى مناطق استيطان وتوسعات استيطانية، مع حصر الفلسطينيين داخل التجمعات السكانية الخاصة بهم ضمن كانتونات حصرت بالجدار وطرق الفصل العنصري الالتفافية والمستوطنات، سواء الكتل الكبيرة أو البؤر الصغيرة.
وحول أهمية فصل الغور عن الضفة، بما فيها مناطق شرق رام الله، يقول جمعة: "الغور يعتبر من أكبر المساحات في الضفة، المساحات المفتوحة يمكن أن تكون مستقبلاً مناطق تطوير وامتدادات سكانية وعمرانية وتطوير اقتصادي وزراعي فيه، فعملية فصل الغور هي عملية قتل لإمكانية قيام أي كيان فلسطيني مستقل معتمد على نفسه، وتجريد الفلسطينيين من مصادرهم الطبيعية الموجودة في مناطق "ج"، وهذا جزء من الخريطة الجيوسياسية التي تفرضها إسرائيل على أرض الواقع".
ويرى الباحث في الشأن الإسرائيلي والجماعات الاستيطانية عليان الهندي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ما يحصل هو تطبيق دقيق من جانب واحد لما ورد في صفقة القرن، خطة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب"، ويؤكد أن "هذا الخط شرق رام الله يمتد من سنجل والمغير شمال شرق رام الله إلى جبع شمال شرق القدس".
ويعتبر الهندي أن تطبيق هذه السياسة يعود إلى العام 2005 بطلب من رئيس وزراء الاحتلال السابق، أرييل شارون، حيث طلب من شبيبة التلال السيطرة على تلال الضفة الغربية بهدف حرمان الفلسطينيين من التوسع في المناطق "ج" من ناحية ديمغرافية، أما من ناحية سياسية فلحرمان الفلسطينيين من أي امتداد مع الوطن العربي عبر الأغوار مع الحدود الشرقية مع الأردن.
لكن المستوطنين، برأي الهندي، يذهبون في التطبيق أبعد مما ورد في صفقة القرن، حيث توجد مساحة ضيقة سماها الهندي بالـ"كوريدور"، تمتد من أريحا إلى رام الله فيها امتداد سكاني فلسطيني، لكن المستوطنين لا يوافقون سوى على شارع كممر للفلسطينيين.
ويساعد المستوطنين في مهمتهم جمعيات استيطانية، ومنها لجنة إكسل السرية، حسب الهندي، التي تراقب تواصل البناء الفلسطيني أو حتى الزراعة، وترفق فيها تقارير للإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال، والتي تقوم بزيارات مفاجئة للتضييق على الفلسطينيين. ويؤكد الهندي وجود 4 آلاف جمعية استيطانية في الضفة بحسب دراسة قام بها قبل سنوات.
تبوير الأراضي
ولا تشمل التضييقات فقط التجمعات البدوية المنتشرة، وإنما النشاطات الزراعية أيضاً من خلال تبوير الأراضي، أي إبقائها بدون فلاحة، وهو ما يسمح وفق القوانين المعمول بها إسرائيلياً بإعلانها كأراضي دولة.
ويساعد كل ذلك شبكة طرق إسرائيلية، يعيد الهندي تاريخ التخطيط لها إلى عام 1967 بعد احتلال الضفة مباشرة، أقرتها القيادة العسكرية الإسرائيلية، وتقوم على فتح شوارع عرضية في الضفة الغربية تؤدي إلى تقسيمها إلى أربعة كنتونات، تطورت لاحقاً إلى ستة.
من تلك الطرق شارع ألون شرق رام الله، والذي يفصلها عن الشرق والأغوار، وكل المحاولات الحالية تهدف إلى منع تواجد الفلسطينيين شرقه، وهو، كما يقول الهندي، "جزء من خطة لجيش الاحتلال باعتبار الغور الحدود الأمنية لإسرائيل، وثم تطورت الفكرة ليصبح حدوداً ديمغرافية كذلك".
وتنتشر البؤر الاستيطانية الزراعية في الضفة الغربية بشكل أوسع بأهداف مشابهة، حيث لا تقتصر على المرتفعات المشرفة على الأغوار، ويبلغ عددها حتى الآن أكثر من ستين بؤرة، ولا تتوقف اعتداءات مستوطنيها تجاه الفلسطينيين.