النظام الرسمي العربي والحرب على غزة

26 نوفمبر 2023
رفع العلم الفلسطيني في البصرة دعما لفلسطين (حيدر محمد علي/Getty)
+ الخط -

لا تمكن قراءة المواقف العربية الرسمية من الحرب على غزّة؛ التي يتراوح معظمها بين الصمت والخذلان والعجز، دون الإحاطة أوّلاً بحالة النظم وطبيعتها في الوقت الراهن، وثانيًا بموقفها من القضية الفلسطينية عامّةً؛ الذي تراجع منذ عقدين، ومن المقاومة، التي لا تلقّى ترحيبًا من معظم دول المنطقة، لأسبابٍ مختلفةٍ. وثالثًا موقع الحرب الحالية، وتأثيرها على مصالح النظم، وما تحمله من مخاطر سياسيةٍ واقتصاديةٍ، في ضوء ظروفها الذاتية، وارتباطاتها الدولية والإقليمية، إذ ترتبط مصالح معظم دول المنطقة بالولايات المتّحدة، بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الارتباط.

بناء على هذه المحددات، يمكن تقيم وفهم المواقف الحالية؛ بل والمستقبلية، خاصّةً أنّ هناك مسارًا جديدًا للقضية الفلسطينية، بدأ مع معركة السابع من أكتوبر، الممتدّة فصولها، والتي لن تتوقف تأثيراتها حتّى مع تغيراتٍ ميدانيةٍ، بينها التوصّل إلى هدنةٍ، وتبادلٍ للأسرى، ضمن القضايا محل الخلاف وضع غزّة بعد الحرب، وتهجير سكانها، وهي ليست منفصلةً عن مشروعات التسوية التي يعاد طرحها الآن.

تتفاوت مواقف الدول العربية من الحرب، ومدى ارتباطها وتأثرها بتفاعلاتها ونتائجها، فهناك دولٌ ذات اهتمامٍ وفاعليةٍ، وأخرى أقلّ اهتمامًا، بناءً على محددات الجغرافيا السياسة للصراع، وتاريخ المواجهات السابقة؛ كما حالات مصر والأردن ولبنان وسورية، وتأثيرات إيران في المنطقة، ضمن القوى الإقليمية التقليدية، تركيا ومصر وإسرائيل والسعودية، إضافةً إلى تأثيرات الاقتصاد السياسي للحرب.

لم تستطع كلّ الدول المجتمعة أن تضغط لإدخال الوقود، بعد مرور 40 يومًا من الحرب

وهناك دولٌ نظرًا لظروفها الاقتصادية، والصراعات المحتدمة حدّ الحرب، تنكفئ على نفسها، بينها السودان وجيبوتي والصومال، الأخيرتان لم تؤثرا على القضية الفلسطينية على مدار عقودٍ سابقةٍ.
أما اليمن وليبيا، فكلاهما في صراعٍ داخليٍ، ومع ذلك موقفهما أفضل حالًا من سواهما، إذ انخرط اليمن في الصراع عبر الحوثيين، وهدد البرلمان الليبي بخفض إنتاج النفط، ومنع تصديره لداعمي الاحتلال، لكن يرتبط موقفهما جزئيًا بالصراع الداخلي فيهما.

في حين يلاحظ تفاوتٌ نسبيٌ في مواقف باقي النظم العربية من عدوان الاحتلال على غزّة، وكذلك في الموقف من المقاومة، ومخططات التهجير، وفي اتخاذ موقفٍ من الحرب، ومن مستقبل غزّة.

رفضت معظم الخطابات الدبلوماسية الحرب، تحت مسميات "العقاب الجماعي"، لكن هناك إدانةٌ للمقاومة، انطلاقًا من رفض الهجوم على "المدنيين الإسرائيليين". تأتي الإدانة مباشرةً، كما ظهر في بيان الخارجية الإماراتية؛ 8 أكتوبر الماضي، في ساحات الأمم المتّحدة، بما فيها اجتماع 24 أكتوبر، الذي اعتبرت خلاله سفيرة الإمارات الاحتلال نزاعًا، وردت الصراع إلى ما وصفته بجرائم حماس البربرية، التي تقوض التعايش السلمي والسلام، لكنها استدركت قائلةً، بأنً جرائم حماس لا تبرر العقاب الجماعي تجاه قطاع غزّة، وعدم احترام قوانين الحرب، ما يعني ضمنيًا الموافقة على التوحش الإسرائيلي، وسحق المقاومة.

كما كشف موقع أكسيوس الاستخباراتي عن اتصالاتٍ تحمل تحذيرًا إماراتيًا لسورية، من المشاركة في الهجوم على إسرائيل، عبر مجموعاتٍ في أراضيها، ضمن تحركاتٍ للحدّ من احتمالية توسع جبهات الهجوم على إسرائيل، من اليمن والعراق ولبنان وسورية، وهي مناطق نفوذٍ إيرانيٍ.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

دوليًا؛ سعت الإمارات إلى التأثير على مواقف دولٍ أخرى، من بينها الهند، التي تشاركها مشروعاتٍ تنخرط فيها إسرائيل والسعودية، منها ممرٌ اقتصاديٌ يربط المحيط الهندي بشرق المتوسط. أما الإدانة غير المباشرة، فتتضمّن خطاباتٍ تحمّل المقاومة تبعات عملية "طوفان الأقصى"، وكأن الاحتلال ينتظر تحركات حماس ليشن حربًا جديدةً. إضافةً إلى ذلك، نادرًا ما وصف "طوفان الأقصى" بوصفه دفاعًا عن النفس، وبحثًا عن الأمل، وكسرًا لسجون الحصار، وردًا على الانتهاكات ضدّ الفلسطينيين في غزّة والضفّة.

كلّ الخطابات العربية؛ دون استثناءٍ، تجاهلت أنّ عملية طوفان الأقصى، قد استهدفت بالأساس قواعد عسكريةً في غلاف غزّة، كما أن طيران الاحتلال، ورصاص جنوده العشوائي، قد قتل عددًا من مستوطنيه في غلاف غزّة، كما قتل قصف إسرائيل المستمرّ على قطاع غزّة عددًا من أسراه لدى حماس.

لا تمكّن رؤية المواقف العربية من الحرب، دون النظر إلى إسرائيل، ودورها، وتحالفها مع الولايات المتّحدة في منظومةٍ استعماريةٍ تستهدف الهيمنة على المنطقة، عبر استراتيجيةٍ أميركيةٍ تستهدف تأمين حركة التجارة، وتدفق النفط بأسعارٍ مقبولةٍ، والاستيلاء على فوائض دول الخليج المالية، التي تستثمر بعضًا من ثرواتها في الولايات المتّحدة، ودولٍ أوروبيةٍ، وهي بذلك مندمجةٌ؛ من منظور الاقتصاد السياسي، مع منظومة الهيمنة، وتؤسس بعض مواقفها، ضمن مصالحٍ مع واشنطن، والعواصم الأوروبية، حليفة تلّ أبيب.

هذا إلى جانب تبعيةٍ سياسيةٍ للولايات المتّحدة، تتكامل مع موجة تطبيعٍ "اتّفاقيات أبراهام"، التي أدخلت المنخرطين فيها في علاقاتٍ وثيقةٍ مع إسرائيل، بينها تعاونٌ دفاعيٌ، وتدريباتٌ عسكريةٌ، ومشروعاتٌ اقتصاديةٌ.

تتفاوت مواقف الدول العربية من الحرب، ومدى ارتباطها وتأثرها بتفاعلاتها ونتائجها، فهناك دولٌ ذات اهتمامٍ وفاعليةٍ

لذا لم يكن مستغربًا، أن يساهم المطبّعون الجدد، الإمارات والبحرين والمغرب مع السعودية؛ في عرقلة صياغة موقفٍ عربيٍ متوازنٍ، في اجتماعٍ مشتركٍ للجامعة العربية، ومنظّمة التعاون الإسلامي، حسب ما كشفت مصادر حول مداولات صياغة بيان القمة الختامي، الذي جاء إنشائيًا وحماسيًا، لكنه خالٍ من المواقف العملية، لوقف التهجير، ورفع الحصار عن سكان القطاع، أو لمنع جرائم حصار المستشفيات وقصفها.

لم تتضمّن الخطابات الرسمية حقّ الفلسطينيين المشروع في الدفاع عن النفس، كالممنوح لإسرائيل، ولم يلحظ اصطفاف على مستوى الخطاب مع المقاومة؛ مع استثناءاتٍ محدودةٍ كتركيا وإيران. إذ تركزت معظم الخطابات على وقف القتال، ومحاسبة إسرائيل دوليًا على انتهاكاتها، وتسهيل وصول المساعدات، التي عجزت الدول العربية في ممارسة الضغوط لوصولها عبر معبر رفح، إلّا بعد اندلاع الحرب على غزّة بأسبوعين (في 21 أكتوبر).

عمليًا، لم تستطع كلّ الدول المجتمعة أن تضغط لإدخال الوقود، بعد مرور 40 يومًا من الحرب، إذ وصلت شحناتٌ محدودةٌ لهيئات الأمم المتّحدة فقط، مع بقاء الوضع كما هو؛ ندرةٌ في الغذاء والماء، وانقطاع الكهرباء. وبهذا العجز تشارك دول المنطقة إسرائيل في حصارها غزّة.

نجاحات فصائل المقاومة الميدانية تعني إحياء خيار المقاومة سبيلًا للتحرر، وهو ما يتعارض مع حالة الاستسلام العربي، وأهداف المطبّعين، ويفتح مجالًا يهدد مخططاتهم الاقتصادية، وطموح بعضها لقيادة المنطقة العربية بالتحالف مع تلّ أبيب.

تزامن طوفان الأقصى مع استعداد السعودية لصفقة تطبيعٍ منفردةٍ، كان العائق أمام إتمامها برعاية واشنطن، مرتبطًا بحجم المكاسب، بما فيها تسليح الجيش السعودي، والبرنامج النووي، وجعل الرياض حليفًا، وضمان الدفاع عن أمن المملكة.

بينما رفض كلٌّ من مصر والأردن التهجير، بعدما أعلن جيش الاحتلال عنه خيارًا، مطالبًا سكان القطاع في يوم 13 أكتوبر بالنزوح إلى جنوب القطاع. إذ أعلنت الأردن على لسان وزير خارجيتها، أنّ التهجير يمثّل إعلان حربٍ. ورفضته مصر مرارًا في زياراتٍ لمسؤولي المخابرات والخارجية الأميركية، والأطراف الأوروبية، وعبأت الرأي العامّ ضدّه. أمام الضغوط للتهجير الدائم أو المؤقت، تحاول الدولتان التصدّي للفكرة ذاتها.

بعد تصريح الرئيس المصري عن إمكانية تهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب بدلًا من سيناء، وضحَ الموقف الرسمي المصري لاحقًا، عبر الإعلان عن رفض التهجير لأيّ مكانٍ، على اعتباره تصفيةً للقضية الفلسطينية. ثم أتضحَ أنّ مقترح التهجير إلى النقب كان ضمن أطروحاتٍ أميركيةٍ نشرت عنها مجلة إيكونومست.

عمومًا، تأسس النظام الرسمي العربي مع تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، وكانت فلسطين إحدى قضاياه المركزية، لذا عكست حرب غزّة مرحلته الأخيرة، وأسدلت الستار عن انتهاء وجود حقيقي، أو مهمة وظيفية، تحقق تعاونًا وتعاضدًا بين مكوّناته. كما كشفت الحرب عن قدر التفتت، وواقع النظم العربية المليء بالتناقضات، والمصالح، والتنافس القُطري، وتأثيراتٍ سلبيةٍ لخرائط التحالفات، وموجات التطبيع، وربّما يكون النداء الأخير من مواطني غزّة للعرب، تأكيدًا لما سبق، وإدراكًا لحال ومواقف حكام دول الجيران والأشقاء.

الحرب على غزّة لا تخص النظم العربية، إنّما تبحث بعض أقطارها عن تقليل مخاطرها، بل بعضها يعتبر الحرب فرصةً للقضاء على حماس، في تكرارٍ لأخطاءَ سابقةٍ، ارتكبتها نظمٌ عربيةٌ، بما فيها المسماة قوميةً، التي ادعت مساندة الشعب الفلسطيني!

المساهمون