الهجوم الإسرائيلي على غوتيريس: إبعاد الأنظار عن مجازر غزة

26 أكتوبر 2023
التشكيك بمصداقية غوتيريس ليس بالأمر الجديد (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

لا يخرج الهجوم الإسرائيلي على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، عن الحملة الشرسة التي تقودها إسرائيل، وحتى بعض المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، لإخماد أي صوت يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، أو يحاول وضع ما يحدث وهجوم حركة "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول في سياقه الأوسع وهو الاحتلال والاستعمار الاستيطاني المستمر منذ أكثر من 75 عاماً.

وكان غوتيريس قد قال في مداخلته أمام مجلس الأمن الدولي، يوم الثلاثاء، إن هجمات حماس "لم تأتِ من فراغ"، لكنه دانها ووصفها بـ"الإرهابية". وقال كذلك إن السياق الأوسع والتاريخي للاحتلال- ومصادرة الأراضي- لا يبررها من وجهة نظره، وكان واضحاً بذلك. والمفارقة أن تصريحات غوتيريس حول هجمات "حماس" وتأكيده أنها "لم تأتِ من فراغ" لم تكن جديدة، فهو استخدم التعبير نفسه في التاسع من الشهر الحالي، بعد يومين من هجمات "حماس" وخلال تصريحات إعلامية له.

وعلى الرغم من استياء الجانب الإسرائيلي آنذاك منها، لكنه لم يصعّد بهذا الشكل ولم يطالبه علناً بالاستقالة حينها. لكن هذه المرة وعلى الرغم من أن غوتيريس عاد الأربعاء لتبرير كلامه قائلاً إنه تم "تحريف" تصريحاته، إلا أن السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة جلعاد أردان رفض هذا التفسير ودعاه إلى الاستقالة.

سياسة التشكيك بمصداقية الأمين العام

وليس غوتيريس بالأمين العام الذي يتحدث علانية ضد الدول النافذة، فغالباً ما يفضّل سياسات "خلف الأبواب" لتوصيل امتعاضه للمسؤولين عن هذا الملف أو ذاك، والتي لم تثبت نجاعتها حتى الآن بعد أكثر من ست سنوات على توليه منصبه. والتشكيك بمصداقيته أو مصداقية أي أمين عام للأمم المتحدة، ليس بأمر جديد، خصوصاً إذا انتقد دولاً نافذة أو مدعومة من دول كبيرة. وإسرائيل، بالطبع، على رأس هذه الدول المدللة والمحمية. فعلى سبيل المثال هاجمت روسيا غوتيريس في أكثر من مناسبة بسبب تصريحاته حول أوكرانيا وحرب روسيا الأخيرة. واكتفى الأمين العام إزاء كل الهجمات بالرد عن طريق المتحدث الرسمي باسمه ستيفان دوجاريك في مؤتمراته الصحافية اليومية.

إلا أن اللافت للانتباه هذه المرة أنه قرر أن يدلي بتصريحات إعلامية يقرأها بنفسه، يعبّر فيها عن "ذهوله" من الاتهامات الإسرائيلية له "بالانحياز وتبرير هجوم حماس". وكرر في تصريحاته الأربعاء إدانته لهجمات "حماس" ووصفها بـ"الإرهابية"، كما كرر حديثه عن أنه عندما قال إنها لم تأت من فراغ، لم يبرر الهجمات. وفي محاولته للدفاع عن نفسه، لم يُعد التأكيد هذه المرة على ما قاله أمام مجلس الأمن حول الاحتلال ومطالب الفلسطينيين المشروعة والاستيطان وغيرها ولا حتى على جملته "أنها لم تأت من فراغ". وعلى الرغم من هذا، لم تتراجع إسرائيل، بل زادت الهجوم عليه ولم تكتف بمطالبته بالاستقالة أو الاعتذار، بل هددت بعدم إعطاء تأشيرات لطواقم الأمم المتحدة المتواجدة في فلسطين المحتلة.

كرر غوتيريس في تصريحاته إدانته لهجمات "حماس" ووصفها بـ"الإرهابية"، كما كرر حديثه عن أنه عندما قال إنها لم تأت من فراغ، لم يبرر الهجمات

وبدلاً من أن ينشغل العالم والإعلام الغربي بالحديث عما يحدث من عدوان على غزة ووقف إطلاق النار وعدم دخول ما يكفي من المساعدات الإنسانية واستشهاد آلاف الفلسطينيين وزيادة هجمات المستوطنين في الضفة المحتلة والقدس، فإنه انشغل، خصوصاً الإعلام الغربي، بالادعاءات الإسرائيلية والهجمات على غوتيريس والتهديد بعدم إعطاء تأشيرات لطواقم الأمم المتحدة وغيرها. وتركّزت أغلب الأسئلة في المؤتمر الصحافي اليومي للمتحدث الرسمي باسم غوتيريس على هذا الأمر.

ويراد بهذا الهجوم تشتيت الأنظار عن الموضوع الرئيسي، وهو قتل المدنيين الفلسطينيين وارتكاب المجازر والهجمات على المستشفيات وغيرها. ولكن الجانب الإسرائيلي لا يريد الاكتفاء بهذا، فالهدف كذلك هو التشكيك في مصداقية الأمم المتحدة وتقاريرها، خصوصاً أن غوتيريس طالب للمرة الأولى بشكل صريح، بعد أسبوعين من الحرب وسقوط آلاف الضحايا، بوقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية.

ويأتي هذا في وقت لا تريد لا إسرائيل ولا دول غربية سماع أي مناشدات من هذا النوع. وتأتي الحملة على غوتيريس بعد أيام من استخدام الولايات المتحدة الفيتو ضد مشروع قرار برازيلي يدين "حماس" ويطالب بهدنة إنسانية. وتحججت الولايات المتحدة بأن استخدامها الفيتو جاء لأن القرار "لا ينص على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". لكن الكثير من الحقوقيين الدوليين يتساءلون عمّا إذا كانت دولة قائمة بالاحتلال بادرت بالهجوم عن طريق فعل الاحتلال غير القانوني يمكنها الادعاء بأن ما تقوم به هو في إطار "الدفاع عن النفس". كما يُطرح سؤال حول حق الشعوب المحتلة بالدفاع عن نفسها الذي يغيب الحديث عنه من قبل غوتيريس. وكل هذا في الوقت الذي تمنع فيه إسرائيل أموراً أساسية كالمساعدات الإنسانية، باستثناء الفتات، وتستمر في حصارها غير القانوني على غزة.

كما يأتي هذا في وقت كثفت إسرائيل من حصارها وضرباتها الجوية وقصفها على القطاع والبنية التحتية المدنية والمستشفيات، وارتفاع عدد الشهداء من المدنيين، خصوصاً الأطفال حيث فاق عددهم الألفين. وفي الوقت نفسه، زاد عدد الأصوات التي تطالب بوقف إطلاق النار داخل الولايات المتحدة من نشطاء وتظاهرات مستمرة، مما اضطر وسائل إعلام رئيسية أميركية لأخذ ذلك بعين الاعتبار واضطرارها لتقديم تغطيات حوله.

تحوّل نسبي يضغط على إسرائيل

في المقابل، بدأ الجانب الإسرائيلي وحتى مسؤولون أميركيون يشعرون بالضغط من تصاعد الأصوات التي تستنكر أعداد القتلى من المدنيين والحديث عن مذبحة بحق الفلسطينيين. ولكنهم، كما حدث منذ البداية، لجأوا إلى مفردات وأساليب خطاب الحرب على الإرهاب بالمماهاة بين "حماس" و"داعش"، وتصوير الحرب على أنها حرب "الحضارة ضد البربرية". وبدأوا باستراتيجية جديدة تشكك بصحة الأرقام لأن عدد الشهداء من المدنيين كبير جداً، خصوصاً الأطفال الذين فاق عددهم الألفي طفل شهيد، في محاولة جديدة لتشتيت الأنظار.

بدأ الإسرائيليون والأميركيون باستراتيجية جديدة تشكك بصحة الأرقام في غزة، لأن عدد الشهداء من المدنيين كبير جداً

كما يأتي هذا الهجوم على غوتيريس في وقت بدأ الإعلام الأميركي السائد يتحول نسبياً في سرديته، وإن كان ليس بالمستوى المطلوب، لكنه يحاول مجاراة الضغط من النشطاء والمنظمات غير الحكومية لتقديم سردية تؤنسن الفلسطيني. فإسرائيل ومعها الولايات المتحدة تستشعران أن البساط ينسحب من تحتهما، ليس فقط في الحديث عن الهجمات على غزة وهذا الكم الهائل من الضحايا، بل حتى في الحديث عن المخطوفين. وصادفت الهجمات الإسرائيلية على غوتيريس انتشار كلام الأسيرة الإسرائيلية لدى "حماس" يوشيفيد ليفشيتز التي أعلنت بعد الإفراج عنها أن المقاومة الفلسطينية تعاملت معها بشكل إنساني. بل إن صورة السيدة وهي تصافح أحد المقاتلين الفلسطينيين كانت أقوى من أي لغة أو خطابات لماكينة الإعلام الإسرائيلي.

حتى اليوم، ومنذ بدء العدوان على غزة وحتى قبله، لم يقم غوتيريس بشكل واضح وصريح بإدانة مقتل المدنيين الفلسطينيين. وعند سؤال "العربي الجديد" في أكثر من مناسبة لماذا لا يقوم بذلك، كانت الإجابة من قبل المتحدث باسمه ستيفان دوجاريك، بأنه يدين "مقتل كل المدنيين"، من دون أن يسمي الضحية الفلسطينية باسمها، في وقت يدين مقتل المدنيين الإسرائيليين وبصراحة في أكثر من مناسبة.

وغوتيريس كان قد رفض وضع إسرائيل في "قائمة العار" لانتهاكات عام 2022 في ما يخص الانتهاكات ضد الأطفال في تقريره حول النزاعات المسلحة، وكل هذا على الرغم من أنها أتت في المرتبة الثانية عالمياً بعد بوركينا فاسو من ناحية عدد الانتهاكات ضد الأطفال. وهو الأمين العام الذي تهاجمه إسرائيل لأنه ارتكب الجرم الأكبر، بإشارة بسيطة إلى أن ما حدث بغزة وهجمات "حماس" لها سياق تاريخي.

لعل من الأفضل قراءة الهجوم على غوتيريس من خلال فهم توظيف خطاب الحرب "ضد الإرهاب" الذي استخدمته الولايات المتحدة وغيرها، الذي يشتت الأنظار ويخرج الأمور عن سياقها التاريخي والسياسي ويدخل الجدال في دوامة ثنائيات وصراع الحضارات، وهذا بالضبط ما تريد إسرائيل القيام به لشرعنة جرائمها.

المساهمون